{ الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله والتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا34 وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا35} .
لما نهى الله تعالى كلا من الرجال والنساء عن تمني ما فضل به بعضهم على بعض ، وأرشدهم إلى الاعتماد في أمر الرزق على كسبهم ، وأمرهم أن يؤتوا الوارث نصيبهم ، ولما كان من جملة أسباب هذا البيان ذكر تفضيل الرجال على النساء في الميراث والجهاد كان لسائل هنا أن يسأل عن سبب هذا الاختصاص وكان جواب سؤاله قوله تعالى:{ الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم} أي إن من شأنهم المعروف المعهود القيام على النساء بالحماية والرعاية والولاية والكفاية ومن لوازم ذلك أن يفرض عليهم الجهاد دونهن فإنه يتضمن الحماية لهن ، وأن يكون حظهم من الميراث أكثر من حظهن لأن عليهم من النفقة ما ليس عليهن ، وسبب ذلك أن الله تعالى فضل الرجال على النساء في أصل الخلقة ، وأعطاهم ما لم يعطهن من الحول والقوة ، فكان التفاوت في التكاليف والأحكام ، أثر التفاوت في الفطرة والاستعداد .
وثم سبب آخر كسبي ، يدعم السبب الفطري ، وهو ما أنفق الرجال على النساء من أموالهم ، فإن في المهور تعويضا للنساء ومكافأة على دخولهن بعد الزوجية تحت رياسة الرجال فالشريعة كرمت المرأة إذ فرضت لها مكافأة عن أمر تقتضيه الفطرة ونظام المعيشة وهو أن يكون زوجها قيما عليها فجعل هذا الأمر من قبيل الأمور العرفية التي يتواضع الناس عليها بالعقود لأجل المصلحة كأن المرأة تنازلت باختيارها عن المساواة التامة وسمحت بأن يكون للرجل عليها درجة واحدة هي درجة القيامة والرياسة ، ورضيت بعوض مالي عنها ، فقد قال تعالى:{ ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة} [ البقرة:227] فالآية أوجبت لهم هذه الدرجة التي تقتضيها الفطرة لذلك كان من تكريم المرأة إعطاؤها عوضا ومكافأة في مقابلة هذه الدرجة وجعلها بذلك من قبيل الأمور العرفية لتكون طيبة النفس مثلجة الصدر قريرة العين ولا يقال إن الفطرة لا تجبر المرأة على قبول عقد يجعلها مرؤوسة للرجل بغير عوض فإنا نرى النساء في بعض الأمم يعطين الرجال المهور ليكن تحت رياستهم فهل هذا بدافع الفطرة الذي لا يستطيع عصيانه إلا بعض الأفراد .وقد سبق لنا في بيان حكمة تسمية المهور أجورا من عهد قريب نحو مما تقدم هنا وهو ظاهر جلي وإن لم يهتد إليه من عرفت من المفسرين وجعل بعضهم إنفاق الأموال هنا شاملا للمهر ولما يجب من النفقة على المرأة بعد الزواج .
الأستاذ الإمام:المراد بالقيام هنا هو الرياسة التي يتصرف فيها المرؤوس بإرادته واختياره وليس معناها أن يكون المرؤوس مقهورا مسلوب الإرادة لا يعمل عملا إلا ما يوجهه إليه رئيسه فإن كون الشخص قيما على آخر هو عبارة عن إرشاده والمراقبة عليه في تنفيذ ما يرشده إليه ملاحظته في أعماله وتربيته ، ومنها حفظ المنزل وعدم مفارقته ولو لنحو زيارة أولي القربى إلا في الأوقات والأحوال التي يأذن بها الرجل ويرضى ، أقول ومنها مسألة النفقة فإن الأمر فيها للرجل فهو يقدر للمرأة تقدير إجماليا يوما يوما أو شهرا شهرا أو سنة سنة وهي تنفذ ما يقدره على الوجه الذي ترى أنه يرضيه ويناسب حاله من السعة والضيق .
