قوله تعالى: ( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا ) .
قوله: ( الرجال قوامون على النساء ) قوامون مفردها: قوّام وهو القيّم على الشيء أي المسؤول عنه والذي تناط به مهمة الحفاظ والحماية والنفقة .والقوام أو القيّم من القوامة وهي المسؤولية .وذلك تقدير رباني حكيم فيه تقرير لحقيقة تنطق بها الفطرة وتوجبها طبيعة التباين والاختلاف بين الذكورة والأنوثة .
وذلك في مختلف الجوانب العضوية والنفسية والدهنية .لا جرم أن ذلك تقدير رباني مركوز في أعماق الكينونة البشرية لتجيء الحياة على غاية الانجسام والتآلف والتكامل .والفوارق الذاتية بين الرجل والمرأة معتبرة ومقدورة لا ينكرها إلا جاهل مخدوع أو مضلل واهم .فالرجل يفوق المرأة – في الغالب- في قوة الجسد ومتانة الأعصاب ورباطة الجأش وسعة الأفق والمدارك ،ومدى الاحتمال والصبر واشتداد العزم والشكيمة .لكن المرأة في ذلك كله أشد جنوحا للنعومة واللين .وهي أخصب ما تكون إدرارا لعواطفها الصادقة الحرى ،وإحساساتها الرقيقة الجياشة .لا جرم أن هاتيك الفوارق العضوية والنفسية والذهنية تفرض نفسها على الواقع البشري وفي حياة الناس والمجتمع بما يقتضي أن تناط القوامة بالرجل دون المرأة .فهو قمين باحتمالها والتلبس بها أكثر من المرأة بكثير .
وليست القوامة في ذلك بالمنة المفضلة التي حباها الله الرجل ،ولكنها الوجيبة الثقيلة والأمانة الأساسية التي نيطت بالرجل ليكون مسؤولا عنها أمام الله .ولسوف يناقش من أجلها الحساب ليجد جزاءه العسير ان كان من المقصرين المفرطين .
وفلسفة الإسلام في ذلك أصلا قائمة على التنفير من التلبس بالمسؤوليات أو المراكز التي لا ينبري للتشبث بها أو الحرص عليها إلا الخاسرون الهلكى .فلسفة الإسلام في هذه المسألة مبنية على الترغيب في التواضع وبذل العون والخدمات للناس بعيدا عن صخب الشهرة وحب الظهور وإطراء الجمهور .
وقاعدة الإسلام في التفضيل أصلا إنما تقوم على التقوى قبل كل شيء ،من غير التفات في ذلك لأية اعتبارات أخرى كالذكورة أو الأنوثة أو غير ذلك من اعتبارات الدم أو العرق أو اللون أو الحسب والنسب .وإنما الاعتبار الأكبر في ذلك هو التقوى .وأصدق الكلام في هذه الحقيقة قوله تعالى: ( إن أكرمكم عند اله أتقاكم ) وكذلك قوله عز وجل: ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) ذلك هو الاعتبار الحقيقي والمقدور في تصور الإسلام والذي يقع على أساسه التفضيل بين العباد .على أن الاستفادة من خبرة المرأة في كثير من الأمور لهي ذات شأن .فإن الاستفادة منها عن طريق التشاور معها أمر لا مفر منه خصوصا وأنها لذات عاطفة صادقة تتندى إخلاصا وبرا وبذلك فإن مشاورة الزوجة والوقوف على رأيها النافع الجيد لا يتعارض بحال مع إحاطة القوامة بالرجل .وبعد ذلك فإنه ليس لمتفلسف زنديق أو لذي رأي جاحد فاجر أن يصطنع الكلام في حذلقة فارغة ليفتري على القرآن بالطعن الكاذب والاجتراء الفاسد المقبوح .فقد قال قائلهم: إن المرأة لا تقل عن الرجل في أية كفاءة من الكفاءات أو قدرة من القدرات أو موهبة من المواهب .وقال آخرون: لا نرضى أن تناط القوامة بالرجل ،بل كلاهما ينبغي أن يكون قواما .ومثل هذه الحذلقات كثير مما يكشف عن طبائع جانفة يغمرها الحقد أو التعصب أو تحف بها غاشية الجهل بحقيقة الإنسان في طبعه وحقيقة تركيبه .ولا جرم أن يكون الرحمان – جلت قدرته- أعلم العالمين بهذا الإنسان في أصالة تركيبه وجوهر فطرته وهو سبحانه أعلم بحقيقة الحال التي يصلح عليها الإنسان ذكرا كان أم أنثى ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) .
قوله: ( بما فضل الله بعضكم على بعض ) والتفضيل هنا للخصائص العضوية والذهنية والنفسية التي يتغاير فيها الصنفان وذلك في ضوء التركيب الفطري المختلف .
