{ ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا33} .
وجه اتصال هذه الآية بما قبلها ظاهر جدا على القول بأن سبب نزول الآية السابقة هو ما تقدم من حديث تفضيل الرجال على النساء في الإرث ، وكذا على القول بعموم التمني في تلك الآية فإن أكثر التحاسد وتمني ما عند الغير يكون في المال وقلما يتمنى الناس ما فضلهم به غيرهم من الجاه إلا من حيث إن ذلك الجاه يستتبع المال في الغالب فالعالم الزاهد في الدنيا المعرض عنها لا يكاد يحسده على علمه أحد إلا أن يكون لعلة غير العلم كأن يكون علمه مظهرا لجهل الأدعياء وينقص من رزقهم واحترامهم .
الأستاذ الإمام:الظاهر أن الكلام في الأموال فإنه نهى عن أكلها بالباطل ثم نهى عن تمني أحد ما فضله به من المال لأن التمني يسوق إلى التعدي وإنما أورد النهي عاما لزيادة الفائدة والسياق يفيد أن المال هو المقصود أولا وبالذات لأن أكثر التمني يتعلق به ، وذكر القاعدة العامة في الثروة وهي الكسب .ثم انتقل من ذكر الغالب وهو الكسب إلى غير الغالب وهو الإرث فقال{ ولكل جعلنا موالي مما ترك} فالموالي من لهم الولاية على التركة ، و "من "في قوله{ مما ترك} ابتدائية والجملة تتم بقوله{ ترك} والمعنى:ولكل من الرجال الذين لهم نصيب مما اكتسبوا والنساء اللواتي لهن نصيب مما اكتسبن موالي لهم حق الولاية على ما يتركون من كسبهم ، وهؤلاء الموالي هم{ الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم} أي جميع الورثة من الأصول والفروع والحواشي والأزواج كما تقدم التفصيل في أول السورة ، فالمراد هنا بالذين عقدت أيمانكم الأزواج فإن كل واحد من الزوجين يصير زوجا له حق الإرث بالعقد ، والمتعارف عند الناس في العقد أن يكون بالمصافحة باليدين{ فآتوهم نصيبهم} أي فأعطوا هؤلاء الموالي نصيبهم لهم ولا تنقصوهم منه شيئا .ولما كان الميراث موضعا لطمع بعض الوارثينأي ولا سيما من يكون في أيديهم المال لإقامة المورث معهمقال تعالى بعد الأمر بإعطاء كل ذي حق حقه{ إن الله كان على كل شيء شهيدا} أي إنه تعالى رقيب عليكم حاضر يشهد تصرفكم في التركة وغيرها فلا يحملنكم الطمع وحسد بعضكم لبعض الوارثين على أن يأكل من نصيبه شيئا سواء كان ذكرا أم أنثى كبيرا أم صغيرا .
أقول إن ما ذهب إليه الأستاذ الإمام هو المتبادر الذي لا يعثر فيه الفكر ، ولا يكبو في ميدانه جواد الذهن ، ولا يحتاج فيه إلى تكلف في الإعراب ، ولا إلى القول بالنسخ ، فأين منه تلك الأقوال المتكلفة التي انتزعها المفسرون انتزاعا من تنوين قوله تعالى:{ ولكل} فهو هنا بدل من مضاف إليه محذوف لدلالة السياق عليه كما هو المعهود في مثله من هذه اللغة والمأخذ القريب المتبادر لهذا المضاف إليه هو الآية السابقة التي عطف عليها قوله:{ ولكل} فاختار أن المخاطبين بالنهي والأمر في تلك الآية هم المخاطبون بالحكم بامتثاله في هذه الآية المعطوفة عليها .واختار جمهور المفسرين البعد في التقدير فقدروا المضاف إليه لفظ تركة أو مال أو ميت أو قوم .