قال:والمراد بتفضيل بعضهم على بعض تفضيل الرجال على النساء ، ولو قال"بما فضلهم عليهن "أو قال"بتفضيلهم عليهن "لكان أخصر وأظهر فيما قلنا إنه المراد وإنما الحكمة في هذا التعبير هي عين الحكمة في قوله{ ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض} وهي إفادة أن المرأة من الرجل والرجل من المرأة بمنزلة الأعضاء من بدن الشخص الواحد فالرجل بمنزلة الرأس والمرأة بمنزلة البدن .
أقول:يعني أنه لا ينبغي للرجل أن يبغي بفضل قوته على المرأة ولا للمرأة أن تستثقل فضله وتعده خافضا لقدرها فإنه لا عار على الشخص إن كان رأسه أفضل من يده ، وقلبه أشرف من معدته مثلا ، فإن تفضيل بعض أعضاء البدن على بعض بجعل بعضها رئيسا دون بعض إنما هو لمصلحة البدن كله لا ضرر في ذلك على عضو ما وإنما تتحقق وتثبت منفعة جميع الأعضاء بذلك .كذلك مضت الحكمة في فضل الرجل على المرأة في القوة والقدرة على الكسب والحماية ، ذلك هو الذي يتيسر لها به القيام بوظيفتها الفطرية وهي الحمل والولادة وتربية الأطفال وهي آمنة في سربها ، مكيفة ما يهمها من أمر رزقها ، وفي التعبير حكمة أخرى وهي الإشارة إلى هذا التفضيل إنما هو للجنس على الجنس لا لجميع أفراد الرجال على جميع أفراد النساء ، فكم من امرأة تفضل زوجها في العلم والعمل بل في قوة البنية والقدرة على الكسب ، ولم ينبه الأستاذ إلى هذا المعنى على ظهوره من العبارة وتصديق الواقع له وإن ادعى بعضهم ضعفه وبهذين المعنيين اللذين أفادتهما العبارة ظهر أنها في نهاية الإيجاز الذي يصل إلى حد الإعجاز لأنها أفادت هذه المعاني كلها .وقد قلنا في تفسير{ ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض} أن التعبير يشمل ما يفضل به كل من الجنس الآخر وما يفضل به أفراد كل منهما أفراد جنسه وأفراد الجنس الآخر ، ولا تأتي تلك الصور كلها هنا وإن اتحدت العبارة لأن السياق هناك غيره هنا ، على أننا أشرنا ثمة إلى ضعف صورة فضل النساء على الرجال بما هو خاص بهن من الحمل والولادة والرجال لا يتمنون ذلك .ونعود إلى كلام الأستاذ .
قال:وما به الفضل قسمان فطري وكسبي ، فالفطري هو أن مزاج الرجل أقوى وأكمل ، وأتم وأجمل ، وإنكم لتجدون من الغرابة أن أقول إن الرجل أجمل من المرأة وإنما الجمال تابع لتمام الخلقة وكمالها ، وما الإنسان في جسمه الحي إلا نوع من أنواع الحيوان فنظام الخلقة فيها واحد ، وإننا نرى ذكور جميع الحيوانات أكمل وأجمل من إناثها كما ترون في الديك والدجاجة ، والكبش والنعجة ، والأسد واللبوة .ومن كمال خلقة الرجال وجمالها شعر اللحية والشاربين ولذلك يعد الأجرد ناقص الخلقة ويتمنى لو يجد دواء ينبت الشعر وإن كان ممن اعتادوا حلق اللحى ، ويتبع قوة المزاج وكمال الخلقة قوة العقل وصحة النظر في مبادي الأمور وغاياتها ومن أمثال الأطباء والعلماء:العقل السليم في الجسم السليم .ويتبع ذلك الكمال في الأعمال الكسبية فالرجال أقدر على الكسب والاختراع والتصرف في الأمور أي فلأجل هذا كانوا هم المكلفين أن ينفقوا على النساء وأن يحموهن ويقوموا بأمر الرياسة العامة في مجتمع العشيرة التي يضمها المنزل إذ لابد في كل مجتمع من رئيس يرجع إليه في توحيد المصلحة العامة اه بزيادة وإيضاح .
