{ ومن لم يستطع منكم طولا ان ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله اعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخذان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وان تصبروا خير لكم والله غفور رحيم25}
{ ومن لم يستطع منكم طولا ان ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} المحصنات الحرائر ، والفتيات الإماء ، فإن الإسلام لا يعبر عن العبد إذا أضيف إلى مولاه بالعبد ، بل يعبر عنه بالفتى ، وهذا من أدب الإسلام وتكريم الإنسان ، ولذا ورد في الحديث الصحيح:"لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي ولكن ليقل فتاي وفتاتي"{[700]} . كما نهى النبي العبد عن ان يقول:سيدي وسيدتي ، بل يقول:مولاي ومولاتي . والطول:القدرة والسعة في المال والجسم ، ومعنى ملك اليمين ، ان تكون في ملكه ، وعبر باليمين لإفادة السلطان ، فإن يمين الرجل مظهر قوته ، وبها يكون الصفق في البياعات ، فأضيف الملك إليها لأنها سببه . والآية بمضمونها أفادت أنه لا يحل الزواج من الإماء إلا إذا لم يكن في طوله ان يتزوج حرة . وقد اختلف الفقهاء في حدود الطول والقدرة ، فقال أبو حنيفة:الطول ان يكون متزوجا حرة ، فمن كان عنده حرة لا يجوز أن يتزوج امة ، وإن عقد كان عقده باطلا . وقال مالك:الطول السعة والقدرة على المهر والنفقة ، فمن عجز عن مهر الحرة ونفقتها وهو قادر على الزواج من امة فإنه يجوز له زواج الأمة ، ولو كانت عنده حرة . وقال الشافعي ، وهو قول عند مالك:إنه يجوز له زواج الأمة بشرطين ، احدهما:عدم القدرة على زواج الحرة ، والثاني:ان يخشى العنت أي المشقة الشديدة إن لم يتزوجها . وفسر بعض العلماء عدم الطول بان يتعلق بها وتهواها نفسه ، بحيث يخشى على نفسه ان يقع معها في زنا إن لم يتزوجها .
واشترط الشافعي ومالك واحمد لإباحة زواج الأمة ان تكون مؤمنة كنص الآية ، وابو حنيفة أباح الزواج من الأمة الكتابية إن لم يكن عنده حرة . وشدد الإسلام في إباحة الزواج من الإماء لحمل المالكين على عتقهن ، فمن رغب في أمة فليشترها ، وليعتقها ثم يتزوجها ؛ ولأن الولد يتبع أمه في الرق ، فلمنع كثرة الرقيق قيد الزواج من الإماء بحيث لا يدخل بهن إلا أولياؤهن فيكون الولد حرا ، ويعتق أمه ، كما هو مدون في الفقه ، او تعتق ثم يكون الزواج منها .
{ والله اعلم بإيمانكم بعضكم من بعض} هذه جملة معترضة بين إباحة نكاح الفتيات المؤمنات ، وصورة العقد عليهن . وهذه الجملة السامية فيها فائدتان:أولاهما:التفتيش النفسي عن القلب ، وما تخفيه الصدور بحيث يكون الشخص دائم التفتيش عن عيوبه ، لأن الله تعالى اعلم بإيماننا منا ، وهو سيحاسبنا على ما يعلم ، وافعل التفضيل في قوله تعالى:"أعلم"على بابه ، فهو اعلم منا بأنفسنا ، او نقول إنه للعلم المطلق الذي لا يصل علم مهما يكن على مقداره ، فيكون افعل التفضيل على غير بابه . والفائدة الثانية:بيان ان الناس جميعا من دم واحد وانه لا يصح أن يستعلى حر على عبد ، ولا حرة على امة ، فإن بعضنا من بعض ، فقوله تعالى:{ بعضكم من بعض} أي أنكم جميعا تضمكم إنسانية واحدة ، وكل له حقوقها وعليه واجباتها . فالعبيد من الأحرار ؛ لنهم من أصل حر ، والأحرار قد يكونون من العبيد ، والله سبحانه وتعالى فوق الجميع بالعدل ، فلا يظلم بعضكم بعضا .
{ فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخذان} النكاح العقد ولا يستعمل في القرآن إلا بهذا المعنى ، والمعنى:فاعقدوا عليهن عقد الزواج بإذن أهلهن ، وأهلهن في هذا المقام هم المالكون لهن . وعبر عن المالكين بالأهل حملا للناس على الأدب في التعبير ، ولأنه يجب ان تكون العلاقة بين العبد ومالكه علاقة اهل لا علاقة رق ، ولذا يجب عليه ان يعطيه كل حقوق قرابته من مأكل ومسكن وملبس ، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إخوانكم خولكم( أي مكنكم الله من رقابهم ) قد ملككم الله إياهم ، ولو شاء لملكهم إياكم ، أطعموهم مما تطعمون ، واكسوهم مما تكسون"{[701]} . وأمر سبحانه وتعالى بإعطاء المهور ، وشدد في ذلك ، وقال{ بالمعروف} أي بالقدر الذي لا يستنكر العرف ، فلا يتخذ من كونها امة سبيلا لغمط حقها ، وتصغير شأنها . وبين ان إعطاء الأجر يكون للأمة نفسها ، وهذا يدل على انها تملكه وهو حقها ، وهي تحتاج إليه في إعداد نفسها للزواج ، وبذلك يثبت ان العبيد اهل للملكية ، وقد أثبتت الملكية للعبيد والإماء – الظاهرية ، وذلك ظاهر القرآن الكريم ، كما تدل الآية الكريمة ، إذ فرقت الآية بين العقد والمهر ، فالعقد يتولاه المولى ، والمهر تعطاه هي .