وتفضيل الرجال على النساء حاصل من وجوه كثيرة ،فبعضها صفات حقيقية ،وبعضها صفات شرعية ،أما الصفات الحقيقية فيرجع حاصلها إلى أمرين ،وهما العلم والقدرة فإنه من الحقيقة أن علوم الرجال أكثر وأن قدرتهم على الأعمال الشاقة أعظم .فمن أجل هذين السببين جعلت الفضيلة للرجال على النساء في العقل والحزم والقوة .وان من الرجال الأنبياء والعلماء والشهداء والنوابغ والأفذاذ والمصلحين{[741]} .
قوله: ( وبما أنفقوا من أموالهم ) وذلك أحد أسباب القوامة المنوطة بالرجال وهي التزامهم بالانفاق والبذل من أموالهم سواء كان ذلك على سبيل المهر يقدم للزوجة أو مؤونة الإطعام والإيواء والكساء .وهي أمور قد نيطت بالرجال ليقوم بأدائها كاملة نحو زوجته من غير تأخر .أما المرأة فإنها مبرأة من مثل هذا الالتزام حتى وإن لحقت بالزوج حالة من الإعسار ،فلسوف يبقى هو المكلف في سائر الأحوال فإن لم يستطع القيام بهذا التكليف باتت المرأة مخيّرة بين البقاء أو التفريق .
قوله: ( فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله ) .الله جلت قدرته يثني على النساء الصالحات العابدات اللواتي يطعن أزواجهن في المنشط والمكره إلا في معصية الله واللواتي يقمن بحق أزواجهن في صون أموالهم وأنفسهن حال غياب أزواجهن .وفي الحديث الشريف:"خير النساء التي إذا نظرت إليها سرتك ،وإذا أمرتها أطاعتك ،وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك "وفي حديث آخر عن النبي ( ص ) مخاطبا عمر:"ألا أخبرك بخير ما يكنزه المرء ؟!المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرته ،و إذا أمرها أطاعته ،وإذا غاب عنها حفظته ".
قوله: ( واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن ) قيل في سبب نزول هذه الآية أن سعد بن الربيع نشزت امرأته حبيبة بنت زيد فلطمها فقال أبوها: يا رسول الله أفرشته كريمتي فلطمها .فقال عليه السلام:"لتقتصّ من زوجها "فانصرفت مع أبيها لتقتصّ منه فقال عليه السلام:"ارجعوا هذا جبريل أتاني "فأنزل الله هذه الآية .فقال عليه السلام:"أردنا أمرا وأراد الله غيره "وفي رواية أخرى:"أردت شيئا وما أراد الله خير "{[742]} .واللاتي جمع التي .تخافون بمعنى تعلمون وتتيقنون .والنشوز يقصد به العصيان من الزوجة لزوجها وتعاليها عليه .وأصل النشوز في اللغة الارتفاع .ونشزت المرأة على بعلها بمعنى ارتفعت عليه ويكنّى بذلك عن العصيان له والاستكبار عليه وعدم طاعته{[743]} .يبين الله كيفية التعامل مع الزوجات النواشز اللاتي يستكبرن على أزواجهن ولا يطعنهم فيما يكون إصلاحا لطبعهن وردا لهن إلى الصواب .وذلك من خلال مراحل المعالجة والتأديب حتى إذا لم يتحقق الإصلاح في مرحلة جيء بأخرى عسى أن يكون فيها ما يعيد الزوجة إلى الهداية والسداد والرشد كيلا يقع التفريق وهو في شريعة الإسلام أقسى سبيل ومبغض لله سبحانه .
وبذلك فإن أسلوب الإسلام في الإصلاح والتوفيق بين الزوجين حال نشوز الزوجة يتم من خلال مراحل ثلاث:
أحدها: الوعظ الحسن والكلام المؤثر الرفيق .
ثانيها: الهجر في المضجع وهو طريقة نفسية لا جرم أن تؤثر في الغالب .
ثالثها: الضرب الهيّن الحاني المشروط بعدم التبريح .
