مناسبة النزول
جاء في أسباب النزولللواحديقال مقاتل: نزلت هذه الآية في سعد بن الربيع ،وكان من النقباء ،وامرأته حبيبة بنت زيد بن أبي هريرة ،وهما من الأنصار ،وذلك أنها نشزت عليه ،فلطمها ،فانطلق أبوها معها إلى النبي( ص ) فقال: أفرشته كريمتي فلطمها ،فقال النبي( ص ): لتقتصّ من زوجها ،وانصرفت مع أبيها لتقتص منه ،فقال النبي( ص ): ارجعوا هذا جبريل عليه السلام أتاني ،وأنزل الله تعالى هذه الآية ،فقال رسول الله( ص ): أردنا أمراً وأراد الله أمراً والذي أراد الله خير ،ورفع القصاص .وقال الكلبي: نزلت في سعد بن الربيع وامرأته خولة بنت محمد بن مسلمة وذكر القصة نحوها .
ونلاحظ على هذه الرواية أن الحكم بالقصاص لا تنفيه هذه الآية ،لأنها تتعرض لمسألة دور الرجل في الحياة الزوجية في قيمومته على المرأة أو في قيامه عليها ،بمعنى كونه المسؤول عنها في دائرة الزواج ،بلحاظ ما جعل الله له من الحق المميز ،ولكن ذلك لا يلغي حقها في القصاص كإنسانة معتدى عليها بما لا حقَّ للرجل فيه ،ألا ترى لو أن الرجل أخذ منها مالها ألا يحقُّ لها مقاصّته بماله اختياراً أو قهراً ؟!والوجه في ذلك أنه لا منافاة بين القوامة وبين ثبوت الحق في الاقتصاص بفعل العدوان .وهكذا لو أن الرجل هجم على زوجته ليضربها ،فهل يحرم عليها أن تقف لتدافع عن نفسها إذا توقف ذلك على أن تضربه .إننا لا نرى هناك علاقة بين الايتين من قريب أو من بعيد .وربما كانت هذه الروايات المتعددة في أسماء الأشخاص الذين نزلت فيهم ،دليلاً على أن المسألة لم تكن حديثاً عن سبب تاريخي لنزول الآية بشكل موثوق ،بل كانت اجتهاداً من هؤلاء المعنيين بالحديث عن أسباب النزول بطريق غير موثوق .
وجاء في تفسير الميزانحول الموضوع نفسه: وفي ظاهر الروايات إشكال آخر ،من حيث أن ظاهرها أن قوله( ص ): القصاص بيانٌ للحكم عن استفتاء من السائل لا قضاء فيما لم يحضر طرفا الدعوى ،ولازمه أن يكون نزول الآية تخطئةً للنبي( ص ) في حكمه وتشريعه ،وهو ينافي عصمته ،وليس بنسخ ،فإنه رفع حكم قبل العمل به ،والله سبحانه وإن تصرّف في بعض أحكام النبي( ص ) وضعاً أو رفعاً ،لكن ذلك إنما هو في حكمه ورأيه في موارد ولايته ،لا في حكمه في ما شرّعه لأمّته ،فإن ذلك تخطئة باطلة .
ولكن يمكن أن يرد على صاحب الميزان بأن النبي( ص ) حكم بالقصاصعلى تقدير صحة الروايةانطلاقاً من آية القصاص التي تقتضي اقتصاص المعتدى عليه من المعتدي بمثل ما اعتدى عليه ،ولكن الله أنزل آية القوامة التي تنسخ حكم قصاص المرأة من زوجها في عدوانه عليها ،فلا يكون النسخ قبل العمل ،باعتبار أن الحكم كان عاماً معمولاً به في صيغته العامة في شموله للرجال والنساء معاً .
