سبب النّزول:
قال المفسّر الشّهير الطّبرسي( رحمه الله ) في «مجمع البيان »: قيل أن أُم سلمة ( وهي من أزواج النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ) قالت: يا رسول الله يغزو الرجال ولا تغزو النساء ،وإِنّما لنا نصف الميراث ؟فليتنا رجال ونغزو ونبلغ ما يبلغ الرجال ،فنزلت الآية تجيب على جميع هذه التساؤلات .
ونقرأ في تفسير المنار: إِنّ جماعة من الرجال المسلمين قالوا: نرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا في الآخرة كما فضلنا عليهنّ في الميراث فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء ،وقالت جماعة من النساء المسلمات: إِنا نرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال في الآخرة كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم في الدنيا ،فنزلت الآية .
وقد ذكر سبب النّزول هذا بعينه في تفسير «في ظلال القرآن » وتفسير «روح المعاني » مع فارق بسيط .
التّفسير:
لقد أوجب التفاوت في سهم الرجال والنساء من الإِرثكما قرأت في سبب النزولتساؤلا لدى البعض ،ويبدو أنّهم لم يلتفتوا إِلى أنّ هذا التفاوت إِنّما هو لأجل أن النفقة بكاملها على الرجل ،وليس على النساء شيء من نفقات العائلة ،بل نفقة المرأة هي الأخرى مفروضة على الرجل ،ولهذا يكون ما تصيبه المرأة ضعف ما يصيبه الرجل من الثروة ،ولهذا قال الله تعالى في هذه الآية: ( ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ) ،لأنّ لكل نوع من أنواع هذا التفضيل والتفاوت أسرار خفيّة عنكم غير ظاهرة لكم ،سواء كان التفاوت من جهة الخلقة والجنسية وبقية الصفات الجسمية والروحية التي تشكل أساس النظام الاجتماعي فيكم ،أو التفاوت من الناحية الحقوقية بسبب اختلاف الموقع والمكانة كالتفاوت في سهم الإِرث ،إِنّ جميع أنواع هذا التفاوت قائم على أساس العدل والقانون الإِلهي الحكيم ،ولو كانت مصلحتكم في غير ذلك لسنّه وبيّنه لكم .
وعلى هذا فإِن تمنّى تغيير هذا الوضع نوع من المخالفة للمشيئة الرّبانية التي هي عين الحق والعدالة .
على أنّه يجب أن لا نتصور خطأً أنّ الآية الحاضرة تشير إِلى التفاوت المصطنع الذي برز نتيجة الاستعمار والاستغلال الطبقي ،بل تشير إِلى الفروق الطبيعية الواقعية ،لأنّ الفروق المصطنعة لا هي من المشيئة الإِلهية في شيء ،ولا أن تمني تغييرها مرفوض وغير صحيح ،بل هي فروق ظالمة وغير منطقية يجب السعي في رفعها وإزالتها وتفنيدها ،فللمثال: لا يمكن للنساء أن يتمنين أن يكُنّ رجالا ،كما لا يمكن للرجال أن يتمنوا أن يكونوا نساء ،لأنّ وجود هذين الجنسين أمر ضروري للنظام الاجتماعي الإِنساني ،ولكن هذا التفاوت الجنسي يجب أن لا يتّخذ ذريعة ،لأن يسحق أحد الجنسين حقوق الجنس الآخر ،ومن هنا فإنّ الذين اتّخذوا هذه الآية ذريعة لإِثبات التمييز الاجتماعي الظالم أو يتصوروها حجّة على هذا التمييز قد أخطاوا خطأً كبيراً .
ولذا عقب الله سبحانه على الجملة السابقة فوراً بقوله: ( للرّجال نصيب ممّا اكتسبوا وللنساء نصيب ممّا اكتسبن ) أي لكلّ من الرجال والنساء نصيب من سعيه وجهده ومكانته سواء كانت مكانة طبيعية ( كالتفاوت والفرق بين جنسي الرجل والمرأة ) أو غير طبيعية ناشئة عن التفاوت بسبب الجهود الاختيارية .
