{ الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم} يقال قام على الشيء وهو قائم عليه وقوام عليه ، إذا كان يرعاه ويحفظه ويتولاه بعنايته والمحافظة عليه ، وليست القوامة مطلق الرياسة ، بل إن الرياسة تسمى قوامة إذا كان الرئيس يقوم على رعاية المرءوس والمحافظة على حقوقه وواجباته ، ومن هذا المعنى قوله تعالى:{ الرجال قوامون على النساء} فإن المعنى أن الرجال يقومون على شئون النساء بالحفظ والرعاية والكلاءة والحماية ، فيقوم الآباء على رعاية بناتهم والمحفظة على أنفسهن وأخلاقهن ودينهن ، والأزواج يقومون على شئون زوجاتهم بالحفظ والرعاية والحماية والصيانة ، ومن هنا تجئ الرياسة ، بل إني أقرر أن قيام الرجل على شئون الزوجة ليس فيه رياسة ، إنما فيه حماية ورعاية وهو من قبيل توزيع التكليفات ، فإذا كان للرجل رياسة عامة ، فللمرأة أيضا رياسة نوعية ، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"الرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته ، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها"{[715]} .
وقد ذكر سبحانه وتعالى سبب تكليف الرجل هذه الرعاية دون المرأة ، فبين سببين:أولهما:قال فيه{ بما فضل الله بعضهم على بعض} ، والتفضيل هو الزيادة في القوة الجسمية والمعرفة ، واختصاص الرجال بالرسالة الإلهية ، والولايات الكبرى ، وقد تبع هذا تكليفات كثيرة على الرجل ، منها الجهاد ودفع الأعداء ، وما عرف التاريخ ان امرأة قادت الحروب ، ومهما يكن من عمل للمرأة في الحروب فهو من قبيل العمال الثانوية ، لا الأعمال الأصلية ، والتفضيل هو تفضيل الجنس على الجنس ، لا تفضيل آحاد ، فمن النساء من هي أقوى من الرجال عقلا ، ومعرفة ، بل قوة جسم في بعض الأحيان ، وقال:{ بما فضل الله بعضهم على بعض} ولم يقل:بما فضلهم الله عليهن اولا للإشارة إلى البعضية المشتركة ، وان الرجال من النساء والنساء من الرجال ، فاللحمة الواصلة واحدة ، وللإشارة إلى ان ذلك التفضيل لصالح الجميع ، يؤدي عمله الذي خلقه الله سبحانه وتعالى له .
والسبب الثاني في القوامة والرعاية والحفظ والصيانة هو ما عبر الله سبحانه وتعالى عنه بقوله:{ وبما أنفقوا من أموالهم} ، وذلك لأن تكليف الرجل بالإنفاق ، وجعله حقا للمرأة عليه ، يجعله مكلفا أيضا أن يرعاها ويصونها ؛ إذ إن ذلك التكليف استوجب ان يكون عمل المرأة داخل المنزل ، وعمل الرجل خارجه ؟ فهي عاكفة على شئون الأطفال وإعداد البيت ليكون جنة الحياة ، وهو مكلف رعاية الجنة وحمايتها وصيانتها .
{ فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله} عن رعاية الرجل للمرأة والعمل على صيانتها وحفظها تختلف باختلاف المرأة ، والمرأة المتزوجة نوعان:إحداهن الصالحة ، والثانية من ليست كذلك ، وهنا يبين هذا النوع . ومعنى الصالحة النافعة المستقيمة في خلقها ودينها ، فهي صالحة في نفسها وزوجيتها ، وقد وصفها الله سبحانه وتعالى بوصفين ظاهرين يميزانها ، ويكشفان عن صلاحها ، في نفسها ودينها:أحدهما أنها قانتة . وقانتة معناها مطيعة عن طيب نفس ، واطمئنان قلب ، لا عن قسر وإكراه ، وهي مطيعة لله تعالى في كل مظاهرها ، ومن طاعة الله تعالى طاعة زوجها في غير معصية . ولم يبين في اللفظ من تطيعه للإشارة إلا ان من طبيعتها الطاعة لصاحب الطاعة . وصاحبها هو الله ، وهو مصدر الطاعات كلها . والوصف الثاني انها حافظة للرجل في غيبه ، وقد عبر الله سبحانه عن ذلك بقوله:{ حافظات للغيب بما حفظ الله} أي يحفظن الأمور المغيبة المستترة ، فلا يفشين ما يكون بينهن وأزواجهن ، ولا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ، ولا يعتدين عليه ، ولا يضعن في الوديعة التي أودعها الله إليهن ما لا يجوز ان يكون فيها ، وقوله تعالى:{ بما حفظ الله} ( ما ) إما مصدرية وإما موصولة ، والمعنى على انها مصدرية:حافظات للغيب بحفظه تعالى ، أي بالصورة التي حفظ الله بها ذلك الأمر وجعله غيبا مكنونا . وعلى انها موصولة:حافظات للأمور الغيبية المستورة بالأمر الذي حفظها الله تعالى في تكوينه وشرعه . والخلاصة على التخريجين ان المرأة الفاضلة الصالحة مع طاعتها لزوجها تحفظ غيبه وستره وعرضه ، وقد جاء الوصفان في قول النبي صلى الله عليه وسلم:"خير النساء من إذا نظر إليها سرته ، وإذا أمرها أطاعته ، وإذا غاب عنها حفظته"{[716]} .