الرجال قوامون على النساء
في هاتين الايتين بعض الملامح البارزة للتخطيط القرآني للوضع التشريعي للأسرة ،في علاقة الرجل بالمرأة كزوجين ؛فقد أكدت الآية الأولى مبدأ قوامة الرجال على النساء ،فلهم الحق في القيمومة في داخل الحياة الزوجية ،في ما تحتاجه من شؤون الإدارة والرعاية ؛وذلك على أساس نقطتين أبهمت الآية إحداهما ،وأوضحت الآخرى .الأولى: تفضيل الرجال على النساء ،من خلال بعض الخصائص الذاتية الكامنة في تكوينهما ؛الثانية إنفاق الرجال على البيت الزوجي وعلى النساء من أموالهم .والظاهر أن النقطتين معاً هما الأساس في الحكم ،لا كلّ واحدةٍ باستقلالها .وعلى هذا الأساس ،يمكننا أن نلاحظ على بعض المفسرين الذي اعتبر أمر القوامة شاملاً للحياة الزوجية ولغيرها ،على أساس فكرة التفضيل ،كعلّة مستقلّة ؛وفي ضوء ذلك اعتبر إدارة الرجل للحكم والقضاء وغيرهما من الأمور التي تمثّل الهيمنة على الحياة العامة ،واختصاصها به دون المرأة ،مظهراً من مظاهر القوامة ؛ولكننا لا نجد ذلك مفهوماً من الآية التي يوحي جوّها العام بالحديث عن البيت الزوجي ،وذلك من خلال التفريع الذي لا يعتبر مجرّد تفريع جزئي لأمر عام شامل ،بل يمثلبحسب الظهور العرفيتفريعاً ذا دلالة على نطاق الشمول في الحكم .ولولا ذلك ،لكان الحديث عن القضاء والحكم والجهاد أولى من الحديث عن فرض النظام في البيت .
هذا من جهةٍ ،ومن جهة أخرى ،فإن الآية تتحدث عن القوامة في الدور الذي يقوم به الرجل إزاء المرأة ؛لتكون القضية في كل جزئياتها التطبيقية قضية رجل وامرأة .وهذا ما لا تتكفل به قضية القوامة في موضوع الحكم والقضاء ؛فإن الهيمنة فيهما على كل الناس الذين يتعلق بهم الحكم والقضاء ؛ولكن من غير الجو الذي تعيش فيه الآية بحسب مدلولها اللفظي .وقد يستوحي الإنسان من الحكم في داخل الحياة الزوجية ،بعض ملامح الحكم في غيره ،بالنظر إلى الأهمية في الأمور العامة بإزاء الأمور الخاصة .
وقد نستطيع تسجيل ملاحظة أخرى على بعض الكلمات التي تتحدث عن طبيعة الحكم الشرعي ،في بعض الحالات التي تقوم فيها الزوجة بالإنفاق على البيت الزوجي ،فهل يكون لها الحق في القوامة على أساس اعتبار الإنفاق مبرراً قرآنياً لذلك ؟وخلاصة الملاحظة هو ارتكاز الحكم على النقطتين معاً ،لا على كل واحدة باستقلالها .هذا من جهة ،ومن جهةٍ أخرى ،فإن الإنفاق الذي يتحدث عنه القرآن هو الإنفاق المرتكز على أساس المسؤولية ،في ما يوجبه الإسلام من مهرٍ ونفقةٍ على الزوج للزوجة لا الإنفاق المبنيّ على أساس التبرُّع ؛فكأنّ الآية تريد أن تعتبر إلزام الزوج بذلك وقيامه به أساساً للحكم ؛ولهذا جاء في بعض الأحاديث ،التي أفتى كثير من الفقهاء على أساسها ،أن الزوج إذا امتنع عن القيام بالنفقة ،أمكن للحاكم الشرعيبعد تخييره بين الطلاق والإنفاقأن يطلّقها من دون رضاه ،لسقوط القوامة بسقوط أحد الأمرين اللذين ترتكز عليهما القوامة ؛والله العالم .
والآن ما هي طبيعة القوامة في الحياة الزوجية ،وما هي حدودها التفصيلية ؟ثم ما هو معنى التفضيل ؟ولماذا كان الإنفاق مسؤولية الزوج دون المرأة في التخطيط الإسلامي للحياة الزوجية ؟
ما هي طبيعة القوامة في الإسلام ؟
أمّا الجواب عن السؤال الأول ،فقد يخيّل لبعض الناس أنها تعني السيادة والسيطرة ،فليس للمرأة كلمة مقابل كلمة الزوج ؛وليس لها موقف أمام موقفه ؛سواءٌ في ذلك في قضاياها الخاصة أو في القضايا العامّة ،وليس لها اختيار في إدارة أمورها المالية والحياتية ،وبذلك تتحول إلى كميّة مهملةٍ خاليةٍ من كل سمات الشخصية الإنسانية المستقلة ،لتكون الإنسان التابع ،لا المستقل .
