مناسبة النزول
جاء في أسباب النزولللواحديبإسناده عن مجاهد قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله تغزو الرجال ولا نغزو ،وإنما لنا نصف الميراث ،فأنزل الله تعالى:{وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ} ،وجاء فيه بإسناده عن عكرمة قال: إن النساء سألن الجهاد ،فقلن: وددنا أن الله جعل لنا الغزو فنصيب من الأجر ما يصيب الرجال فأنزل الله الآية .وقال قتادة والسدي: لمّا نزل قوله:{لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانْثَيَيْنِ} ،قال الرجال: إننا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا في الآخرة كما فضّلنا عليهن في الميراث ،فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء ،وقالت النساء: إنّا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال في الآخرة كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم في الدنيا ،فأنزل الله الآية .
وقد تكون هذه الروايات ناشئةً من اجتهاد شخصي في فهم الآية ،من حيث ما توحيه للنساء من الاحتجاج الخفي على ما تميز به الرجال من الجهاد والإرث أو ما توحيه للرجال من الشعور بالتفوق والامتياز على النساء في الدنيا ،مما يفرض امتيازهم عليهن في الآخرة ،باعتبار فهمهم للمسألة بأن ذلك ناشىءٌ من تفوّقهم الذاتي عند الله ،ولا سيما أن الروايات المذكورة عن هؤلاء مرسلة ليست متصلةً بعهد نزول القرآن .
في آفاق الآية
وقد يلاحظ المتأمل في هذه الآية أنها ليست ناظرةً ،بحسب المتبادر منها ،إلى التفضيل في مجال التشريع ،بل التفضيل الواقعي في واقع الحياة ،من خلال الأسباب الخارجية أو الداخلية الكامنة في حياة الإنسان ،لأن قضية الميراث لا تمثل تفضيلاً للرجال على النساء ،بل تنطلق من خلال التوازن في مسألة الحقوق والواجبات ،لأن مسؤولية الرجل عن المرأة في الحياة الزوجية تختلف عن مسؤولية المرأة فيها ،وهكذا نجد في مسألة الجهاد أنها تنطلق من طبيعة العنصر المادي للقوة عند الرجل الذي لا تملكه المرأة ،الأمر الذي كان تشريعه منطلقاً من طبيعة الواقع الخارجي لموازين القوة ،لا من جهة الجانب الذاتي للرجولة في مقابل الأنوثة .وعلى ضوء هذا ،فلا تكون المسألة مسألة تفضيل ،بل مسألة توزيع الأدوار وتنظيم الواقع ،مع ملاحظة دقيقة في مسألة الجهاد ،وهي أن الله لم يحرم المرأة من الجهاد بالمشاركة في الحرب في الصفوف الخلفية وفي الأعمال الثانوية في تمريض الجرحى وسقي العطاشى ،كما جاء في الحديث أن «جهاد المرأة حسن التبعّل »[ 3] الذي يوحي بأن الله يمنحها أجر المجاهدين ،وربما كان الأقرب إلى أجواء الآية ما رواه في مجمع البيان قال: قيل: جاءت وافدة النساء إلى رسول الله( ص ) ،فقالت: يا رسول الله أليس الله رب الرجال والنساء وأنت رسول الله إليهم جميعاً ،فما بالنا يذكر الله الرجال ولا يذكرنا ،نخشى أن لا يكون فينا خير ولا لله فينا حاجة ،فنزلت هذه الآية ؛والله العالم .
في هذه الآية حديث قرآني عن بعض النوازع الأخلاقية المنحرفة ،التي تمثل لوناً من ألوان الانحراف النفسي في بنيان الشخصية الإنسانية ،كمظهرٍ من مظاهر الأنانية المريضة الغارقة في وحول الذات .فقد يعيش الفرد في مجتمع يتفاضل فيه الناس ،في ما يملكون من مالٍ أو جاهٍ أو فُرصٍ متنوّعةٍ في أيّ جانب من جوانب المعيشة ...وقد يكون هذا الفرد محروماً من بعض ما يجده لدى هؤلاء الناس ،فينعكس على نفسيته انعكاساً سلبياً ،تتوتر فيه أعصابه ،وتضطرب فيه مشاعره ،فيتحول إلى كائن ذي أمنياتٍ عدوانية يريد أن تنتقل إليه كل هذه الامتيازات والفرص المختلفة ،ليكون هو المالك لها دون غيره ؛وتلك هي الحالة التي تحصل للإنسان ،كنتيجةٍ لضعف الثقة بالله ،وضعف الثقة بالنفس ؛وهي التي يعبَّر عنهافي علم الأخلاقبالحسد .