أقول:ويتبع هذه الرياسة جعل عقدة النكاح في أيدي الرجال هم الذين يبرمونها برضا النساء ، وهم الذين يحلونها بالطلاق ، وأول ما يذكره جمهور المفسرين المعروفين في هذا التفضيل النبوة والإمامة الكبرى والصغرى وإقامة الشعائر كالأذان والإقامة والخطبة في الجمعة وغيرها ، ولا شك أن هذه المزايا تابعة لكمال استعداد الرجال ، وعدم الشاغل لهم عن هذه الأعمال ، على ما في النبوة من الاصطفاء والاختصاص ، ولكن ليست هي أسباب قيام الرجال على شؤون النساء وإنما السبب هو ما أشير إليه بباء السببية لأن النبوة اختصاص لا يبنى عليها مثل هذا الحكم كما أنه لا يبنى عليها أن كل رجل أفضل من كل امرأة لأن الأنبياء كانوا رجالا ، وأما الإمامة والخطبة وما في معناهما مما ذكروه إنما كان للرجال بالوضع الشرعي فلا يقتضى أن يميزوا بكل حكم ولو جعل الشرع للنساء أن يخطبن في الجمعة والحج ويؤذن ويقمن الصلاة لما كان ذلك مانعا أن يكون من مقتضى الفطرة أن يكون الرجال قوامين عليهن ، ولكن أكثر المفسرين يغفلون عن الرجوع إلى سنن الفطرة في تعليل حكمة أحكام دين الفطرة ، ويلتمسون ذلك كله من أحكام أخرى .
قال تعالى:{ فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله} هذا تفصيل لحال النساء في هذه الحياة المنزلية التي تكون المرأة فيها تحت رياسة الرجل ، ذكر أنهن فيها قسمان صالحات وغير صالحات وأن من صفة الصالحات القنوت وهو السكون والطاعة لله تعالى وكذا لأزواجهن بالمعروف ، وحفظ الغيب .
قال الثوري وقتادة:حافظات للغيب يحفظن في غيبة الأزواج ما يجب حفظه في النفس والمال ، وروى ابن جرير والبيهقي من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم ( خير النساء التي إذا نظرت إليها سرتك ، وإذا أمرتها أطاعتك ، وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها ) وقرأ ( صلى الله عليه وسلم ) الآية .وقال الأستاذ الإمام الغيب هنا هو ما يستحي من إظهاره أي حافظات لكل ما هو خاص بأمور الزوجية الخاصة بالزوجين فلا يطلع أحد منهم على شيء مما هو خاص بالزوج .
أقول:ويدخل في قوله هذا وجوب كتمان كل ما يكون بينهن وبين أزواجهن في الخلوة ولا سيما حديث الرفث فما بالك بحفظ العرض .وعندي أن هذه العبارة هي أبلغ ما في القرآن من دقائق كنايات النزاهة ، تقرأها خرائد العذارى جهرا .ويفهمن ما تومئ إليه مما يكون سرا ، وهن على بعد من خطرات الخجل أن تمس وجدانهن الرقيق بأطراف أناملها ، فلقلوبهن الأمان من تلك الخلجات ، التي تدفع الدم إلى الوجنات ، ناهيك بوصل حفظ الغيب{ بما حفظ الله} فالانتقال السريع من ذلك الغيب الخفي ، إلى ذكر الله الجلي ، يصرف النفس عن التمادي في التفكر فيما يكون وراء الأستار ، من تلك الخفايا والأسرار ، وتشغلها بمراقبته عز وجل .وفسروا قوله تعالى:{ بما حفظ الله} بما حفظه لهن في مهورهن وإيجاب النفقة لهن ، يريدون أنهن يحفظن حق الرجال في غيبتهم جزاء على المهر ووجوب النفقة المحفوظين لهن في حكم الله تعالى ، وما أراك إلا ذاهبا معي إلى وهن هذا القول وهزاله ، وتكريم أولئك الصالحات بشهادة الله تعالى أن يكون حفظهن لذلك الغيب من يد تلمس ، أو عين تبصر ، أو أذن تسترق السمع ، معللا بدراهم قبضن ، ولقيمات يرتقبن ، ولعلك بعد أن تمج هذا القول يقبل ذوقك ما قبله ذوقي وهو أن الباء في قوله{ بما حفظ الله} هي صنو باء"لا حول ولا قوة إلا بالله "وأن المعنى حافظات للغيب بحفظ الله أي بالحفظ الذي يؤتيهن الله إياه بصلاحهن فإن الصالحة يكون لها من مراقبة الله تعالى وتقواه ما يجعلها محفوظة من الخيانة ، قوية على حفظ الأمانة ، أو حافظات له بسبب أمر الله بحفظه ، فهن يطعنه ويعصين الهوى ، فعسى أن يصل معنى هذه الآية إلى نساء عصرنا اللواتي يتفكهن بإفشاء أسرار الزوجية ولا يحفظن الغيب فيها ! .