ولكن هذا بعيدٌ عن الجو الإسلامي في التشريعات الخاصة بالأسرة ؛فالزواج لا يلغي شخصية المرأة في جميع الأمور التي لا يشملها العقد الزوجي ،من خلال ما تلتزم به المرأة من شؤون الحياة ،بل كل ما يلزمها به من ناحية قانونية هو الجانب الذي تلزم به نفسها ؛فإن لعقد الزواجفي طبيعتهمفهوماً محدوداً من خلال ما يفرضه من التزامات ،لا بد لكل منهما من الوقوف عندها تبعاً للالتزام بالعقد ؛وهو المفهوم الذي يفرض على الزوجة الاستجابة لزوجها في نطاق حاجته الجنسية كلما رغب إليها في ذلك ،فليس لها أن تمنعه من ذلك أو تقيم الحواجز المادية والمعنوية التي تحول بينه وبين تلبية حاجاتهفي غير الحالات الطارئة التي تمثل مانعاً شرعياً أو صحياً أو غير ذلك مما يخرج عن نطاق إرادتها الطبيعية . وليس لها على هذا الأساس أن تخرج من بيته بغير إذنه في الحالات الطبيعية ،إذا كان ذلك منافياً لحقه في هذا المجال ؛وعلى الزوج أن يلبي رغبة زوجته في ذلك ،وهو ما يلتقي مع مفهوم المعاشرة بالمعروف وحمايتها من الانحراف .وربما كان التركيز على الجانب الجنسي في العلاقة الزوجية ،والتشديد على الالتزام به ،منطلقاً من اعتبار الحاجة الجنسية ومتفرّعاتها في ما تحدثه من طمأنينةٍ ومودّةٍ وسكينةٍ روحيةٍ ،أساساً في هذا العقد الذي أريد له أن يكون قاعدة لتنظيم حاجات الغريزة في أجواء روحية ونفسية هادئة .أما هذا الإلحاح على تلبية رغبة الزوج بشكل دقيق حاسم ،فلعل ذلك ناشىء من طبيعة سرعة الإثارة في هذا الجانب لدى الرجل أكثر مما هي لدى المرأة التي تحتاجفي أغلب الحالاتإلى إعداد معقّد لذلك ،مما يتطلب حماية الزوج لنفسه ،لئلا يبتعد عن الخط المستقيم الذي يهدم العلاقة وينحرف بها إلى مهاوٍ سحيقة .ومع ذلك ،فإنّ عليه أن يقابلها بالمثل في حالات الخوف من انحرافها وإمكانية وقوعها في الحرام انطلاقاً من اجتهادات فقهية خاصة .
وعلى الزوج أن يكفل لزوجته النفقة في المعروف بحسب إمكاناته ،في ما تقتضيه حاجاتها المادية بحسب حالها .وللزوج الحق في إنهاء العلاقة الزوجية بالطلاق ،كمبدأ ،مع مراعاة الأجواء الأخلاقية التي جعلها الإسلام في تخطيطه لبناء الشخصية الإسلامية على أسس أخلاقية تمنعه من ممارسة التصرفات المرتجلة بلا مبرّر .وهذا ما يفرضه عقد الزواج من التزامات على الطرفين ،ويبقى لكل منهما الحرية في كل القضايا الذاتية المتعلقة بالأعمال الآخرى ،في شؤون العمل المنزلي ،وفي حدود الشخصية المالية والاجتماعية لكل منهما ،مما لا يتنافى مع الالتزامات الزوجية الخاصة ،فليس للرجل أن يفرض على زوجته القيام بإدارة البيت الزوجي إلا على أساس التزامها بذلك في ضمن شرطٍ شخصيّ بينهما ؛حتى في موضوع حضانة الأولاد ورعايتهم ،فإنها ليست مسؤولية الزوجة من ناحية شرعية قانونية ،بل هي مسؤولية الزوج ،ولها الحق في أن تطلب أجراً على ذلك ،باعتبار أن الإسلام يحترم عملها في نطاق قيمته الإنسانية والمادية ،وليس للمرأة أن تفرض على زوجها القيام بالنفقات الزائدة عن حاجتها ،أو بتلبية بعض رغباتها الذاتية أو الاجتماعية في خارج نطاق التزاماتٍ عقد الزواج .
وهكذا نجد أن الإسلام جعل لكل منهما مساحةً واسعةً للتحرك بحرية في ما يؤكد له إنسانية إرادته ،وقيمتها في مجال العلاقة ،ولكنه لم يترك الأمر للمزاج الذاتي وللرغبة الطارئة في قيام كل منهما بما لا يجب عليه تجاه الآخر ،بل أوحى إليهما بأن الأساس المادي الذاتي ليس هو الأساس الذي ينبغي للزواج أن يرتكز عليه ،فليس الزواج شركة مادية جامدة تخضع للحسابات الدقيقة في نطاق الأرباح والخسائر ،بل هي علاقة روحية متحركة على أساسٍ إنسانيّ يجعل من شخصية كل منهما امتداداً روحياً لشخصية الآخر ،فأراد لهما أن ينطلقا من خلال المودّة التي تعبر عن العاطفة الصحيحة الحميمة في شعور كل منهما تجاه الآخر ،ومن خلال الرحمة التي تعبّر عن وعي كل منهما لظروف الآخر في أحاسيسه وأفكاره وعلاقاته وتصرّفه معهعلى هذا الأساسانطلاقاً من الإرادة الإلهية .وهذا ما عبّرت عنه الآية الكريمة:{وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [ الروم:21] ،وقوله تعالى:{هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [ البقرة:187] .