وقد جاءت هذه الآية لتعالج هذه الحالة ،بالنهيأولاًعن هذه التمنيات الفارغة البعيدة عن جوّ الإيمان والواقعية ؛فإذا كان الله هو الذي أعطى إنساناً فرصة أو مالاً أو امتيازاً ،فإن ذلك ينطلق من حكمته وتدبيره ،من خلال ما تقتضيه السنن الحياتية التي ركّز عليها حركة الحياة في الكون ،عندما وضع القوانين الكونية التي ترتبط بها كل مفردات الأوضاع والأعمال الخاصة والعامة ،من خلال حركة الأسباب والمسببات ؛وإذا كانت القضية مرتبطةً بتدبير الله وإرادته غير المباشرة ،فما معنى هذه التمنيات ؟وهل يمكن أن يغيّر الله سنّته في الكون ،على أساس مزاجٍ مريض ،أو أمنيةٍ منحرفةٍ ؟وهذا ما تعبّر عنه الفقرة الكريمة:{وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} .
وأثار القضيةثانياًفي تأكيد هذا الواقع ؛فإن للرجال ،الذين يحرّكون حياتهم في كسب المواقف والفرص والامتيازات والمواقع والأرباح ،حظّاً من ذلك كله ،لأن الله جعل للإنسان ثمرة جهده وكسبه ،سواءٌ في ذلك القضايا المتعلقة بأمور الدنيا أو القضايا المتعلقة بأمور الآخرة ؛فليس لإنسان أن يطلب لنفسه ثمرة جهد إنسان من دون حق ،لأنه لا يملك أساساً لهذه المطالبة ،في ما يفرضه لنفسه من حق ،وليست القضية قضية الرجال ،بل هي قضية العمل والكسب ؛فللنساءكما للرجالهذا الحق ،فلهنّ كل النتائج التي تحصل لهن من خلال جهدهن ،في أي صعيد عملي ؛وليس لأحد أن ينكر عليهن ذلك ،أو يستأثر به من دون حق .وهذا ما عبرت عنه هذه الفقرة:{لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ} ..
وهذا ما أراد الله أن يقرره للنساء كحقيقةٍ قرآنيةٍ إسلاميةٍ ،ليعرف الناسمن خلالهاأن الفروق التي قررها الله في بعض حقول التشريع ،من خلال ما يتعلق بالرجل والمرأة ،في ما أعطاه للرجل من امتيازات ،وما منعه عن المرأة من أعمال ومواقع ،لا تمتد إلى خارج النطاق المحدود الذي وضعه الله فيه ؛بل هي أمور تخضع لمصالح معينة في حدود ضيّقة جداً .أما العمل ،فإنه يتجاوز كل الفروق ،ليقف الرجل والمرأة على صعيد واحد في الاحتفاظ بنتائجه على مستوى الدنيا والآخرةكما جاء في آية أخرى{وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَنِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَآءَ الأَوْفَى} [ النجم:3941] .
ولا بد للإنسان المسلم المؤمن من أن يضع هذه الحقيقة في حسابه ،عندما يتطلع إلى نتائج جهد الآخرين ،في ما تمثله حياتهم من مواقع وامتيازات ؛فإذا أراد لنفسه بعضاً من ذلك ،فليوجه نفسه نحو العمل المماثل الذي يؤدي إلى مثل نتائجهم ،ولا يكتفي بالتمنيات التي لا تحقق له إلا بعض التآكل الروحي الداخلي ،الذي تمثله العقد النفسية القابعة في فكره وشعوره ؛لأن ذلك هو السبيل الذي يحقق للحياة معناها في حركة الإنسان في خط الواقع .فإذا استبطأتم الحصول على ذلك في خط العمل ،فانطلقوا من خلال إيمانكم بالله ،واسألوا الله من فضله ،ليهيّىء لكم السبل التي قد تكون مغلقة ،ويثير أمامكم الفرص التي لا تكون متاحة ،فإنّ الله قد يتدخلفي بعض الحالاتللاستجابة لنداء عبده الحائر المحروم ،إذا عرف منه صدق النية والدعاء والعمل ...