هذا هو القسم الأول من النساء المتزوجات ، والقسم الثاني ما بينه بقوله:
{ واللاتي تخافون نشوزهن فعظهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن} ذلك القسم هو غير الطائع وغير الصالح بلا ريب ، والنشوز خروج الزوجة عما توجبه الحياة الزوجية من طاعة الزوجة لزوجها ، وقيامها على شئون بيتها ، وأصل شاذا فيها ، فيكون نشوز المراة ترفعا او إعراضا عن الحياة الزوجية الطيبة وشذوذا فيها ، وقال سبحانه ،{ تخافون نشوزهن فعظوهن} ولم يقل"ينشزن"للإشارة إلى أمرين:أولهما علاج الداء قبل أن يستفحل ، وذلك بأن يكون العلاج عند وقوع بوادر النشوز وظهور أماراته ، حتى لا يصل إلى أقصى درجاته ، وهو ان تهجر الزوج ، وتخرج من منزله ؛ لأن ذلك العلاج يكون وهي في ظل العش الزوجي لم تغادره- والأمر الثاني استكثار وقوع النشوز بالفعل ، وهو ان تترك البيت على من فيه وما فيه ، وكأنه لا يتصور أن تقع زوجة في ذلك ، ولو لم تسم في لغة الشرع زوجة صالحة . وقد ذكر الله لهذا النوع من النساء ثلاثة أنواع من العلاج:
أولها – ما ذكره سبحانه بقوله تعالى:{ فعظوهن}"الفاء"هنا واقعة في خبر الموصول ؛ لأنه في معنى الشرط فدخلت الفاء في خبره الطلبي ، كما تدخل في جزاء الشرط إذا كان طلبا . والوعظ القول الذي يؤثر في النفس ويوجهها إلى الخير ، وقد قال الخليل بن أحمد:"الوعظ هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب"فالوعظ توجيه إلى الخير بذكر نتائج الشر ، وهو مراتب أعلاها التوبيخ ، وهو أيضا مراتب . ولكل امرأة من النساء ما يليق بمثلها ، فذات الإحساس الرقيق إذا كان منها ما لا يستحسنه ، يقال مثلا:أفعلت هذا ؟ كأنه ينكر ان يكون حدث منها ، او يقول:ما تصورت ان يكون هذا من مثلك . ثم يذكرها بشرف أسرتها ، ثم يذكرها بحق الله تعالى ، ثم يوبخها ، ومنه اللوم ، وهو في كل هذا لا يقسو ولا يعنف .
والثاني – الهجر في المضجع ، والمضجع في المجاز هو المسكن كله ، والهجر المطلوب هو الهجر الجميل ، وهو الهجر من غير جفوة . والهجر مراتب:أدناها ان يكون الهجر في موضع النوم ، وهو المضجع الحقيقي ، والآخر مجازى بان يدير لها ظهره ولا ينام ، فإن علا نام في منام آخر ، فإن علا ترك حجرة النوم إلى حجرة أخرى من غير مجافاة ولا مخاصمة ، ولكل حال نوعها من النساء ونوع من أمارات النشوز وعلاماته التي تكشف عن توقعه عن ترك حبلها على غاربها .
الثالث – من دواء النشوز ، الضرب وهو أقصاها ، ولا يلجأ إليه إلا عند فشل الدواءين السابقين . وقد ثبت ان الضرب المباح يكون عندما تبلغ الحياة الزوجية درجة يخشى عليها من النشوز والافتراق ، وقد قيدته السنة بقيدين . احدهما:ان يكون غير مبرح ، وان يكون غير مشين بألا يضرب الوجه ، فقد صرحت بذلك السنة{[717]} ، وسئل ابن عباس عن الضرب غير المبرح ، فقال:هو الضرب بالسواك او مثله . وهذا هو الضرب المباح ،فهو رمز لاستحقاق الضرب ، وليس بضرب . وقد نص في مذهب مالك على ان الزوج إذا ظلم زوجته وشكته إلى القاضي ، وعظه ، فإن تكررت الشكوى حكم لها بالنفقة ولم يحكم له بالطاعة زمنا ، فإن شكته بعد ذلك عزره بالضرب ليستقيم ، وهذه عقوبات ثلاث تقابل عقاب الزوج لزوجته ، ولكنها اشد واعنف ، فالضرب لا يكون غير مبرح .
{ فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا}البغي الطلب الشديد ، ومعنى النص الكريم:فإن أطاعت الزوجات فلا تطلبوا طريقا من طرق العقاب أيا كان باغين عليهن به ظالمين ، والمغزى ان كل عقاب مع الطاعة ظلم وبغى لا يقصد ولا يطلب ، بل يقصد الزوج إلى استدناء مودتها بالرحمة والعطف والتقريب والتحبب بكل أساليبه . وقد ذيل الله سبحانه وتعالى الآية بقوله:{ إن الله كان عليا كبيرا} ، للإشارة إلى قوته القاهرة ، وانه إذا استعلى الرجل على امرأته فالله العلي الكبير فوقه ، وهو مؤاخذه وآخذه بعذاب أليم .