وقد بين سبحانه محبته للتوبة فقال:
{ والله يريد ان يتوب عليكم} هذا النص يفيد إرادة الله سبحانه وتعالى قبول توبة عباده ، وستر ذنوبهم وغفرانها ، وذلك إذا أقلعوا عن هذه الذنوب ، وتابوا إلى الله توبة نصوحا ؛ لأن الله تعالى يريد التوبة من عباده عما أسلفوا من ذنوب ، وقد بين لهم طريق الحق ، والوصول إليه ، وان الماضي من الذنوب لا يعوق عن الاتجاه إلى الله ولا يكون سببا للقنوط من رحمته ، كما قال تعالى:{ قل يا عبادي الذين أسرفوا على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله عن الله يغفر الذنوب جميعا غنه هو الغفور الرحيم53}[ الزمر] وعلى ذلك تكون إرادة الله تعالى للتوبة عليهم متضمنة بيان الهداية لهم ، ووجوب سلوك طريق الفطرة المستقيمية ، وتسهيل الرجوع إليه سبحانه لتتطهر نفوسهم وتصغي إلى الحق أفئدتهم ، وغفران الذنب إن أحسنوا التوبة واخلصوا النية ، واعتزموا السير في طريق الحق ، وإنه في الوقت الذي يريد الله للناس الهداية والتوبة – يوجد – من إخوان إبليس من يحرضون على الغواية ، ولذا قال سبحانه:
{ ويريد الذين يتبعون الشهوات ان تميلوا ميلا عظيما} هذه إشارة إلى كمال المباينة بين دعوة الحق التي يدعو إليها الله سبحانه وتعالى ، ويبين سبلها ، ودعوة أولياء الشيطان ، فغن دعوة الله تعالى هي دعوة إلى الفطرة السليمة التي لم تنحرف ، ولم تخرج عن النجد السوي ، ليس فيها تحريم للطيبات ومتع الحياة وليس فيها انطلاق إلى الأهواء والشهوات والخروج عن سنن الفطرة المستقيمة .
وأما دعوة أولياء الشيطان ، فهي دعوة إلى الانحراف ، والميل إلى جانب الشهوة ميلا عظيما ، ينحرف به عن سبيل الإنسانية المهذبة . وهذا الكلام يدل على ان الناس في كل عصر يوجد فيهم داعيتان:احدهما إلى الحق والاعتدال ، وأولئك يدعون بدعاية الرحمن ، وهداية الأديان لا تحرم ما احل الله من طيبات ، ولكن بقدر لا اعتداء فيه ولا انحراف ، وآخرون هم داعية الشيطان ، وهؤلاء يكونون بأعمالهم وأقوالهم وأشعارهم في الماضي وصحفهم في الحاضر داعين إلى الانحراف ، وعبر عن هؤلاء سبحانه بقوله:{ ويريد الذين يتبعون الشهوات} أي انهم ، بسبب استغراق الشهوات لنفوسهم وصيرورتها قائدا لهم يتبعونه ، وقد أصبحوا يريدون ان يكون الناس على شاكلتهم من الانحراف . وقد بين سبحانه إرادتهم للمهتدين فقال:{ أن تميلوا ميلا عظيما} ، والميل أصله الانحراف من الوسط إلى جانب من الجوانب ، ولما كان الاعتدال فيه العدل أطلق الميل على الجور والاعتداء ، وهؤلاء لا يكتفون بمجرد الميل يريدون الناس عليه ، بل يريدون ان يميلوا ميلا عظيما ، أي يريدون ان ينحرفوا انحرافا مطلقا فيبتعدون عن الاعتدال إلى أقصى الانحراف .
سبحانك ربي ، ما أصدق بيانك واحكم قرآنك ! إننا نجد الآن كما كان في الماضي الذين يتبعون الشهوات ويريدون من اهل الحق ان يميلوا ميلا عظيما ، فهؤلاء الآن يدعون على مجونهم ، مرة باسم الوجودية ، وأخرى باسم التحرر ، وثالثة باسم الحرية ، وقد كتبوا في ذلك كتبا ، ونشروا قصصا مثيرة يدعون إلى أن يميل الناس كل الميل ، واسترسلوا في ذلك استرسالا بكل وسائل الدعاية ، فمن خيالة تري المناظر المثيرة ، ومناظر في الطرقات تحرض على الفسق والمجون ، ومن استباحة علنية لكل ما يخالف الدين والخلق لتتحقق إرادتهم ، ولكن إرادة الله تعالى غالبة بعونه سبحانه .