التّفسير:
المعاصي الكبيرة والصّغيرة:
هذه الآية تقول بصراحة: ( إِن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيئاتكم وندخلكم مُدخلا كريماً ) .
ومن هذا التعبير يستفاد أنّ المعاصي والذنوب على قسمين:
القسم الأوّل: هو ما يسمّيه القرآن الكريم بالمعصية الكبيرة .
والقسم الثّاني وهو ما يسمّيه القرآن الكريم بالسّيئة .
وقد عبّر في الآية ( 32 ) من سورة النجم «باللمم »{[768]} بدلا عن السيئة ،وفي الآية ( 49 ) من سورة الكهف ذلك لفظة «الصّغيرة » في مقابل الكبيرة عندما يقول: ( لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ) .
ومن التعابير المذكورة يثبتبوضوحأنّ الذنوب والمعاصي على صنفين محددين ،يعبر عنهما تارةً بالكبيرة والصغيرة ،وتارةً أُخرى بالكبيرة والسيئة ،وثالثة بالكبيرة و«اللمم » .
والآن يجب أن نعرف ما هو الملاك والضابطة في تحديد الصّغيرة والكبيرة .
يذهب البعض إِلى أنّ هذين الوصفين من الأُمور النسبية ،تكون كل معصية بالنسبة إِلى ما هو أكبر منها صغيرة ،وبالنسبة إِلى ما هو أصغر منها كبيرة{[769]} .
ولكن من الواضح أنّ هذا المعنى لا ينسجم مع ظاهر الآية الحاضرة ،لأنّ الآية الحاضرة تقسم الذنوب إِلى صنفين مستقلين ،وتعتبرهما نوعين متقابلين ،وتعتبر الاجتناب عن صنف موجباً للعفو والتكفير عن الصنف الآخر .
ولكننا إِذا راجعنا المعنى اللغوي للكبيرة وجدنا أنّ الكبيرة هي كل معصية بالغة الأهميّة من وجهة نظر الإِسلام ،ويمكن أن تكون علامة تلك الأهمية أن القرآن لم يكتف بالنهي عنها فقط ،بل أردف ذلك بالتهديد بعذاب جهنم ،مثل قتل النفس والزنا وأكل الربا وأمثال ذلك ،ولهذا جاء في روايات أهل البيت( عليهم السلام ): «الكبائر التي أوجب الله عز وجل عليها النار » ،وقد روي مضمون هذا الحديث عن الإِمام الباقر( عليه السلام ) والإِمام الصادق( عليه السلام ) ،والإِمام علي بن موسى الرضا( عليه السلام ){[770]} .
وعلى هذا الأساس تسهل معرفة المعاصي الكبيرة إِذا أخذنا بنظر الاعتبار الضابطة المذكورة ،وما قد ذكر في بعض الروايات من أنّ عدد الكبائر سبع وفي بعضها عشرون وفي بعضها سبعون لا ينافي ما ذكرناه قبل قليل ،إِذ أن ّبعض هذه الروايات يشيرفي الحقيقةإِلى المعاصي الكبيرة من الدرجة الأُولى ،وبعضها الآخر يشير إِلى المعاصي الكبيرة من الدرجة الثّانية ،وبعضها الثالث يشير إِلى جميع الذّنوب الكبيرة .
إشكال:
يمكن أن يقال أنّ هذه الآية تشجع الناس على ارتكاب المعاصي والذنوب الصغيرة إذاً ،كأنّها تقول: لا بأس بارتكاب المعاصي الصغيرة شريطة ترك الكبائر من الذنوب .
الجواب:
إِنّ الجواب على هذا الإِشكال يتّضح من التعبير المذكور في الآية الحاضرة ،إِذ يقول القرآن الكريم: ( نكفّر عنكم سيئاتكم ) يعني إنّ الاجتناب عن الذنوب الكبار ،خصوصاً مع توفر أرضية ارتكابها ،يوجد حالة من التقوى الروحية لدى الإِنسان يمكنها أن تطهره من آثار الذنوب والمعاصي الصغيرة .
وفي الحقيقة أنّ الآية الحاضرة تشبه الآية ( 114 ) من سورة هود التي تقول: ( إِنّ الحسنات يذهبن السيئات ) فهي إِشارة إِلى أحد الآثار الواقعية للأعمال الصالحة وهو يشبه ما إِذا قلنا: ،إِذا اجتنب الإِنسان المواد السّامة الخطيرة وتوفرت له صحة جيدة ومناعة قوية أمكنه أن يتخلص من الآثار السيئة لبعض الأطعمة غير المناسبة لسلامة مزاجه ،وبسبب مناعته الجسمية .
وبتعبير آخر إنّ التكفير عن الذنوب الصغيرة وغفرانها يعد نوعاً من «الأجر المعنوي » لتاركي المعاصي والذنوب الكبيرة ،ولهذافي الحقيقةأثر تشجيعي قوي على ترك الكبائر ،محفز على اجتنابها .
متى تنقلب الصّغيرة إِلى كبيرة ؟:
إِلاّ أنّ هاهنا نقطة مهمّة لابدّ من الالتفات إِليها ،وهي أنّ المعاصي الصغيرة تبقى صغيرة ما لم تتكرر ،هذا مضافاً إِلى كونها لا تصدر عن استكبار أو غرور وطغيان ،لأنّ الصغائركما يستفاد من الكتاب العزيز والأحاديث الشريفةتتبدل إِلى الكبيرة في عدّة موارد هي:
1إِذا «تكررت الصغيرة » ،قال الإِمام الصّادق( عليه السلام ): «لا صغيرة مع الإِصرار » .
2إِذا استصغر صاحب المعصية معصيته واستحقرها ،فقد جاء في نهج البلاغة: «أشدّ الذّنوب ما استهان به صاحبه » .
3إِذا ارتكبها مرتكبها عن عناد واستكبار وطغيان وتمرد على أوامر الله تعالى ،وهذا هو ما يستفاد من آيات قرآنية متنوعة إِجمالا ،من ذلك قوله تعالى: ( فأمّا من طغى وآثر الحياة الدنيا ،فإِن الجحيم هي المأوى ){[771]} .
4إِن صدرت المعصية ممن لهم مكانة اجتماعية خاصّة بين الناس وممن لا تحسب معصيتهم كمعصية الآخرين ،فقد جاء في القرآن الكريم حول نساء النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) في سورة الأحزاب الآية ( 30 ): ( يا نساء النّبي من يأتِ منكنّ بفاحشة مبيّنة يضاعف لها العذاب ضعفين ) ،وقد روي عن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّه قال: ( من سن سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص من أوزارهم شيئاً ) .
5أن يفرح مرتكب المعصية بما اقترفه من المعصية ،ويفتخر بذلك كما روي عن رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّه قال: «من أذنب ذنباً وهو ضاحك دخل النّار وهو باك » .
6أن يعتبر تأخير العذاب العاجل عنه على المعصية دليلا على رضاه تعالى ،ويرى العبد نفسه محصناً من العقوبة آمناً من العذاب ،أو يرى لنفسه مكانة عند الله لا يعاقبه الله على معصية لأجلها ،كما جاء في سورة المجادلة الآية ( 8 ) حاكياً عن لسان بعض العصاة المغرورين الذين يقولون في أنفسهم: ( لولا يعذبنا الله بما نقول ) ،ثمّ يرد عليهم القرآن الكريم قائلا: ( حسبهم جهنّم ){[772]} .