قال القاضي البيضاوي:أي ولكل تركة جعلنا وارثا يلونها ويحوزونها ، ومما ترك بيان لكل مع الفصل بالعاملأو لكل ميت جعلنا ورّاثا مما ترك على أن من صلة موالي لأنه في معنى الوارث وفي{ ترك} ضمير كل و{ الوالدان والأقربون} استئناف مفسر للموالي وفيه خروج الأولاد فإن{ الأقربون} لا يتناولهم كما لا يتناول الوالدين أو لكل قوم جعلناهم موالي حظ مما ترك الوالدان والأقربون على أن{ جعلنا موالي} صفة{ كل} والراجع إليه محذوف وعلى هذا فالجملة من مبتدأ وخبر . اه وقوله إن الأولاد لا يدخلون في الأقربين غير مسلم ولماذا لم يقل مثله في تفسير قوله تعالى في أوائل هذه السورة{ للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون} [ النساء:6] الخ بل فسر الأقربون بالمتوارثين بالقرابة وذكر في سبب نزولها ما ورد في إرث البنات والزوجة .
وفسر بعضهم{ الذين عقدت أيمانكم} بموالي الموالاة ورووا أن الحليف كان يرث السدس من مال حليفه في الجاهلية وأقره الإسلام أولا ثم نسخ بقوله تعالى:{ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض} [ الأنفال:75] وروى ابن جرير عن قتادة أنه قال كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيقول دمي دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك ، فجعل له السدس من جميع المال في الإسلام ثم يقسم أهل الميراث ميراثهم فنسخ ذلك بعد في سورة الأنفالوذكر الآية المذكورة آنفاوروي مثل ذلك عن ابن عباس .
ولكن لا علاقة لهذا بالآية فالظاهر أن سورة النساء نزلت بعد سورة الأنفال ، فإن سورة الأنفال نزلت في سنة بدر والمواريث شرعت بعد ذلك والآية التي نفسرها نزلت بعد آية المواريث ، لا لأنها بعدها في ترتيب السورة بل لأنها أشارت إلى أحكام المواريث وبنيت على أن الله تعالى جعل لكل من الوارثين نصيبا يجب أن يؤدى إليه تاما ، فهل يعقل أن تكون مع ذلك مقررة للإرث بالتحالف ؟ إن القرآن لم يشرع للناس الإرث بالتحالف وإنما أبطله ونسخ ما كان عليه الناس فيه قبل نزول آيات المواريث كما هو ظاهر .وذهب أبو حنيفة إلى أنه إذا أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يرثه ويعقل عنه صح ذلك وكان عليه عقله وله إرثه إن لم يكن له وارث .والمراد بالعقل دية القتل .والذي صح عن ابن عباس عند البخاري وأبي داود والنسائي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما آخى في أول الهجرة بين المهاجرين والأنصار كان المهاجر يرث أخاه الأنصاري دون ذوي رحمه فلما نزلت هذه الآية نسخ ذلك .وجعل جملة{ والذين عقدت أيمانكم} استئنافية والوقف على ما قبلها قال والمعنى{ فآتوهم نصيبهم} من النصر والرفادة والنصيحة وقد ذهب الميراث ويوصي له وظاهر أن الذي نسخ هذا الإرث هو قوله تعالى:{ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا} [ الأحزاب:7] وهو في سورة الأحزاب أما الموالي في الآية التي نفسرها فهم الوارثون كما في قوله تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام:{ وإني خفت الموالي من ورائي} [ مريم:4] .
هذا وإن الأستاذ الإمام قد سبق إلى القول بأن المراد بعقدت أيمانكم عقد النكاح فهو مختار له لا مبتكر ، وقد ذهل من قال من ناقليه إنه خلاف الظاهر مستدلا بأنه لم يعهد إضافته إلى اليمين ، فإنه لا يلتزم هو ولا غيره ممن يوافقه في هذه المسألة أن يكون كل استعمال في القرآن أو في كلام البلغاء معهودا في كلام الناس قبله لاستلزام ذلك نفي الابتكار وإن كل استعمال يجب أن يكون قديما معروفا في الجاهلية ، وذلك باطل بالبداهة ، فكم في القرآن والحديث من أبكار الأساليب الحسان ، اللاتي لم يطمثهن إنس قبلهما ولا جان ، وما من بليغ إلا وله مخترعات في البيان ، لم يسلك فجاجها من قبله إنسان ، ولماذا يستبعد إسناد عقد النكاح إلى الأيمان دون غيرها من العقود كالحلف والبيع والمعهود في جميعها وضع اليمين في اليمين ؟ وقد قرأ الكوفيون{ عقدت} بغير ألف ، والباقون{ عاقدت} بألف المفاعلة ، وقرئ في الشواذ عقدت بتشديد القاف .