وقوله:{ محصنات غير مسافحات} حال من قوله:{ فانكحوهن بإذن أهلهن} ، وهنا وصف بالإحصان ، أي العفة ، الزوجات دون الأزواج ، وذلك لأن الزوجات من الإماء ، وهن مظنة الانزلاق ؛ إذ الرق والضعف وفقدان الحرية يكون معها الهوان ، وحيث كان الهوان كانت الرذيلة قريبة ؛ لأنه لا شيء كالهوان يفتح السبيل للشيطان ، ولذلك طالبهن الله تعالى وقد كرمهن بالزواج أن يحصن أنفسهن به ، وان يباعدن السفاح ، ولهذا المعنى كانت الجريمة من الإماء أقل شانا من الجريمة من الحرائر ، وكانت العقوبة عليهن أقل . ومعنى اتخاذ الخدان اتخاذ الخليل الملازم من غير زواج ، ولو باتفاق على مهر ونفقة ، فالخدن هو الخليل ، وهذه هي المتعة التي حرمها القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم .
{ فإذا أحصن فإن أتين لفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} معنى الإحصان هنا الزواج ، فمعنى قوله تعالى:{ فإذا أحصن}إذا تزوجن . وجاء الشرط ب
"إذا"الدالة على تحقق الشرط ، لوقوع ذلك الإحصان وللترغيب فيه ، والفاحشة هنا الزنا ، والعذاب هو الحد ، والمحصنات هنا الحرائر ، وعبر سبحانه في جانب شرط الفاحشة ب"إن"في قوله{ فإن أتين بفاحشة} ، و"إن"تدل على الشك في وقوع الشرط ؛ لأن الفاحشة غير متوقعة وهي امر منفور منه غير متصور أن يكون مرغوبا فيه ، وخصوصا من زوجة حرة او غير حرة .
ومرمى النص الكريم أن الأمة إذا ارتكبت الفحشاء تكون عقوبتها نصف عقوبة الحرة ؛ لأن الجريمة تهون بهوان مرتكبها وتعلو بعلو مرتكبها . وإذا علت الجريمة علت معها العقوبة ، وإذا نقضت معها العقوبة ، وهذا دليل على عدل الشريعة ، وعلو الأحكام الإسلامية عن القانون الروماني وغيره من قوانين أهل الدنيا ، ففي القانون الروماني كان العبد إذا زنا بحرة قتل ، وإذا زنا الشريف حكم عليه بغرامة ، فكان هذا ظلما ، ولكن الإسلام قال إن عقوبة العبد على النصف من عقوبة الحر ، فإذا زنا الحر الشريف جلد مائة أو رجم ، وإذا زنا العبد عوقب بخمسين جلدة{[702]} .
وإن الزواج من الإماء هو عند خشية العنت والمشقة ، ولذلك قال سبحانه:
ذلك لمن خشي العنت منكم وان تصبروا خير لكم والله غفور رحيم} العنت المشقة الشديدة التي يخشى منها التلف او الوقوع في الزنا ، والإشارة في قوله تعالى:ذلك لمن خشي العنت منكم} للزواج من الإماء المنوه عنه بقوله تعالى:{ ومن لم يستطع منكم طولا ان ينكح المحصنات} و( خشي ) معناها خاف من امر متوقع هو قريب من الواقع ، فالرق بين الخوف والخشية ان الخشية تكون من امر متوقع قريب الوقوع او واقع بالفعل ، فكان زواج الإماء لا يباح إلا للضرورة او للحاجة الشديدة ، ومع ذلك فالصبر أولى ، ولذا قال:{ وان تصبروا خير لكم} فتحملوا مشقة الحرمان أولى من زواج الإماء ؛ لأن الولد يكون رقيقا ، وفي ذلك تكثير للرق ،لأنه لا يمكنه ان يقوم على تربيته وشئونه ، ولأنها لا يتكون منها مع بقائها على رقها بيت زوجية صالحة ؛ إذ ستكون مطالبة بخدمة وليها ، فالحياة الزوجية لا تكون كاملة ، ولذا روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال:"الحرائر صلاح البيت ، والإماء هلاك البيت"{[703]} .
ومن هذا يكون السبيل للزواج بهن شراءهن وإعتاقهن ، وبذلك يقل الرقيق ، ويكثر الأحرار ، وإذا دخل بها مولاها كان ابنه حرا وكان سبيلا لحريتها ومنع بيعها ، فيكثر الأحرار . وقد ختم الله سبحانه الآية بقوله:{ والله غفور رحيم} للإشارة إلى عظيم رحمته بعباده فيما شرع ، وإلى عظيم غفرانه لمن يرتكب إثما ثم يتوب ، وإلى أن غفرانه من رحمته ، إنه غفار لمن اهتدى . فاللهم اجعلنا من التوابين الذين ينالون مغفرتك ، إنك انت التواب الرحيم .