خبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب ، أي:بينات واضحات الدلالة ، لا التباس فيها على أحد من الناس ، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم ، فمن رد ما اشتبه عليه إلى الواضح منه ، وحكم محكمه على متشابهه عنده ، فقد اهتدى . ومن عكس انعكس ، ولهذا قال تعالى:( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب ) أي:أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه ( وأخر متشابهات ) أي:تحتمل دلالتها موافقة المحكم ، وقد تحتمل شيئا آخر من حيث اللفظ والتركيب ، لا من حيث المراد .
وقد اختلفوا في المحكم والمتشابه ، فروي عن السلف عبارات كثيرة ، فقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس [ أنه قال] المحكمات ناسخه ، وحلاله وحرامه ، وحدوده وفرائضه ، وما يؤمر به ويعمل به .
وكذا روي عن عكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، ومقاتل بن حيان ، والربيع بن أنس ، والسدي أنهم قالوا:المحكم الذي يعمل به .
وعن ابن عباس أيضا أنه قال:المحكمات [ في] قوله تعالى:( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا ) [ الأنعام:151] والآيتان بعدها ، وقوله تعالى:( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) [ الإسراء:23] إلى ثلاث آيات بعدها . رواه ابن أبي حاتم ، وحكاه عن سعيد بن جبير [ ثم] قال:حدثنا أبي ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد ، عن إسحاق بن سويد أن يحيى بن يعمر وأبا فاختة تراجعا في هذه الآية:( هن أم الكتاب ) فقال أبو فاختة:فواتح السور . وقال يحيى بن يعمر:الفرائض ، والأمر والنهي ، والحلال والحرام .
وقال ابن لهيعة ، عن عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جبير:( هن أم الكتاب ) يقول:أصل الكتاب ، وإنما سماهن أم الكتاب ، لأنهن مكتوبات في جميع الكتب .
وقال مقاتل بن حيان:لأنه ليس من أهل دين إلا يرضى بهن .
وقيل في المتشابهات:إنهن المنسوخة ، والمقدم منه والمؤخر ، والأمثال فيه والأقسام ، وما يؤمن به ولا يعمل به . رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس .
وقيل:هي الحروف المقطعة في أوائل السور ، قاله مقاتل بن حيان .
وعن مجاهد:المتشابهات يصدق بعضهن بعضا . وهذا إنما هو في تفسير قوله:( كتابا متشابها مثاني ) [ الزمر:23] هناك ذكروا:أن المتشابه هو الكلام الذي يكون في سياق واحد ، والمثاني هو الكلام في شيئين متقابلين كصفة الجنة وصفة النار ، وذكر حال الأبرار ثم حال الفجار ، ونحو ذلك ، فأما هاهنا فالمتشابه هو الذي يقابل المحكم .
وأحسن ما قيل فيه الذي قدمناه ، وهو الذي نص عليه محمد بن إسحاق بن يسار ، رحمه الله ، حيث قال:( منه آيات محكمات هن أم الكتاب ) فيهن حجة الرب ، وعصمة العباد ، ودفع الخصوم والباطل ، ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه .
قال:والمتشابهات في الصدق ، لهن تصريف وتحريف وتأويل ، ابتلى الله فيهن العباد ، كما ابتلاهم في الحلال والحرام ألا يصرفن إلى الباطل ، ولا يحرفن عن الحق .
ولهذا قال تعالى:( فأما الذين في قلوبهم زيغ ) أي:ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل ( فيتبعون ما تشابه منه ) أي:إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة ، وينزلوه عليها ، لاحتمال لفظه لما يصرفونه ، فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه ، لأنه دامغ لهم وحجة عليهم ، ولهذا قال:( ابتغاء الفتنة ) أي:الإضلال لأتباعهم ، إيهاما لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن ، وهذا حجة عليهم لا لهم ، كما لو احتج النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى هو روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم ، وتركوا الاحتجاج بقوله [ تعالى] ( إن هو إلا عبد أنعمنا عليه ) [ الزخرف:59] وبقوله:( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ) [ آل عمران:59] وغير ذلك من الآيات المحكمة المصرحة بأنه خلق من مخلوقات الله ، وعبد ورسول من رسل الله .