إنّ الجدير بالالتفات هنا هو: إنّ لكلمة «الاكتساب » التي هي بمعنى التحصيل مفهوماً واسعاً يشمل الجهود الاختيارية ،كما يشمل ما يحصل عليه الإِنسان بواسطة بنيانه الطبيعي .
ثمّ يقول: ( واسألوا الله من فضله ) أي بدل أن تتمنوا هذا التفضيل والتفاوت اطلبوا من فضل الله واسألوا من لطفه وكرمه أن يتفضل عليكم من نعمه المتنوعة وتوفيقاته ومثوباته الطيبة ،لتكونوابنتيجة ذلكسعداء رجالا ونساء ،ومن أي عنصر كنتم ،وعلى كل حال اطلبوا واسألوا ما هو خيركم وسعادتكم واقعاً ،ولا تتمنوا ما هو خيال أو ما تتخيلونه ( ولعلّ التعبير بلفظة «من فضله » إِشارة إِلى المعنى الأخير ) .
على أنّه من الواضح جدّاً أن طلب الفضل والعناية الرّبانية ليس بمعنى أن لا يسعى الإِنسان في الأخذ بأسباب كلّ شيء وعوامله ،بل لابدّ من البحث عن فضل اللّه ورحمته من خلال الأسباب التي قرّرها وأرساها في الكون .
( إِنّ الله كان بكل شيء عليماً ) أي يعلم ما يحتاج إِليه نظام المجتمع وما يلزمه من الفروق سواء من الناحية الطبيعية أو الحقوقية ،ولهذا لا وجود للظلم والحيف ولا لأي شيء من التفاوت الظالم والتمييز غير العادل في أفعاله ،كما أنّه تعالى خبير بما في بواطن الناس من الأسرار والخفايا والنوايا ويعلم من الذي يتمنى الأماني الخاطئة في قلبه ،ومن يتمنى الأماني الإِيجابية الصحيحة البناءة .
التفاوت الطبيعي بين النّاس لماذا ؟:
إِنّ ثمّة كثيرين يطرحون على أنفسهم السّؤال التالي: لماذا خلق البعض بمواهب وقابليات أكثر ،وآخرون بمواهب وقابليات أقل ،والبعض متحلين بالجمال ،وآخرون خُلوٌ منه ،أو بجمال قليل ،والبعض بامتيازات جسمية عالية وقوية متفوقة ،وآخرون عاديين ،هل يتلاءم هذا التفاوت مع العدل الإِلهي ؟؟.
في الإِجابة على هذه التساؤلات لابدّ من الالتفات إِلى النقاط التالية:
1إِنّ بعض الفروق الجسمية والروحية بين الناس ناشئة عن الاختلافات الطبقية والمظالم الاجتماعية ،أو التفريط الفردي الذي لا علاقة له بنظام الخلق وجهاز الإِيجاد أبداً ،فمثلا كثير من أبناء الأغنياء أقوى من أبناء الفقراء وأكثر جمالا وتقدماً من ناحية المواهب والقابليات بسبب أن الفريق الأوّل ( أولاد الأغنياء ) يحظى بإمكانيات أكبر من حيث الغذاء والجوانب الصحية ،في حين يعاني الفريق الثاني من حرمان ونقصان من هذه الجهة .أو أن هناك من يخسر الكثير من طاقاته الجسمية والروحية بسبب التواني ،والبطالة ،والتفريط والتقصير .
إِنّنا يجب أن نعتبر هذه الفروق وهذا التفاوت تفاوتاً مصطنعاً ومزيفاً ،وغير مبرر ،ويتحقق القضاء عليها من خلال القضاء على النظام الطبقي ،وتعميم العدالة الاجتماعية في الحياة البشرية ،والقرآن الكريم والإِسلام لا يقرّ أي شيء من هذه الفروق ،وأي لون من ألوان هذا التفاوت والتمييز أبداً .