وقد اعتبر الحديث الشريف حسن معاشرة المرأة لزوجها جهاداً ،كما ورد في قوله( ص ): «جهاد المرأة حسن التبعُّل ...» وغير ذلك من النصوص الدينية التي أرادت أن تجعل من الإخلاص لهذه العلاقة والصبر على سلبياتها ،موقفاً يقرّب الإنسان إلى الله ،تماماً كما هي العبادة والجهاد ونحوهما ...
وفي ضوء ذلك كله ،تتحرك العلاقة الزوجية في وعي كل منهما من خلال روح العطاء والتضحية والمحبة ،بعيداً عن الحسابات المادية الجامدة ؛فنجد المرأة تتفانى في خدمة زوجها وأطفالها في كل ما تستطيع أن تبذله أو تقدمه من نفسها ومالها وحياتها ،ونجد الرجل يتحرّك ليجعل كل حياته لزوجته وأولاده ،حتى يصل إلى حد حرمان نفسه من كثير من رغباته لمصلحة حياتهم ،وذلك عندما تسير العلاقة الزوجية في خط متوازن سليم .وقد انطلق الإسلام في ذلك ،ليشعر الزوجان بأن حياتهما لا يحكمها القانون من خلال التزاماته والتزاماتها ،بل يقف إلى جانب ذلك ،الحالة الإنسانية التي تشعر الإنسان بروح العطاء في سبيل الآخرين ،من خلال رغبته في الحصول على رضا الله وتأكيد الجانب الروحي لإنسانيته في ذلك كله .
وبهذا نعرف أن القوامة تعني الحق في تحمل مسؤولية البيت الزوجي ،من خلال الالتزامات الشرعية التي يفرضها عقد الزواج ،أو التي تقتضيها الحالة القانونية من خلال ما يملكه الرجل من أموال في داخل البيت الزوجي ،وفي قدرته على تطبيق الشريعة في بعض الجوانب الخاصة المتعلقة بالوصول إلى حقهكما سنرىوفي أن الطلاق بيده ؛وليس له أي جانب آخر من القوامة في غير ذلك كله .
وهكذا نجد أن الموضوع لا يدخل في نطاق إلغاء شخصية المرأة ،بل في تأكيد شخصيتها في إلزامها بتنفيذ ما التزمت به ،في الوقت الذي جعل الإسلام لها الحق في أن تشترط لنفسها ما تشاء من شروطٍ ضمن العقد الزوجي ،مما لا يخالف الإسلام بشكل واضح .
حدود تفضيل الرجال على النساء
أما موضوع التفضيلالذي جاءت به الفقرة الكريمة:{بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ،فقد ذكر الكثيرون أنه إشارة إلى تفضيل الرجل على المرأة بقوة التعقُّل والإدراك ،مما يجعل عقل المرأة دون مستوى عقل الرجل ؛ويؤكد هؤلاء هذه الفكرة بما ورد في بعض الكلمات المأثورة عن النساء من الحديث عن نقصان عقولهن .ويضيف البعض إلى ذلك ،حديثاً عن الجانب الجسدي الذي يجعل الرجل قادراً على القيام بالكثير من الأعمال الشاقة التي تحتاج إلى جهدٍ عقلي مما لا تستطيع المرأة القيام به ...
ولكن ،هل نستطيع إعطاء الحكم في هذا الموضوع ،بالطريقة التي يتحدّث بها هؤلاء ؟وهل هو من الموضوعات الغيبية التي لا تدخل تحت الملاحظة والتجربة ،لترجع أمره إلى الغيب في حكمٍ ضبابي غامض ؟الجواب: أننا نتحفظ حول ذلك ،لأننا لا نملك الوسيلة لتأكيده ،بل ربما نحاول أن نفهم من مساواة التشريع الرجال والنساءفي أكثر الجوانبأنّ درجة الوعي والعقل التي ينطلق منها تحديد المسؤولية في العمل والحركة واحدة لدى الفريقين ،كما أن الشواهد الحية تدل على أن الكثيرات من النساء الّلاتي يعشن في ظروف مماثلة لظروف الرجال الحياتية الخاصة والعامة ،قد استطعن أن يثبتن قدرتهن على التركيز والوعي والحس الدقيق لكل القضايا المطروحة أمامهن من ناحيةٍ فكريةٍ وعمليةٍ .
