ثم استدل عليه باستئناف مثله على سبيل الالتفات فقال:{ هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء} الأرحام:هو جمع رحم وهو مستودع الجنين من المرأة .ومن عرف ما في تصوير الأجنة في الأرحام من الحكم والنظام على أنه يستحيل أن يكون بالمصادفة والاتفاق ، وأذعن بأن ذلك فعل عالم خبير بالدقائق ، حكيم يستحيل عليه العبث ، عزيز لا يغلب على ما قضى به علمه وتعلقت به إرادته ، واحد لا شريك له في إبداعه{ لا إله إلا هو العزيز الحكيم} .
وإذا فهمت معنى هذه الآيات في نفسها ، فاعلم أن المفسرين قالواكما أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر:إنها نزلت وما بعدها إلى نحو ثمانين آية في نصارى نجران ، إذ وفدوا على رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم وكانوا ستين راكبا فذكروا عقائدهم واحتجوا على التثليت وألوهية المسيح بكونه خلق على غير السنة التي عرفت في توالد البشر ، وبما جرى على يديه من الآيات وبالقرآن نفسه فأنزل الله هذه الآيات .وقد ذكر ذلك الأستاذ الإمام غير جازم به وأشار إلى وجه الرد عليهم في تفسيرها ، ولم يزد على ذلك إلا ما ذكرناه عنه في تفسير التوراة والإنجيل والفرقان ، أما ما قاله في توجيه الرد عليهم فهو:بدأ بذكر توحيد الله ليفي عقيدتهم من أول الأمر ثم وصفه بما يؤكد هذا النفي كقوله"الحي القيوم "، أي الذي قامت به السموات والأرض ، وهي قد وجدت قبل عيسى فكيف تقوم به قبل وجوده ؟
ثم قال إنه نزل الكتاب وأنزل التوراة لبيان أن الله تعالى قد أنزل الوحي وشرع الشريعة قبل وجود عيسى كما أنزل عليه وأنزل على من بعده ، فلم يكن هو المنزل للكتب على الأنبياء وإنما كان نبيا مثلهم ، وقوله"وأنزل الفرقان "لبيان أنه هو الذي وهب العقل للبشر ليفرقوا بين الحق والباطل ، وعيسى لم يكن واهبا للعقول .وفيه تعريض بأن السائلين تجاوزوا حدود العقل .
أقول وفي هذا وما قبله شيء آخر وهو:الإشعار بأن ما أنزله الله تعالى من الكتب والفرقان يدل على إثبات الوحدانية لله تعالى وتنزيهه عن الولد والحلول أو الاتحاد بأحد أو بشيء من الحوادث .قال:وقوله:{ إن الله لا يخفى عليه شيء} رد لاستدلالهم على ألوهية عيسى باخباره عن بعض المغيبات ، فهو يثبت أن الإله لا يخفى عليه شيء مطلقا سواء كان في هذا العالم أو غيره من العوالم السماوية .وعيسى لم يكن كذلك .وقوله{ هو الذي يصوركم} إلخ رد لشبهتهم في ولادة عيسى من غير أب ، أي إن الولادة من غير أب ليست دليلا على الألوهية ، فالمخلوق عبد كيفما خلق ، وإنما الإله هو الخالق الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ، وعيسى لم يصور أحدا في رحم أمه .ولذلك صرح بعد هذا بكلمة التوحيد وبوصفه تعالى بالعزة والحكمة .أقول:ولا يخفى ما في ذكر الأرحام من التعريض بأن عيسى تكون وصور في الرحم كغيره من الناس .