{ يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم26 والله يريد ان يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات ان تميلوا ميلا عظيما27 يريد الله ان يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا28}
بين سبحانه في الآيات السابقة المحرمات ، ونبه إلى ما كان يقع فيه أهل الجاهلية من استباحة بعض هذه المحرمات ، كزواجهم ممن كانوا أزواجا لآبائهم ، وكاستباحتهم الجمع بين المرأة وأختها . وفي هذه النص الكريم يبين سبحانه ان ما قرره هو الهداية ، وهو سنة الفطرة ، وهو شريعة النبيين أجمعين . ثم بين سبحانه بالإشارة والعبارة ان تحصين الفروج مطلب ديني سام ، وان الإحصان حماية لمعنى الإنسانية وترفع عن الحيوانية . وفي هذا النص بأهل الإيمان الخير ، ولكن يريدون ان تتحكم الأهواء والشهوات لا يريدون بأهل الإيمان الخير ، ولكن يريدون ان تتحكم الأهواء والشهوات ، وتسيطر وتدفع إلى العبث والحيوانية . وقد قال سبحانه:
{ يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم} معنى هذا النص الكريم ان الله تعالى يريد ، بما شرع من أحكام ، وما ذكر من محرمات ، أن يبين ما فيه خيركم ، وما فيه صلاح مجتمعكم ، وما يعلو بكم من دركة الحيوان إلى سمو الإنسان ، وما يحمل العلاقة بين الرجل والأنثى علاقة معنوية روحية ، ولا تكون مادية حيوانية فقط ، وما يحفظ النوع الإنساني متدرجا في سبيل الرقي ، والسمو الروحي . ويريد سبحانه أن يبين سنن الذين من قبلكم ، أي الطريقة المثلى التي كانت تسير عليها المجتمعات الفاضلة قبلكم ، وما جاء به النبيون ، وهدى إليه المرسلون ، فيبين ان هذا هو سنن الذين من قبلكم وهو سنة الفطرة . ولم يصرح بأن ذلك هو ما جاء به النبيون ، وغن كان ذلك مفهوما ، بل صرح بان هذا هو سنن الذين من قبلكم للإشارة إلى انه امر مشتق من الفطرة الإنسانية . وان من يخالفه إنما يشذ عن مقتضى الفطرة وحكم العقل ، وسنة الإنسانية . فبعض الملوك أو المم الذين استباحوا المحرمات كانوا في حكم الأجيال الإنسانية من شذاذ ؛ لأنهم خرجوا عن سنة الفطرة التي فطر الله الناس عليها .
وفي النص القرآني الكريم مباحث لغوية لا بد من الإشارة إليها لتقريب المعنى السامي:
أولها – معنى اللام في قوله تعالى:{ يريد الله ليبين} ،فإن له تخريجات مختلفة ، منها ان المعنى:يريد الله تعالى ذكر ما ذكر من محرمات ويقصد إليه ليبين لكم ، فاللام على هذا تكون للتعليل ، و"ان"مضمرة بعدها – ومنها ان اللام زائدة ، وان النصب ب"أن"المحذوفة ، وزيدت اللام لبيان أحكام إرادة الله سبحانه وتعالى في بيان ما يبين توثيق هذا البيان ، وهذا ما اختاره الزمخشري في الكشاف – ومنها ان اللام هي الناصبة للفعل ، وأنها بمعنى ان . فإن اللام قد تقوم مقام ان ، وذلك إذا كان الفعل قبلها يدل على الإرادة او الأمر ، ومن ذلك قوله تعالى:{ يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم . . .32}[ التوبة] وفي الأول ذكرت اللام بدل"أن". وقوله تعالى:{ وأمرنا لنسلم لرب العالمين71}[ الأنعام] وفي معنى قريب منه:{ وأمرت ان أسلم . . .66}[ غافر] وقوله تعالى:{ وأمرت لأعدل بينكم . . .15}[ الشورى] ، وهذا التخريج الأخير هو عند الكوفيين ، والأولان عن البصريين ، ونسب ثانيهما لسيبويه . وإن مفعول"يبين"محذوف ، وقد دل عليه السياق ، والمعنى يبين لكم ما فيه مصلحتكم ، وتكوين جماعتكم الفاضلة العفيفة النزهة الطيبة .
