مناسبة النزول
جاء في أسباب النزول ،للواحدي ،بإسناده عن الزهري قال: قال سعيد بن المسيّب: نزلت هذه الآية{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِي مِمَّا تَرَكَ الْوالِدَنِ وَالاَْقْرَبُونَ} في الذين كانوا يتبنون رجالاً غير أبنائهم ويورثونهم ،فأنزل الله تعالى فيهم أن يجعل لهم نصيب في الوصية ،ورد الله تعالى الميراث إلى الموالي من ذوي الرحم والعصبة ،وأبى أن يجعل للمدعين ميراث من ادعاهم ويتبناهم ،ولكن جعل نصيباً في الوصية .
ونلاحظ على هذه الرواية ،أن الآية لا دليل فيها على الجانب السلبي في نفي ميراث الأدعياء ،والجانب الإيجابي وهو جعل نصيب لهم في الوصية ،بل هي ظاهرة في تقرير عناوين الإرث للأشخاص المذكورين في الآية ،ولو كانت المسألة ،كما تقول الرواية ،لكان من المفروض الاقتصار على إبطال هذه الطريقة الإرثية ،أمّا مسألة إرث الوارثين ،فلا حاجة إلى بيانها هنا ،لأن آيات الإرث متكفلة بذلك ؛والله العالم .
ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون
في هذه الآية إجمال لما فصله الله في أول السورة من الفئات التي تستحق نصيباً من تركة الميت ؛فقد أكدت على أن لكل إنسان أولياءً يرثون ،ما يتركه من مال ،وهم الوالدان والأقربون الذين يتمثلون في الأبناء والأخوة والأعمام والأخوال ،بحسب طبقاتهم في الإرث ؛أما كلمة{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} فالمقصود بها الذين يرتبط الإنسان بهم من خلال العقد ،الذي كان الغالب فيه أن يحصل بواسطة المصافحة باليد ،وربما كان المراد عقد الزواج الذي يربط الزوجين ببعضهما .وربما ذكر بعض المفسرين أن المراد بهم الحلفاء ،فقد كان الرجل في الجاهلية يعاقد الرجل ،فيقول: دمي دمك ،وحربي حربك ،وسلمي سلمك ،وترثني وأرثك ،وتعقل عني وأعقل عنك ،فيكون للحليف السدس من مال الحليف .ثم نسخ ذلك بقوله:{وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [ الأنفال:75] ،وربما ذكر غير ذلك من أنهم الأشخاص الذين آخى بينهم الرسول في المدينة ،وربما قيل: إن المراد بهم الأدعياء الذين كانوا يتبنونهم في الجاهلية ؛ولكن مثل ذلك لا دليل عليه ،بل الظاهر أنها واردةٌ في مقام إعطاء القاعدة العامة الثابتة التي تشمل كل أسباب الإرث التي تثبت بواسطة التعاقد ،كضمان الجريرة ؛والله العالم .
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيداً} ،وفي هذه الكلمة تعميقٌ لإحساس الإنسان بالمسؤولية ،على أساس الإحساس بأن الله شهيد عليه في خفايا الأمور وظواهرها ،لأنه شهيدٌ على كل شيء ،فلا يغيب عنه شيء مهما كان صغيراً .وهذا الإحساس ضروري للمؤمن في حياته الإيمانية ،في جميع ما فرض الله عليه من حقوق وواجبات ،لأنه إذا تعمق في نفسه ،كان ذلك أساساً له من أجل تركيز أفكاره على الخط المستقيم ؛أما إذا ضعف ذلك في نفسه وفكره ،فإنه يؤدي إلى فقدان حالة الانضباط .ولهذا كان الأسلوب القرآني يؤكد على إثارة هذا الجانب ،في أكثر الآيات التي تتحدث عن الأحكام الشرعية أو المفاهيم الأساسية العامة ،وهذا هو الأسلوب الذي ينبغي للعاملين في حقل التربية الإسلامية أن يثيروه في مجالات الدعوة والتبليغ ،لأن ذلك هو الذي يركز القاعدة الأساسية التي ينطلق منها الشعور العميق بالمسؤولية ،مما يجعل من التشريع حالةً ذاتية حيّة ،بينما يكون الاكتفاء بالحديث عنه بشكلٍ تجريديّ ،سبباً في تحوّله إلى حالةٍ تقليديةٍ لا توحي بالحركة والحياة ،وتحوّل الدينبالتاليإلى شيٍء جامد لا يحرّك الإنسان إلا بطريقةٍ جامدةٍ ،لا تلبث أن تموت وتتلاشى أمام الحالات الطارئة المتصلة بحياته الخاصة الحسية ؛كالذي نشاهده في كثير من المظاهر التقليدية للدين في حياة الكثيرين من الناس .