وهذه هي القضية الثالثة في علاج هذه الحالة ،وهي أن يكون رد فعله ،إزاء ما يتطلع إليه من حياة الناس ،الرجوع إلى الله ،واللجوء إليه والاستعانة به ،والإيمان العميق بأنه صاحب الفضل الذي لا يمنع أحداً فضله ،لأنه الواسع القادر على كل شيء ،الذي وسعت رحمته كل شيء ،فلا تضيق عن أحد ،فكيف يفكر أحد أن يستعين بغيره ويلجأ إلى غيره ،أو يواجه الموقف بالتمنيات التي ستأكل قلبه وروحه من دون أن تحقق له أية نتيجة حاضرة أو مستقبلة ؟ولماذا يضيّق الإنسان المجال على نفسه ،في ما هو من آفاق رحمة الله ،ما دامت واسعة تتحرك مع كل نبضة قلب تنبض بالإيمان ،ومع كل رفة جفن تحرّك الدموع من خشية الله ،ومع كل خطوة يخطوها الإنسان في اتجاه الخير والمحبة والعطاء ؟فليفكر المؤمن أن تبقى النعم لأصحابها ،وليسأل الله أن يعطيه من فضله الواسع ما يوازي هذه النعم أو يزيد عليها ،من دون أن ينقص من الآخرين أي شيء .
تأكيد القرآن على النظر الإيجابي والدافعي في الحياة
وهكذا يقرّر الله للإنسان الخط الواضح في نظرته إلى اختلاف المواقع في الحياة ،فلا يتعقّد أمام ذلك في نظرة سلبية يائسة خانقة ،بل يعمل على أن يجعل نظرته إيجابية منفتحة ،تبحثفي وعي عميقعن الأسباب الطبيعية الكامنة خلف ذلك كله ،من خلال السنن الكونية التي أودعها الله في حركة الحياة والإنسان ،من خلال ما تلتقي به من نتائج التفاضل في المواقع والكائنات والناس ،انطلاقاً من الحكمة الإلهية التي تريد أن تجعل من هذا التنوع مظهراً لحيوية الحياة التي توحي بالتنافس الذي يؤدّي إلى التقدم ،من خلال تفجير الطاقات المبدعة في حالات الصراع ،مع تحريك الفرص في اتجاهات متنوعة لجميع الناس ؛فإذا واجهنا حالات غنىً تقدم للغنيّ فرصة الحصول على رغباته من هذه الناحية ،فإننا نواجهمعهافرصة ذكاء تقدم للفقير فرصة أخرى تحقق له مجالات التقدم من ناحية ثانية ؛وبذلك يتحقق التعادل في مجالات الإحساس بالسعادة والشقاء ،فليس هناك سعادة مطلقة ،وليس هناك شقاء مطلق ،ولكن ذلك كله لا يمنع من أن تتحرك الرسالات التي أرادها الله على أساس المساواة بين الحقوق والواجبات ،فيعطي لكل طاقة فرصتها في النمو والتكامل ،ويعطي لكل إنسان نتيجة عمله ،ولكل عملٍ قيمته في حركة الإنتاج ؛فقد تجد عملاً لا يكلف جهداً جسدياً كبيراً ،ولكنه يحقق إنتاجاً مضاعفاً عن كثير من الأعمال المجهدة جسدياً .وفي هذا الجو قد لا تكون مقاييس الجهد في التقييم ،هي الأكثر عدالة في الحساب .
ولسنا هنا لنفيض في البحث عن هذا الجانب من تخطيط الإسلام للعدالة ،في ما يريده للإنسان من التوازن في توزيع الحقوق والمسؤوليات ؛بل كل ما هناك ،أن ننطلق من خلال هذه الآية للتأكيد على المفهوم الأخلاقي الذي يرفض للناس أن يغرقوا في أجواء التمنيات الفارغة ،التي تحاول أن تصل إلى ما تريد من دون جهد ولا كسب ،أو تستغرق في حياة الآخرين من الناجحين لتتعقد من نجاحاتهم في حالات نفسية سوداوية ،لأن الإسلام يريد للأماني في حياتنا أن تتحرك في نطاق الواقع ،فيحاول الإنسان الوصول إليها من خلال أسبابها الطبيعية ؛وبذلك لا تتحول الأحلام إلى غيبوبة روحية في أجواء الخيال ،بل تتحرك في فكر الإنسان وشعوره ،لتكون حافزاً للتجربة والمعاناة والحركة من أجل تحقيق ما يريده على أفضل وجه ،فإذا واجه بعض الصعوبات في الطريق ،وتعقّدت عليه الأمور ،فإن عليه أن يلجأ إلى الله ،فيسأله من فضله ،ليسهّل له العسير ويذلّل له الصعاب ،لأنه العليم بخفايا الأمور وظواهرها ،والقادر على الوصول بها إلى ما يريد من حيث نحتسب ومن حيث لا نحتسب ؛وهو حسبنا ونعم الوكيل .