وقوله:( وابتغاء تأويله ) أي:تحريفه على ما يريدون ، وقال مقاتل والسدي:يبتغون أن يعلموا ما يكون وما عواقب الأشياء من القرآن .
وقد قال الإمام أحمد:حدثنا إسماعيل ، حدثنا أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة ، عن عائشة قالت:قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات [ فأما الذين في قلوبهم زيغ] ) إلى قوله:( أولو الألباب ) فقال:"فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم .
هكذا وقع هذا الحديث في مسند الإمام أحمد ، رحمه الله ، من رواية ابن أبي مليكة ، عن عائشة ، ليس بينهما أحد .
وهكذا رواه ابن ماجه من طريق إسماعيل ابن علية وعبد الوهاب الثقفي ، كلاهما عن أيوب ، عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة ، عنها .
ورواه محمد بن يحيى العبدي في مسنده عن عبد الوهاب الثقفي ، عن أيوب ، به . وكذا رواه عبد الرزاق ، عن معمر عن أيوب . وكذا رواه غير واحد عن أيوب . وقد رواه ابن حبان في صحيحه ، من حديث أيوب ، به .
وتابع أيوب أبو عامر الخزاز وغيره عن ابن أبي مليكة ، فرواه الترمذي عن بندار ، عن أبي داود الطيالسي ، عن أبي عامر الخزاز ، فذكره . وهكذا رواه سعيد بن منصور في سننه ، عن حماد بن يحيى الأبح ، عن عبد الله بن أبي مليكة ، عن عائشة . ورواه ابن جرير ، من حديث روح بن القاسم ونافع بن عمر الجمحي ، كلاهما عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة ، به . وقال نافع في روايته عن ابن أبي مليكة:حدثتني عائشة ، فذكره .
وقد روى هذا الحديث البخاري ، رحمه الله ، عند تفسير هذه الآية ، ومسلم في كتاب القدر من صحيحه ، وأبو داود في السنة من سننه ، ثلاثتهم ، عن القعنبي ، عن يزيد بن إبراهيم التستري ، عن ابن أبي مليكة ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت:تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم:( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات [ هن أم الكتاب وأخر متشابهات] ) إلى قوله:( وما يذكر إلا أولو الألباب ) قالت:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم "لفظ البخاري .
وكذا رواه الترمذي أيضا ، عن بندار ، عن أبي داود الطيالسي ، عن يزيد بن إبراهيم التستري ، به . وقال:حسن صحيح . وذكر أن يزيد بن إبراهيم التستري تفرد بذكر القاسم في هذا الإسناد ، وقد رواه غير واحد عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة ، ولم يذكروا القاسم . كذا قال .
ورواه ابن المنذر في تفسيره من طريقين عن النعمان بن محمد بن الفضل السدوسي - ولقبه عارم - حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا أيوب ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة ، به .
وقد رواه ابن أبي حاتم فقال:حدثنا أبي ، حدثنا أبو الوليد الطيالسي ، حدثنا يزيد بن إبراهيم التستري وحماد بن سلمة ، عن ابن أبي مليكة ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة قالت:سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل:( فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله ، فاحذروهم ".
وقال ابن جرير:حدثنا علي بن سهل حدثنا الوليد بن مسلم ، عن حماد بن سلمة ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة قالت:نزع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية:( فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قد حذركم الله ، فإذا رأيتموهم فاعرفوهم ". ورواه ابن مردويه من طريق أخرى ، عن القاسم ، عن عائشة به .
وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو كامل ، حدثنا حماد ، عن أبي غالب قال:سمعت أبا أمامة يحدث ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:( فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ) قال:"هم الخوارج "، وفي قوله:( يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ) . [ آل عمران:106] قال:"هم الخوارج ".
وقد رواه ابن مردويه من غير وجه ، عن أبي غالب ، عن أبي أمامة مرفوعا ، فذكره .
