{ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} بعد ان انذر سبحانه وتعالى ذلك الإنذار الشديد فتح باب التوبة حتى لا ييئس العباد من رجمته ، ولا يقنطوا من العودة إليه سبحانه فقال:{ إن تجتنبوا} ، والاجتناب معناه البعد ، حتى تكون المعاصي في جانب وهو في جانب ، ولا يتلاقيا قط ، ومعنى التكفير ستر السيئات او إبعادها وإماطة أذاها عن النفس ، فإن التوبة الصادقة النصوح كالماء الطهور تطهر النفس . وفي النص إشارة إلى ان المعاصي قسمان كبائر وصغائر ، وسمى الصغائر هنا سيئات لأنها تسوء صاحبها وتؤلمه وتسوء في ذاتها ، ولا تتعدى في كثير من الحيان ، وسماها في آية أخرى اللمم ، فقال تعالى:{ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم . . .32}[ النجم] أي ما يلم به الإنسان من غير إصرار عليه ، ولا استمرار فيه ، ومن هذين الوصفين نستطيع ان نعرف صغائر الذنوب بأنها ما تسوء في ذاتها من غير تعد ويرتكبها الشخص من غير إصرار ، فإن الإساءة تتعدى وتفحش ، وغن كان ثمة إصرار فليست صغيرة .
وبتعريف الصغائر نستهدي إلى تعرف الكبائر ، وقد روى في الصحيحين ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"اجتنبوا السبع الموبقات"، قيل:يا رسول الله وما هن ؟ قال:"الشرك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، والسحر ، واكل الربا ، واكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات"{[711]} ، ولا شك ان هذا الحديث لا يدل على الإحصاء للكبائر ، فقد ذكر في احاديث أخرى ان منها عقوق الوالدين ، وشرب الخمر ، وقد جاء في حديث آخر ان من أكبر الكبائر الزنا ، وأفحشه{[712]} ما كان بحليلة الجار . وقد قيل لابن عباس:الكبائر سبع ، فقال رضي الله عنه:هي إلى سبعمائة أقرب . لأنه لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار .
وإننا إذا تتبعنا الكبائر التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم من غير إحصاء ، نرى انها قد اتسمت بسمتين – إحداهما:انها تهدم أمرا ضروريا من ضروريات المجتمع ، فالزنا يهدم الأسرة ، والقذف يهدمها ويشيع الفاحشة ، وشرب الخمر يفسد العقل وهو ضروري للمجتمع ، والسحر يفسد العلاقات الإنسانية ، وعقوق الوالدين ينقض بناء الأسرة من قواعده ، وهكذا – والسمة الثانية:ان الاعتياد عليها يميت الضمير ، ويجعل النفس تمرن على الشر .
ولذلك نقول:عن الكبائر هي المفاسد التي تهدم بناء المجتمع الفاضل ، والمعاصي التي يصر عليها الشخص ومن شأنها ان تفسده او تفسد غيره ، ولو كانت في ذاتها هينة ؛ لن استمرار النفس للمعصية الصغيرة يسهل الكبيرة{[713]} .
{ وندخلكم مدخلا كريما} وعد الله الذين يباعدون الكبائر عن نفوسهم بان يكفر عنهم سيئاتهم ، وإنه ليس بعد زوال السيئات إلا الثواب ، ولذلك قال تعالى:{ وندخلكم مدخلا كريما} ."المدخل"اسم مكان من"أدخل"، وعبر بالإدخال للإشارة إلى ان ذلك تفضل من الله ورحمة ، إذ لم يملكوا الأسباب والمفاتيح إلا بتفضل منه ورحمة ، ووصف المكان بالكرم للإشارة إلى أمرين:احدهما:انه مكان طيب ، ينعم المقيم فيه ، ويستطيب الإقامة ، والثاني:أن من يحل فيه يكرمه الله تعالى ، ويفيض عليه برضوانه ، فهو مكان كريم في ذاته ، ولا يدخله إلا كريم مكرم يفيض الله تعالى عليه بكرمه ومنته .