فإذا نشزت المرأة في عصيان لبعلها ليس له أن يبادر ليوقع الطلاق فإن ذلك أسلوب عقيم ومشنوء وهو كذلك مبغض للرحمن .بل إن الزوج في هذه الحال يتذرع بالصبر وسعة الصدر وطول الاحتمال ليبادر زوجته بالكلام المؤثر الحاني فيما يستغدق منها فائض حنانها وزاخر عاطفتها .وفي ذلك من الأسلوب الكريم ما عساه يستعيد المرأة إلى حظيرة الزوجية في طاعة وافية ،وعشرة هانئة راضية .ومما لا ريب فيه أن الكلمة المؤثرة الطيبة لهي أشد ما تكون نافعة ونافذة حتى تجد سبيلها إلى عميق القلب بما يحمل الإنسان على التغيير من مواقفه تغييرا كبيرا .وتلك هي حال الإنسان ذي العاطفة والوجدان فإنه يؤثر فيه الكلمة لتنقله من حال إلى حال .يستوي في ذلك أن تكون الكلمة طيبة أو سيئة قاسية .ولا نفترض أن الناس جميعا تأخذهم الكلمة الطيبة لتنفذ إلى قلوبهم نفاذا ثم لتقلب فيهم المزاج قلبا .ولو صح هذا الافتراض لصح معه التصور بأن الناس جميعا قد جاءوا على نمط واحد من التركيبة النفسية والروحية وأنهم لا توجد بينهم شذرة من افتراق في الطبع أو الفطرة .وعلى هذا فإنه لا مناص من أن يكون ثمة علاج ثان ليس من جنس الأول .فقرر القرآن أن يكون هذا العلاج مخاطبا للأنوثة في صميمها بما يقضها بهزة نفسية بالغة قد تكون أشد على المرأة من أسلوب الوعظ والكلام الحسن .والعلاج هنا هو الهجر في المضاجع .بمعنى الابتعاد عن التلاقي في الفراش وعدم المسيس ( الجماع ) فعسى أن يكون في ذلك من القسوة النفسية ما يحمل الزوجة على الإقلاع عن مناشزة زوجها والاستكبار عليه .لكن ثمة عناصر أخرى من النساء اللواتي يختلفن من حيث طبعهن ومزاجهن عن كثير من النساء بحيث لا يحقق الوعظ والهجران نجاعة أو عودا إلى الطاعة وحسن المعاشرة .وقرار الإسلام هنا أن يتحقق ذلك في الضرب المشروط بعدم التبريح .وهنا تقوم قائمة الحاقدين المبغضين أو المتعصبين والجهلة الذين يتصيدون المنافذ فيلجون منها إلى الإسلام ليشيروا من حوله الشبهات .وفي هذا الصدد يردون على المعالجة بالضرب لينفوا عنها نجاعة الأسلوب فضلا عن الأباطيل والأقاويل التي تقال في هذا المجال افتراء على الإسلام وتخريصا .أما بالنسبة للمعالجة بالضرب فما كان ذلك غريبا وما كان ليثير أدنى تساؤل أو امتعاض لو أن الأمر نوقش بإخلاص وتجرد وروية .لكن المتسائلين المستغربين لهذا الإجراء ( الضرب ) لا يفارقهم التعصب أو الجعل بحقيقة الإنسان .ذلك أن الضرب وسيلة للمعالجة تدخل في جملة الوسائل العلاجية المتعددة .وما الضرب إلا إحدى هذه الوسائل باعتباره الرادع المناسب والذي يستقيم به الطبع الناشز أو الخلق الذي سيم الميل والانحراف .على أن الضرب لا يقصد به الانتقام أو إشفاء الغليل ولا هو نتيجة لكراهية وحقد .ليس في وسيلة الضرب شيء من ذلك ولكنه مجرد وسيلة للعلاج باتت هي الاكثر ملاءمة للموقف الحاصل أو هو سبب يتحقق به التأديب و العود إلى الصواب والاستقامة .وقد يعرض لمتسائل هذا السؤال: أفلا يجوز للزوجة أن تعاقب زوجها بالضرب حال سفهه أو تجاوزه عليها ،وللإجابة نقول: إذا ما تحقق ذلك فإنه سيكون قلبا للاعتبارات والموازين رأسا على عقب مثلما يضرب المرؤوس رئيسه أو الجندي ضابطه في الكتيبة أو الميدان ،إن ذلك يعني التشويه الممجوج للصورة في حقيقتها ووجهها الناصع أو يعني المخالفة الصريحة لأبسط قواعد التربية والمنطق .فالمرؤوس لا يؤدب رئيسه بالضرب وليس للابن أن يعاقب أباه بحجة التأديب .ليس الأمر كذلك إلا أن يقع شيء من ظلم ،فإن وقع ظلم كان للمظلوم أن يرفع ظلامته للقضاء ليباشر دوره في التحقيق وإحقاق الحق ،كما لو كان قصاصا ينبغي أن يقاد فيه للمظلوم من الظالم .
وعلى أية حال فإن الضرب إن وقع فهو مشروط فلا يكون فيه خدش للجسم أو كسر للعظم ولا لطم للوجه فإن الوجه موضع احترام فلا يجوز ضربه .يقول النبي ( ص ) فيما رواه مسلم عن جابر:"اتقوا الله في النساء ،فإنكم أخذتموهن بأمانة الله ،واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرّح "والتبريح ما أدى إلى الكسر أو الجرح .
وجدير بالقول كذلك أنه يحسن الاصطبار على نشوز الزوجة وعدم ضربها فهو أفضل من الوجهة الشرعية لعموم حديث النبي ( ص ):"ما أكرمهن إلا كريم وما أهانهن إلا لئيم ".
وقوله: ( فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا ) إذا عادت المرأة إلى طاعة الزوج وأقلعت عن النشوز والعصيان فليس للزوج بعد ذلك أن يلحق بها أذى أو ظلما بقول أو فعل .وهو لم يبق له بعد عودتها للطاعة سبيل عليها كيلا يحيف عليها في ظلم وإن اقترف شيئا من ذلك فإن الله كبير ومنتقم وهو سبحانه يتوعد المخالفين عن أمره توعدا .