أما الأحاديث عن نقصان العقول لديهن ،فقد جاء في بعضها الاستشهاد على ذلك بما جاء في القرآن الكريم ،من أن شهادة امرأتين في مقابل شهادة رجل واحد ،مما يعني أن القضية لا تدخل في التقييم من الناحية الإيجابية ،بل من الناحية السلبية .ولكن كيف نفهم ذلك ؟الجواب ربما تكون المسألة واردة في ما أثير من قوة الرصيد العاطفي لدى المرأة الذي أودعه الله فيها وتأثيره في شخصيتها كأنثى وكأم .وقد يكون لذلك أثر كبير في انفعالها بالأحداث المأساوية ،أو بالقضايا العاطفية ،مما يوجب انحرافها عن الخط المتوازن في النظرة الهادئة للأشياء ،ولا سيما في ما يتصل بالمشاكل التي قد تحدث في داخل الحياة الزوجية .وهذا هو ما تمثله الآية الكريمة التي تحدثت عن عدم قبول شاهدة واحدة في مقابل قبول شهادة رجل واحد في قوله تعالى:{أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى} [ البقرة:282] ،مما يوحي بإمكانية الانحراف ؛فكان الاحتياط للعدالة يفرض ضم امرأة أخرى إليها لتذكّرها وتهديها سواء السبيل .وقد يعني هذا أن القضية هي قضية إمكانية الانفعال بالموقف لا حتميّته ،بدليل أن الآخرى قد تتماسك لتصحح المسألة في حالة الخطأ .
وقد ألمحنا في بداية السورة إلى أن هذا الضعف الأنثوي العاطفي يمكن أن يتوازن بواسطة التربية الطويلة ؛ولكن التشريع يحتاط للإنسان ،فيتحرك في أحكامه على أساس الطبيعة العامة للأشياء .وفي ضوء هذا ،يمكن أن تكون القوامة خاضعة لضعف الجانب العاطفي لدى الرجل ،مما يجعل انفعاله بالحالات الطارئة الانفعالية أقلّ مما لدى المرأة ،ويمكن أن تكون المسألة متصلة بالحالات الجسدية التي تتعرض لها المرأة الأم من الحمل والإرضاع والتربية ونحوها ،مما لا يترك لها المجال للتفرّغ والتركيز لإدارة شؤون الحياة الزوجية ؛وبذلك يكون التفضيل بمعنى الخصائص الذاتية التي تجعل قدرة الرجل على مواجهة الموقف بهدوء أكثر من المرأة في قضايا الطلاق والحاجات الذاتية الخاصة ؛ويمكن أن يكون هناك أشياء خفية لم نحط بعلمها ،مما هي عند الله في تكوين الرجل والمرأة .
أما السبب في اختصاص الرجل بمسؤولية الإنفاق ،فربما يكون مرتبطاً بما خطط له الإسلام من تنظيم الأسرة في اعتبار دور الأمومة أساسياً في حياتها ،مما يفقد المرأة الفرص الواسعة الكفيلة بتحقيق الاكتفاء الذاتي للأسرة ؛لأن الإسلام قد يرى أن الأسرة تحصل على المكاسب الكبيرة من خلال رعاية المرأة للبيت ،أكثر مما تحصل عليه من ابتعادها عنه للعمل ،بل ربما كان عمل المرأةمن خلال ما نشاهده من تجارب في واقعنا المعاصرموجباً لكثير من النتائج السلبية الروحية والمادية للأسرة ،لا سيما للأطفال الذين يفقدون رعاية الأم لتتلقفهم الخادمات ودور الحضانة ؛كما أنه يؤدي إلى إرهاق الأم العاملة التي تجمع بين متاعب العمل ومتاعب البيت في أغلب الأحيان .ولسنا هنا لنقرر حرمة عمل المرأة ،أو لنحاربه من ناحية المبدأ ،ولكن لنؤكد على الحقيقة الإسلامية التي لا تعتبر أنه الأفضل ،في حال تعارضه مع نمو وتطور حياة الأسرة الروحية والمادية .