الأستاذ الإمام:إن هذا القسم من النساء ليس للرجال عليهن شيء من سلطان التأديب وإنما سلطانهم على القسم الثاني الذي بينه وبين حكمه بقوله عز وجل:{ والتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن} النشوز في الأصل بمعنى الارتفاع فالمرأة التي تخرج عن حقوق الرجل قد ترفعت عليه وحاولت أن تكون فوق رئيسها ، بل ترفعت أيضا عن طبيعتها وما يقتضيه نظام الفطرة في التعامل فتكون كالناشز من الأرض الذي خرج عن الاستواء .وقد فسر بعضهم خوف النشوز بتوقعه فقط ، وبعضهم بالعلم به ، ولكن يقال لم ترك لفظ العلم واستبدل به لفظ الخوف ، أو لم يقل واللاتي ينشزن ؟ لا جرم أن في تعبير القرآن حكمة لطيفة وهي:أن الله تعالى لما كان يحب أن تكون المعيشة بين الزوجين معيشة محبة ومودة وتراض والتئام لم يشأ أن يسند النشوز على النساء إسنادا يدل على أن من شأنه أن يقع منهن فعلا بل عبر عن ذلك بعبارة تومئ إلى أن من شأنه أن لا يقع لأنه خروج عن الأصل الذي يقوم به نظام الفطرة ، وتطيب به المعيشة ، ففي هذا التعبير تنبيه لطيف إلى مكانة المرأة وما هو الأولى في شأنها ، وإلى ما يجب على الرجل من السياسة لها وحسن التلطف في معاملتها ، حتى إذا آنس منها ما يخشى أن يؤول إلى الترفع وعدم القيام بحقوق الزوجية فعليه أولا أن يبدأ بالوعظ الذي يرى أنه يؤثر في نفسها والوعظ يختلف باختلاف حال المرأة فمنهن من يؤثر في نفسها التخويف من الله عز وجل وعقابه على النشوز ، ومنهن من يؤثر في نفسها التهديد والتحذير من سوء العاقبة في الدنيا كشماتة الأعداء والمنع من بعض الرغائب كالثياب الحسنة والحلي ، والرجل العاقل لا يخفى عليه الوعظ الذي يؤثر في قلب امرأته .
وأما الهجر فهو ضرب من ضروب التأديب لمن تحب زوجها ويشق عليها هجره إياها وذهب بعض المفسرين ومنهم ابن جرير الطبري أن المرأة التي تنشز لا تبالي بهجر زوجها بمعنى إعراضه عنها وقالوا أن معنى{ واهجروهن} قيدوهن من هجر البعير إذا شده بالهجار وهو القيد به .وليس هذا الذي قالوه بشيء وما هم بالواقفين على أخلاق النساء وطباعهن فإن منهن من تحب زوجها ويزين لها الطيش والرعونة النشوز عليه ، ومنهن من تنشز امتحانا لزوجها ليظهر لها أو للناس مقدار شغفه بها وحرصه على رضاها ، وأقول ومنهن من تنشز لتحمل زوجها على إرضائها بما تطلب من الحلي والحلل أو غير ذلك ، ومنهن من يغريها أهلها بالنشوز لمآرب لهم .