وثانيها- قوله تعالى:{ ويهديكم سنن الذين من قبلكم} ، نرى ان"هدى"قد تعدت بنفسها هنا ، ولم تعد ب"إلى"ولا باللام كما في قوله تعالى:{ الحمد لله الذي هدانا لهذا . . .43}[ الأعراف] ، وقوله تعالى:{ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم9}[ الإسراء] ، ويتعدى ب"إلى"كما في قوله تعالى:{ ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم101}[ آل عمران] وقوله تعالى:{ وهديناهم إلى صراط مستقيم87}[ الأنعام] وقوله تعالى:{ أفمن يهدي إلى الحق أحق ان يتبع . . .35}[ يونس] . وفي الواقع ان اختيار القرآن الكريم للتعبيرات المختلفة من حيث إنه يعبر أحيانا بالتعدية ب"إلى"، وأخرى باللام ، وثالثة بنفسها ، يكون لمعان اقتضاها المقام . ويصح ان يقال إنها تعدت هنا بنفسها لتضمنها معنى البيان وقبول الفطرة السليمة لهذا البيان ، فمعنى يهديكم سنن الذين من قبلكم:بينها لكم بيانا مشفوعا بالقبول منكم لأنه الفطرة .
وثالثها:معنى سنن الذين من قبلكم:السنة هي الطريقة ، وفي أكثر استعمالها تكون للطريقة المثلى الهادية إلى الحق ، وسنن الذين من قبلكم قيل هي شرائع النبيين ، والذي نراه هو ان السنن هي طرائق الذين سبقوكم من الأمم التي سارت على الفطرة ، فحرمت هذه المحرمات بوصايا الأنبياء السابقين ، وإحكام العقل المستقيم والطبع السليم .
{ ويتوب عليكم والله عليم حكيم} قرن سبحانه وتعالى التوبة بعد هذا البيان لسببين:
أحدهما – ان يبين ان الله تعالى فاتح باب التوبة دائما ، فمن تاب من الذنوب صغيرة او كبيرة ، فغن الله يتوب عليه ، ويغفر له ما تقدم من ذنبه إذا كانت توبته نصوحا .
وثانيهما – ان الآيات السابقة تتضمن تحريما لأمور كان أهل الجاهلية يستبيحونها ، فقد كانوا يستبيحون نكاح زوجات الآباء ، ويستبيحون الجمع بين المحارم ، ويستبيحون اتخاذ الأخدان ، وهو ما يسمى اتخاذ الخلائل في عصرنا ، وكانوا يثبتون بذلك النسب ، فبين الله حرمة هذا كله ، ولا تزال تطلع على طائفة من الناس يعيشون عيشة اهل الجاهلية في اتخاذ الأخدان ، ويستبيحونها ، وقد ذكر سبحانه وتعالى لهذا ان الله بين الحلال والحرام ، وعلى المرتكب لأي محرم ان يقلع ، وغن الله تعالى يتوب عليه ، والتعبير عن قبول التوبة في كل الواضع{ يتوب عليكم} في التعدي ب"على"؛ للإشارة إلى ما يتضمنه معنى قبول التوبة من ستر للذنوب ، ومنع لكشفها ، فهي غطاء على المعاصي يمنعها من الظهور ، حتى يذهب تأثيرها في النفس ، وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة والإنعام المستحق وحده للعبودية مطلع على كل ما يعمل الإنسان من خير وشر ، وهو يعلم الذنوب التي يقع فيها العباد ، وهو الذي يغفرها عند التوبة ، وإنه سبحانه وتعالى حكيم يضع الأمور في مواضعها ، فيغفر ويقبل التوبة من عباده إذا أخلصوا النية واعتزموا الخير وأقلعوا عن الشر .