القرآن يرسم ملامح الصورة المشرفة للنساء المؤمنات
{فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ...} هذه صورة مشرقة من صور النساء المؤمنات الواعيات ،اللاتي يفهمن مسؤوليتهن الشرعية تجاه أزواجهن ،في ما يفرضه الله عليهممن خلال عقد الزواجمن قيود والتزامات ؛فيخشعن لله في كل موقف من المواقف التي تواجههن فيها عوامل الإغراء ونوازع النفس الأمّارة بالسوء ،ويقفن وقفةً إيمانيةً خالصةً قوية رافضة لكل ذلك ،موقنات بأن قيمة المؤمن في إيمانه هي أن يلتزم بعهده وميثاقه ،فلا يسيء إليه في قليل أو كثير ؛وبذلك يحفظن أزواجهن في غيبتهم ،من خلال ما يفرضه عليهن الزواج ،من أمانة النفس والمال والسرّ والعرض ،وغيرها من الأمور التي حفظها الله في تشريعه ،وأراد من الزوجات أن يحفظنها في ممارستهن العمليّة ...
إن الالتزام الزوجي يحوّل الحياة الزوجية إلى أمانةٍ في عنق الزوجين ،في كل ما يترتب عليها من التزامات ومسؤوليات ؛وبذلك يفقد كل واحد منهما حريّته الفرديّة .ففي ما يتعلق بالزوجة ،ليس لها الحرية في أن تهب نفسها لمن تشاء ،وليست حرّة في أن تتصرف بأموال زوجها بما شاءت من دون رضاه ،أو تفضي إلى الآخرين بما تعرفه من أسرار الحياة الزوجية أو أسرار زوجها الخاصة ،فإن ذلك كله أمانة الله في عنقها ،وليس ذلك قيد عبوديّة ،كما يحاول بعض الناس اعتباره ،مصورين مؤسسة الزواج ذروة المأساة بالنسبة إلى المرأة ،متباكين على الحرية التي تفقدها المرأة من خلالها .أما السر في ما قلناه ،فلأن القيود الزوجية تؤكد جانب الحرية ولا تلغيها ،لأنها انطلقت من موقع إرادة المرأة الحرة التي هي شرط في صحة العقد ،ولم تنطلق من سيطرة إرادة أخرى على حياتها .إن مفهوم الحرية يلتقي بالفكرة التي تجعل قرار الإنسان خاضعاً لإرادته الحرة ،فبإمكانه أن يتخذ قراراً أو لا يتخذه ،ولكنه إذا أراد والتزم بالقرار ،كان التزامه تأكيداً لمعنى الحرية التي كان القرار أحد نتائجها الطبيعية .
كيف عالج القرآن مشكلة النشوز ؟
{وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ ...} وهناك نموذج آخر من النساء يختلف كثيراً عن هذا النموذج ،هو نموذج المرأة التي تتمرّد على زوجها في حقوقه الشرعية اللازمة عليها ،من خلال التزامها بعقد الزواج ؛وهذا هو معنى النشوز الذي يعني الارتفاع .وقد استخدمت الكلمة هنا للتعبير عن ارتفاع المرأة عن طاعة زوجها ،على سبيل الكناية ؛فإذا ظهرت أمارات ذلك على الزوجة ؛وعرف الزوج ،من خلال دراسته للحالة بذهنية عادلة ،أنه لم ينشأ من ظروف صحية أو شرعية ،فلا بد له من معالجة الحالة معالجة واقعية بعيدة عن الانفعال والتشنّج ،وذلك من أجل حل هذه المشكلة حلاً إسلامياً ،لإقامة النظام داخل البيت الزوجي على الأسس التي تم الاتفاق عليها بالعقد .
وقد يطرح بعض الناسفي هذا المجالسؤالاً يتعلق ببعض الحالات النفسية التي قد لا تكون الزوجةمعهافي الوضع النفسي المريح الذي يمكنها من الإقبال على العلاقة الجنسية ،فكيف يمكن للتشريع أن يضغط عليهافي مثل هذه الحالةويفرض عليها الاستجابة لرغبات الزوج ،مما قد يساهم في تحطيم شخصيتها وتعقيدها إزاء هذه العلاقةمن حيث الأساسفي المستقبل ؟والجواب ؛إن الإسلام لا ينظر إلى هذه المسألة نظرة شاعرية ،على الطريقة التي ينظر إليها السؤال ،بل يحاول أن يجعل الزواج علاقة تعاقدية مرتكزة على المصلحة الحقيقية للزوجين ،يلتزمان فيها بالتنازل عن بعض حريتهما لحساب الحقوق المتبادلة التي يفرضها العقد على أحدهما تجاه الآخر ،وذلك هو الفرق بين الحياة الفردية والحياة الجماعية ؛فإن معنى أن تكون جزءاً من مجموعةٍ صغيرةٍ ،أو كبيرةٍ ،هو أن تتصرف كجزءٍ من الكل ،لا كفردٍ مستقل ؛فتتنازل عن بعض حريتك لمصلحة هذا الدور ؛وعلى ضوء هذا ،فإن الله أراد للزواج أن يعصم الزوجين من الانحراف الجنسي والبحث عن وسائل غير شرعية ،فألزم الزوجة بالاستجابة لرغبات الزوج المشروعة ،واعتبر ذلك من وسائل التقرب إلى الله ،ليعطي الاستجابة معنى روحياً يوفّر لها الحالة النفسية البديلة عن الحالة الذاتية ،لتعصم الزوجة زوجها من البحث عن رغبته خارج نطاق البيت الزوجي ،مما يتسبب في هدم الزواج في نهاية المطاف ...وبذلك أراد لها أن تتغلب على مزاجها لمصلحة رغبته ،لأنها إذا فقدت بعضاً من مزاجها ،فإنها تربح موقعاً ثابتاً من مواقع تأكيد مفهوم المودّة والرحمة في حياتهما الزوجية .