ولم يتكلم الأستاذ الإمام عن الهجر في المضاجع لأنه بديهي وكم تخبط المفسرون في تفسير البديهيات التي يفهمها الأميون فإنك إذا قلت لأي عامي إن فلانا يهجر امرأته في المضجع أو في محل الاضطجاع أو في المرقد أو محل النوم فإنه يفهم المراد من قولك ، ولكن المفسرين رأوا العبارة محلا لاختلاف أفهامهم فمنهم من صرح بما يراد من الكناية ، وأخل بما قصد في الكتاب من النزاهة ، ومنهم من قال المعنى اهجروا حجرهن التي هي محل مبيتهن ومنهم من قال المراد اهجروهن بسبب المضاجع أي بسبب عصيانهن إياكم فيها .وهذا يدخل في معنى النشوز فما معنى جعله هو المراد بالعقاب ؟ وقال بعض من فسر الهجر بالتقيد بالهجار:قيدوهن لأجل الإكراه على ما تمنعن عنه ، وسمى الزمخشري هذا التفسير بتفسير الثقلاء .
والمعنى الصحيح هو ما تبادر إلى فهمك أيها القارئ وما يتبادر إلى فهم كل من يعرف هذه الكلمات من اللغة .ولك أن تقول العبارة تدل بمفهومها على منع ما جعله بعضهم معنى بها فهو يقول{ واهجروهن في المضاجع} ولا يتحقق هذا بهجر المضجع نفسه وهو الفراش ولا بهجر الحجرة التي يكون فيها الاضطجاع وإنما يتحقق بهجر في الفراش نفسه وتعمد هجر الفراش أو الحجرة زيادة في العقوبة لم يأذن بها الله تعالى وربما يكون سببا لزيادة الجفوة وفي الهجر في المضجع نفسه معنى لا يتحقق بهجر المضجع أو البيت الذي هو فيه لأن الاجتماع في المضجع هو الذي يهيج شعور الزوجية فتسكن نفس كل من الزوجين إلى الآخر ويزول اضطرابهما الذي أثارته الحوادث قبل ذلك فإذا هجر الرجل المرأة وأعرض عنها في هذه الحالة رجي أن يدعوها ذلك الشعور والسكون النفسي إلى سؤاله عن السبب ويهبط بها من نشز المخالفة ، إلى صفصف{[480]} الموافقة ، وكأني بالقارئ وقد جزم بأن هذا هو المراد ، وإن كان مثلي لم يره لأحد من الأموات ولا الأحياء .
وأما الضرب فاشترطوا فيه أن يكون غير مبرح وروى ذلك ابن جرير مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، والتبريح الإيذاء الشديد وروي عن ابن عباس ( رضي الله عنه ) تفسيره بالضرب بالسواك ونحوه .أي كالضرب باليد أو بقصبة صغيرة ، وقد روي عن مقاتل في سبب نزول الآية في سعد بن الربيع بن عمرو وكان من النقباء وفي امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير ، وذلك أنها نشزت عليه فلطمها فانطلق أبوها معها إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال أفرشته كريمتي فلطمها ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لتقتص من زوجها ) فانصرفت مع أبيها لتقتص منه فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ارجعوا ، هذا جبرائيل أتاني ، وأنزل الله هذه الآيةفتلاها ( صلى الله عليه وسلم ) وقالأردنا أمرا وأراد الله أمرا والذي أراده الله تعالى خير ) وقال الكلبي نزلت في سعد بن الربيع وامرأته خولة بنت محمد بن سلمة ، وذكر القصة ، وقيل نزلت في غير من ذكر .