وهذا الحديث أقل أقسامه أن يكون موقوفا من كلام الصحابي ، ومعناه صحيح ، فإن أول بدعة وقعت في الإسلام فتنة الخوارج ، وكان مبدؤهم بسبب الدنيا حين قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم حنين ، فكأنهم رأوا في عقولهم الفاسدة أنه لم يعدل في القسمة ، ففاجئوه بهذه المقالة ، فقال قائلهم - وهو ذو الخويصرة - بقر الله خاصرته - اعدل فإنك لم تعدل ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل ، أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني ". فلما قفا الرجل استأذن عمر بن الخطاب - وفي رواية:خالد بن الوليد - [ ولا بعد في الجمع] - رسول الله في قتله ، فقال:"دعه فإنه يخرج من ضئضئ هذا - أي:من جنسه - قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، وقراءته مع قراءتهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم .
ثم كان ظهورهم أيام علي بن أبي طالب ، وقتلهم بالنهروان ، ثم تشعبت منهم شعوب وقبائل وآراء وأهواء ومقالات ونحل كثيرة منتشرة ، ثم نبعت القدرية ، ثم المعتزلة ، ثم الجهمية ، وغير ذلك من البدع التي أخبر عنها الصادق المصدوق في قوله:"وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة "قالوا:[ من] هم يا رسول الله ؟ قال:"من كان على ما أنا عليه وأصحابي "أخرجه الحاكم في مستدركه بهذه الزيادة .
وقال الحافظ أبو يعلى:حدثنا أبو موسى ، حدثنا عمرو بن عاصم ، حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، عن قتادة ، عن الحسن عن جندب بن عبد الله أنه بلغه ، عن حذيفة - أو سمعه منه - يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر:"إن في أمتي قوما يقرءون القرآن ينثرونه نثر الدقل ، يتأولونه على غير تأويله ". [ لم] يخرجوه .
[ وقوله] ( وما يعلم تأويله إلا الله ) اختلف القراء في الوقف هاهنا ، فقيل:على الجلالة ، كما تقدم عن ابن عباس أنه قال:التفسير على أربعة أنحاء:فتفسير لا يعذر أحد في فهمه ، وتفسير تعرفه العرب من لغاتها ، وتفسير يعلمه الراسخون في العلم ، وتفسير لا يعلمه إلا الله عز وجل . ويروى هذا القول عن عائشة ، وعروة ، وأبي الشعثاء ، وأبي نهيك ، وغيرهم .
وقد قال الحافظ أبو القاسم في المعجم الكبير:حدثنا هاشم بن مرثد حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش ، حدثني أبي ، حدثني ضمضم بن زرعة ، عن شريح بن عبيد ، عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خلال:أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا ، وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله ، ( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به [ كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب] ) الآية ، وأن يزداد علمهم فيضيعوه ولا يبالون عليه "غريب جدا . وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه:حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، أخبرنا أحمد بن عمرو ، أخبرنا هشام بن عمار ، أخبرنا ابن أبي حاتم عن أبيه ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن ابن العاص ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا ، فما عرفتم منه فاعملوا به ، وما تشابه منه فآمنوا به ".
وقال عبد الرزاق:أنبأنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه قال:كان ابن عباس يقرأ:"وما يعلم تأويله إلا الله ، ويقول الراسخون:آمنا به "وكذا رواه ابن جرير ، عن عمر بن عبد العزيز ، ومالك بن أنس:أنهم يؤمنون به ولا يعلمون تأويله . وحكى ابن جرير أن في قراءة عبد الله بن مسعود:"إن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به ". وكذا عن أبي بن كعب . واختار ابن جرير هذا القول .
ومنهم من يقف على قوله:( والراسخون في العلم ) وتبعهم كثير من المفسرين وأهل الأصول ، وقالوا:الخطاب بما لا يفهم بعيد .
وقد روى ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس أنه قال:أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله . وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد:والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به . وكذا قال الربيع بن أنس .
وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير:( وما يعلم تأويله ) الذي أراد ما أراد ( إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به ) ثم ردوا تأويل المتشابه على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد ، فاتسق بقولهم الكتاب ، وصدق بعضه بعضا ، فنفذت الحجة ، وظهر به العذر ، وزاح به الباطل ، ودفع به الكفر .
وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس فقال:"اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ".
ومن العلماء من فصل في هذا المقام ، فقال:التأويل يطلق ويراد به في القرآن معنيان ، أحدهما:التأويل بمعنى حقيقة الشيء ، وما يئول أمره إليه ، ومنه قوله تعالى:( ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا ) [ يوسف:100] وقوله ( هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله ) [ الأعراف:53] أي:حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد ، فإن أريد بالتأويل هذا ، فالوقف على الجلالة ، لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمه على الجلية إلا الله عز وجل ، ويكون قوله:( والراسخون في العلم ) مبتدأ و ( يقولون آمنا به ) خبره . وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر وهو التفسير والتعبير والبيان عن الشيء كقوله تعالى:( نبئنا بتأويله ) [ يوسف:36] أي:بتفسيره ، فإن أريد به هذا المعنى ، فالوقف على:( والراسخون في العلم ) لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار ، وإن لم يحيطوا علما بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه ، وعلى هذا فيكون قوله:( يقولون آمنا به ) حالا منهم ، وساغ هذا ، وهو أن يكون من المعطوف دون المعطوف عليه ، كقوله:( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم ) إلى قوله:( [ والذين جاءوا من بعدهم] يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا [ الذين سبقونا بالإيمان] ) الآية [ الحشر:8 - 10] ، وكقوله تعالى:( وجاء ربك والملك صفا صفا ) [ الفجر:22] أي:وجاءت الملائكة صفوفا صفوفا .
وقوله إخبارا عنهم أنهم ( يقولون آمنا به ) أي:بالمتشابه ( كل من عند ربنا ) أي:الجميع من المحكم والمتشابه حق وصدق ، وكل واحد منهما يصدق الآخر ويشهد له ، لأن الجميع من عند الله وليس شيء من عند الله بمختلف ولا متضاد لقوله:( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) [ النساء:82] ولهذا قال تعالى:( وما يذكر إلا أولو الألباب ) أي:إنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها أولو العقول السليمة والفهوم المستقيمة .
وقد قال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن عوف الحمصي ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا فياض الرقي ، حدثنا عبد الله بن يزيد - وكان قد أدرك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:أنسا ، وأبا أمامة ، وأبا الدرداء ، رضي الله عنهم ، قال:حدثنا أبو الدرداء ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الراسخين في العلم ، فقال:"من برت يمينه ، وصدق لسانه ، واستقام قلبه ، ومن أعف بطنه وفرجه ، فذلك من الراسخين في العلم ".
وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن الزهري ، عن عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جده قال:سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما يتدارءون فقال:"إنما هلك من كان قبلكم بهذا ، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض ، وإنما أنزل كتاب الله ليصدق بعضه بعضا ، فلا تكذبوا بعضه ببعض ، فما علمتم منه فقولوا ، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه ".
و [ قد] تقدم رواية ابن مردويه لهذا الحديث ، من طريق هشام بن عمار ، عن ابن أبي حازم عن أبيه ، عن عمرو بن شعيب ، به .
وقد قال الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده ، حدثنا زهير بن حرب ، حدثنا أنس بن عياض ، عن أبي حازم ، عن أبي سلمة قال:لا أعلمه إلا عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"نزل القرآن على سبعة أحرف ، والمراء في القرآن كفر - ثلاثا - ما عرفتم منه فاعملوا به ، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه ".
وهذا إسناد صحيح ، ولكن فيه علة بسبب قول الراوي:"لا أعلمه إلا عن أبي هريرة ".
وقال ابن المنذر في تفسيره:أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، أخبرنا ابن وهب قال:أخبرني نافع بن يزيد قال:يقال:الراسخون في العلم المتواضعون لله ، المتذللون لله في مرضاته ، لا يتعاطون من فوقهم ، ولا يحقرون من دونهم . [ ولهذا قال تعالى:( وما يذكر إلا أولو الألباب ) أي:إنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها أولو العقول السليمة أو الفهوم المستقيمة] .