أما السبب في التأكيد على هذا الجانب لدى الرجل ،فما أشرنا إليه قبل هذا الحديث ،من أن عنصر الإثارة الذي يقود إلى يقظة الرغبة الجنسية لدى الرجل أكثر من عنصر الإثارة لدى المرأة ،ولهذا نلاحظ أن الرجل هو الذي يقود المرأة إلى الانحراف بأساليبه المتنوّعة ،بينما نجد أن انحراف المرأة ينطلقغالباًمن حالة مادية لا من حالة جنسية ،بينما الأمر بالعكس لدى الرجل ،لأن الجنس يمثل بالنسبة إليه حالة شبه يومية ،تبعاً لتوفر عناصر الإثارة لديه .
إنّ نظرة السؤال إلى المشكلة لا تعالج الموضوع معالجة واقعية ،لأنها تطلب من الزوج أن يكبت رغبته احتراماً لرغبتها ؛وقد نستطيع أن نثير سؤالاً آخر ،ماذا يصنع الرجل إذا كانت الزوجة تمر بحالة برود جنسي معقّد ؟وماذا يفعل إذا كانت تعيش بعض الأزمات النفسية الطويلة ؟هل نطلب منه أن يجمّد رغبته لتتحول القضية بعدها إلى عقدة نفسية ،أم نطلب منه أن يبحث عن ذلك في نطاق بعيد عن البيت ؛وفي كلا الأمرين لا يكون الحل في مصلحة المرأة في المستقبل القريب أو البعيد ؟
إننا لا ننكر أن هناك بعض السلبيات في الحل الإسلامي ،ولكن مستوى الإيجابيات أعلى وأكثر ؛وقد ذكرناأكثر من مرةأن الإسلام يوازن بين السلبيات والإيجابيات ،في ما يركزه من قضايا التشريع في نطاق التحريم والتحليل ،لأن أيّ تشريع مرخّص لا بد أن يختزن بعض السلبيات في الفعل ،كما أن أيّ تشريع مانع لا بد أن يختزن بعض الإيجابيات في الترك ؛فليس هناك تشريع في العالم ،دينياً أو غير ديني ،يصل إلى نسبة المئة بالمئة في إيجابياته وسلبياته ،لأن طبيعته تفرض تخطيط الحدود للإنسان ،وتحديد حريته على هذا الأساس ،مما يُولِّد الكثير من المشاكل والسلبيات .
ونحب أن نثير ،في هذا المجال ،نقطةً بارزة ،وهي أن الإسلام أراد للرجلالزوجأن لا يعيش العلاقة الجنسية بطريقةٍ جافةٍ جامدةٍ ،بل أراد لهمن ناحية أخلاقية تربويةأن يهيىء للمرأة الأجواء التي تثير فيها الرغبة ،فيتزيّن لها كما يحب أن تتزيّن له ،ويحترم حاجتها إلى الارتواء الجنسي في طريقة ممارسته للعلاقة ،فلا يحاول الانتهاء من العملية إلا بعد أن يشعر بأنها بلغت منها ما تريد .وفي ضوء ذلك يمكن للرجلفي هذا الجوأن يتغلب على الحالة النفسية السلبية بأساليب عاطفية مدروسة ،كما يمكن للمرأة أن تتوصل إلى ذلك ببعض الأساليب الإيحائية الذاتية ،أو ببعض الأجواء الروحية التي تدفعها إلى الإقبال على تلبية رغبة زوجها ،من ناحية روحية ،أو تعمل على إقناعه بالطريقة التي لا تحقق له شعوراً بالضيق أو بالانفعال عند عدم قدرتها على ذلك في وقت ما .