2إِنّ القسم الآخر من الفروق وألوان التفاوت أمر طبيعي ،وشيء لازم من لوازم الجبلة البشرية ،بل وضرورة من ضرورات الحياة الإِنسانية ،يعني أنّ مجتمعاً من المجتمعات حتى إِذا كان يحظى بالعدالة الاجتماعية الكاملة لا يمكن أن يكون جميع أفراده متساوين وعلى نمط واحد وصورة واحدة مثل منتجات معمل .بل لابدّ أن يكون هناك بعض التفاوت ،ولكن يجب أن نعلم أنّ المواهب الإِلهية والقابليات الجسمية والروحية قد قسمتفي الأغلبتقسيماً يصيب فيه كل واحد قسطاً من تلك المواهب والقابليات .لا أن يحظى بعض بجميع المواهب ،ويحرم آخرون من أي شيء منها ،وبمعنى أنّه قل أن يوجد هناك من تجتمع فيه كل المواهب جملة واحدة ،بل هناك من يحظى بالمقدرة البدنية الكافية ،وآخر يحظى بموهبة رياضية جيدة ،ومن يحظى بذوق شعري رفيع ،وآخر يحظى برغبة كبيرة في التجارة ،ومن يتمتع بذكاء وافر في مجال الزراعة ،وآخر بمواهب وقابليات خاصّة أُخرى .
المهم أن يكتشف المجتمع أو الأفراد أنفسهم تلك المواهب والقابليات ،وأن يقوموا بتربيتها وتنميتها في بيئة سليمة ،حتى يتمكن كل إنسان إظهار ما ينطوي عليه من نقطة ضعف ويستفيد منها .
3يجب أن نذكر القارئ أيضاً بأنّ المجتمع مثل الجسد الإِنساني بحاجة إِلى الأنسجة والعضلات والخلايا المختلفة ،يعني كما أنّ البدن لو تألف جميعه من خلايا دقيقة ورقيقة مثل خلايا العين والمخ لم يدم طويلا ،ولو تألف جميعه من خلايا غليظة وخشنة لا تعرف انعطافاً مثل خلايا العظام ،فقدت القدرة الكافية على القيام بوظائفها ،بل لابدّ أن تكون الخلايا المكونة للجسم متنوعة ،ليصلح بعضها للقيام بوظيفة التفكير ،وبعضها للمشاهدة والنظر ،وآخر على الاستماع ورابع على التحدث ،هكذا لابدّ لوجود «المجتمع الكامل » من وجود عناصر ذات مواهب وقابليات وأذواق ،وتراكيب مختلفة متنوعة ،بدنية وفكرية ،لكن لا يعني هذا أن يعاني بعض أعضاء الجسد الاجتماعي من حرمان ،أو تستصغر خدماته أو يستحقر دوره ،تماماً كما تستفيد كل خلايا البدن الواحد رغم ما بينها من تفاوت وفروق من الغذاء والهواء وغيرها من الحاجات بالمقدار اللازم لكل واحد .
وبعبارة أُخرى: إِنّ الفروق وأشكال التفاوت في البنية الروحية والجسمية في الجوانب الطبيعة ( التي لا هي ظالمة ولا هي مفروضة ) إنّما هي في الحقيقة مقتضى «الحكمة الرّبانية » ،والعدل لا يمكنه بحال أن ينفصل عن الحكمة .
فعلى سبيل المثال إِذا كانت خلايا الجسم البشري مخلوقة في شكل واحد كان ذلك بعيداً عن الحكمة كما أنّه خال عن العدل الذي يعني وضع كل شيء في محله وموضعه المناسب ،وكذلك إذا تشابه الناس في يوم من الأيّام في التفكير أو تشابهوا في القابلية والموهبة لتهافت بنيان المجتمع برمته في ذلك اليوم .
إِذن فما ورد في هذه الآية في مجال التفضيل والتفاوت في جبلة الرجل والمرأة وخلقتهما إِنّما هو في الواقع إِشارة إِلى هذا الموضوع ،لأنه من البديهي إِذا كان البشر جميعاً رجالا ،أو كانوا جميعاً نساء لانقرض النوع البشري عاجلا ،هذا مضافاً إِلى انتفاء قسم من ملاذ البشر المشروعة .
فإذا اعترض جماعة قائلين لماذا خلق البشر صنفين رجالا ونساء ،وزعموا بأنّ هذا الأمر لا يتلاءم مع العدالة الإِلهية .لم يكن هذا الاعتراض منطقياً ،لأنهم لم يلتفتوا إِلى حكمة هذا التفاوت ،ولم يتدبروا فيها .