يستكبر بعض مقلدة الإفرنج في آدابهم منا مشروعية ضرب المرأة الناشز ولا يستكبرون أن تنشز وتترفع عليه فتجعله وهو رئيس البيت مرؤوسا بل محتقرا ، وتصر على نشوزها حتى لا تلين لوعظه ونصحه ، ولا تبالي بإعراضه وهجره ، ولا أدري بم يعالجون النواشز وبم يشيرون على أزواجهن أن يعاملوهن به ، لعلهم يتخيلون امرأة ضعيفة نحيفة ، مهذبة أديبة ، يبغي عليها رجل فظ غليظ ، فيطعم سوطه من لحمها الغريض ، ويسقيه من دمها العبيط ، ويزعم أن الله تعالى أباح له مثل هذا الضرب من الضرب ، وأن تجرَّم وتجنى عليها ولا ذنب ، كما يقع كثيرا من غلاظ الأكباد ، متحجري الطباع ، وحاش لله أن يأذن بمثل هذا الظلم أو يرضى به ، إن من الرجال الجعظري{[481]} الجوّاظ{[482]} الذي يظلم المرأة بمحض العدوان ، قد ورد في وصية أمثالهم بالنساء كثير من الأحاديث ، ويأتي في حقهم ما جاءت به الآية من التحكيم ، وأن من النساء الفوارك{[483]} المناشيص{[484]} المفسّلات{[485]} اللواتي يمقتن أزواجهن ، ويكفرن أيديهم عليهن ، وينشزن عليهم صلفا وعنادا ، ويكلفنهم ما لا طاقة لهم به ، فأي فساد يقع في الأرض إذا أبيح للرجل التقي الفاضل أن يخفض من صلف إحداهن ويدهورها من نشز غرورها بسواك يضرب به يدها ، أو كف يهوي بها على رقبتها ، إن كان يثقل على طباعهم إباحة هذا فليعلموا أن طباعهم رقت حتى انقطعت وأن كثيرا من أئمتهم الإفرنج يضربون نساءهم العالمات المهذبات ، الكاسيات العاريات ، المائلات المميلات ، فعل هذا حكماؤهم وعلماؤهم ، وملوكهم وأمراؤهم ، فهو ضرورة لا يستغني عنها الغالون في تكريم أولئك النساء المتعلمات ، فكيف تستنكر إباحته للضرورة في دين عام للبدو والحضر ، من جميع أصناف البشر .
الأستاذ الإمام:إن مشروعية ضرب النساء ليست بالأمر المستنكر في العقل أو الفطرة فيحتاج إلى التأويل فهو أمر يحتاج إليه في حال فساد البيئة وغلبة الأخلاق الفاسدة وإنما يباح إذا رأى الرجل أن رجوع المرأة عن نشوزها يتوقف عليه ، وإذا صلحت البيئة وصار النساء يعقلن النصيحة ويستجبن للوعظ ، أو يزدجرن بالهجر ، فيجب الاستغناء عن الضرب ، فلكل حال حكم يناسبها في الشرع ، ونحن مأمورون على كل حال بالرفق بالنساء واجتناب ظلمهن ، وإمساكهن بمعروف ، أو تسريحهن بإحسان ، والأحاديث في الوصية بالنساء كثيرة جدا .
أقول ومن هذه الأحاديث ما هو في تقبيح الضرب والتنفير عنه ومنها حديث عبد الله بن زمعة في الصحيحين قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أيضرب أحدكم امرأته كما يضرب العبد ثم يجامعها في آخر اليوم ){[486]} ؟ وفي رواية عن عائشة عند عبد الرزاق ( أما يستحي أحدكم أن يضرب امرأته كما يضرب العبد يضربها أول النهار ثم يجامعها آخره ) يذكر الرجل بأنه إذا كان يعلم من نفسه أنه لابد له من ذلك الاجتماع والاتصال الخاص بامرأته وهو أقوى وأحكم اجتماع يكون بين اثنين من البشر يتحد أحدهما بالآخر اتحادا تاما فيشعر كل منهما بأن صلته بالآخر أقوى من صلة بعض أعضائه ببعضإذا كان لابد له من هذه الصلة والوحدة التي تقتضيها الفطرة ، فكيف يليق به أن يجعل امرأته وهي كنفسه ، مهينة كمهانة عبده ، بحيث يضربها بسوطه أو يده ؟ حقا إن الرجل الحييّ الكريم ليتجافى به طبعه عن مثل هذا الجفاء ، ويأبى عليه أن يطلب منتهى الاتحاد بمن أنزلها منزلة الإماء ، فالحديث أبلغ ما يمكن أن يقال في تشنيع ضرب النساء ، وأذكر أنني هديت إلى معناه العالي قبل أن أطلع على لفظه الشريف ، فكنت كلما سمعت أن رجلا ضرب امرأته أقول يا لله العجب كيف يستطيع الإنسان أن يعيش عيشة الأزواج مع امرأة تضرب ، تارة يسطو عليها بالضرب ، فتكون منه كالشاة من الذئب ، وتارة يذل لها كالعبد ، طالبا منتهى القرب ! ! ولكن لا ننكر أن الناس متفاوتون فمنهم من لا تطيب له هذه الحياة فإذا لم تقدر امرأته بسوء تربيتها تكريمه إياها حق قدره ولم ترجع عن نشوزها بالوعظ والهجران ، فارقها بمعروف وسرحها بإحسان ، إلا أن يرجو صلاحها بالتحكيم الذي أرشدت إليه الآية ، ولا يضرب فإن الأخيار لا يضربون النساء وإن أبيح لهم ذلك للضرورة فقد روى البيهقي من حديث أم كلثوم بنت الصديق ( رضي الله عنه ) قالت كان الرجال نهوا عن ضرب النساء ثم شكوهن إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فخلى بينهم وبين ضربهن ثم قال ( ولن يضرب خياركم ) فما أشبه هذه الرخصة بالحظر ، وجملة القول أن الضرب علاج مر ، قد يستغني عنه الخير الحر ، ولكنه لا يزول من البيوت بكل حال ، أو يعم التهذيب النساء والرجال .
هذا وإن أكثر الفقهاء قد خصوا النشوز الشرعي الذي يبيح الضرب إن احتيج إليه لإزالته بخصال قليلة كعصيان الرجل في الفراش والخروج من الدار بدون عذر وجعل بعضهم تركها الزينة وهو يطلبها نشوزا وقالوا ؛ له أن يضربها أيضا على ترك الفرائض الدينية كالغسل والصلاة ، والظاهر أن النشوز أعم فيشمل كل عصيان سببه الترفع والإباء ويفيد هذا قوله:{ فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا} قال الأستاذ الإمام أي إن أطعنكم بواحدة من هذه الخصال التأديبية فلا تبغوا بتجاوزها إلى غيرها فابدءوا بما بدأ الله به من الوعظ فإن لم يفد فليهجر فإن لم يفد فليضرب ، فإذا لم يفد هذا أيضا يلجأ إلى التحكيم ، ويفهم من هذا أن القانتات لا سبيل عليهن حتى في الوعظ والنصح فضلا عن الهجر والضرب .
وأقول:صرح كثير من المفسرين بوجوب هذا الترتيب في التأديب ، وإن كان العطف بالواو لا يفيد الترتيب ، قال بعضهم دل على ذلك السياق والقرينة العقلية إذ لو عكس كان استغناء بالأشد عن الأضعف فلا يكون لهذا فائدة ، وقال بعضهم الترتيب مستفاد من دخول الواو على أجزائه مختلفة في الشدة والضعف مرتبة على أمر مدرج فإنما النص هو الدال على الترتيب .ومعنى لا تبغوا عليهن سبيلا لا تطلبوا طريقا للوصول إلى إيذائهن بالقول أو الفعل ، فالبغي بمعنى الطلب ويجوز أن يكون بمعنى تجاوز الحد في الاعتداء أي فلا تظلموهن بطريق ما ، فمتى استقام لكم الظاهر ، فلا تبحثوا عن مطاوي السرائر:
{ إن الله كان عليا كبيرا} فإن سلطانه عليكم فوق سلطانكم على نسائكم فإذا بغيتم عليهن عاقبكم ، وإذا تجاوزتم عن هفواتهن كرما وشمما تجاوز عنكم ، قال الأستاذ أتى بهذا بعد النهي عن البغي لأن الرجل إنما يبغي على المرأة بما يحسه في نفسه من الاستعلاء عليها وكونه أكبر منها وأقدر فذكره تعالى بعلوه وكبريائه وقدرته عليه ليتعظ ويخشع ويتقي الله فيها .واعلموا أن الرجال الذين يحاولون بظلم النساء أن يكونوا سادة في بيوتهم إنما يلدون عبيدا لغيرهم ، يعني أن أولادهم يتربون على ذل الظلم فيكونون كالعبيد الأذلاء لمن يحتاجون إلى المعيشة معهم .