وقد نستوحي ،من إصدار الأمر للزّوج بالمعاشرة بالمعروف ،بعض الإيحاءات التي توجّهه إلى أن يكبت بعض رغباته في الحالات التي تكون عملية الإلزام بتنفيذ الرغبة بشكل ضاغط ،مختلفاً مع أسلوب «المعروف » الذي يريده الإسلام له ؛ولكن هذا كله يدخل في نطاق عملية البناء الأخلاقي ،الذي يبني الشخصية الإسلامية على الأسس الروحية في ما تحمله من قيم وأفكار ،ليكون ذلك هو الأسلوب الأفضل للإنسان الأفضل ،ولا يدخل في عملية الإلزام الذي يرتكز على مراعاة المصالح والمفاسد الواقعية على الطبيعة ،من زاوية دراسة الحالة الإنسانية في واقعها المادي ،لمعالجتها بطريقة واقعية ،من أجل الوصول إلى المعالجة الروحية .
القرآن يحدد أساليب معالجة نشوز المرأة
أولاً: الموعظة
{فَعِظُوهُنَّ ...} هذا هو الأسلوب الأول الذي أراد الإسلام من خلاله للأزواج أن يعالجوا حالة التمرّد الحاصلة من الزوجة على الحقوق الزوجية ،وهو أسلوب الوعظ ،وذلك باتباع الأساليب الفكرية والروحية التي تحذرها من نتائج عملها على الصعيد الدنيويّ والآخرويّ ،فيخوفها الزوج من عقاب الله سبحانه على معصيته في ما أوجبه عليها من حقوق للزوج ،ومن أداء ذلك إلى تهديم الحياة الزوجية ،وانعكاسه على مستقبلها ومستقبل الأولادإن كان هناك أولادولا بد في سبيل تحقيق هذا الهدف من اتباع الأساليب التي تؤدي إلى الهدف المنشود من رجوعها إلى الخط المستقيم وعودتها عن الانحراف ...وتختلف الأساليب باختلاف ذهنية الزوجة من ناحية فكرية وروحية وعاطفية ،فلا بد من دراسة ذلك كله ،مع ملاحظة نقاط الضعف والقوة في شخصيتها الذاتية والدينية ؛ثم مواجهة الموقف بما يتطلبه من حكمةٍ ومرونة وتخطيط زمني للمراحل اللازمة للوصول إلى قناعتها والتزامها ،لأن بعض الحالات قد تحتاج إلى وقت طويل ؛فلا يكتفي الإنسان بالكلمة العابرة المرتجلة ،كما يفعله بعض الناس الذين يعالجون مثل هذه الحالات بالكلمات التقليدية التي يطلقونها بطريقة جافة ،لا روح فيها ولا حياة ،ولا معنى لها لدى قائلها وسامعها .
ثانياً: الهجر في المضاجع
{وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ ...} ؛هذا هو الأسلوب الثاني الذي يريد الإسلام للزوج اتباعه عند إخفاق الأسلوب الأولالوعظوهو أسلوب التأديب النفسي ،وهو الهجران في المضاجع وذلك بمقاطعتهاكما عن بعض المفسرينأو بإدارة ظهره إليها عندما ينامان في مكان واحد ،أو بالإيحاء لهابطريقة أو بأخرىبعدم الرغبة فيها أو بعدم المبالاة بها .ولعل هذا الأسلوب السلبي ،من أقوى الأساليب المؤثّرة في شخصية المرأة ،لأن اهتمام الزوج بها يعتبر عاملاً مهماً من عوامل إحساسها بأهميتها وبقوة شخصيتها ،وذلك ما يقرّره المحللون النفسيون في هذا المجال .
ثالثاً: الضرب
{وَاضْرِبُوهُنَّ ...} هذا هو الأسلوب الثالث ،وهو أسلوب الضرب ،ولكنه لا يمثل الضرب اللامعقول الذي يمارسه الإنسان بطريقة انفعالية ،على أساس المزاج الحاد والعقدة النفسية ،والحاجة إلى التنفيس عن الغيظ ،بل هو الضرب التأديبي الهادىء الذي يوحي لها بالمهانة .وقد وردت الأحاديث التي تظهر أنه الضرب غير المبرّح الذي لا يدمي لحماً ولا يهشم عظماً ؛مما يوحي بأنه يمثّل أسلوباً نفسياً أكثر مما يمثّل أسلوباً مادّياً .وقد يأخذ البعض على الإسلام هذا الأسلوب الذي يتنافى مع احترام المرأة وكرامتها والنظرة إليها كإنسان ،ولكن القضيةفي نظرنالا بد أن تواجه من ناحية ثانية ،وهي هل أن أسلوب العقوبات التأديبية ،من السجن والضرب ونحوهما ،يتنافى مع كرامة الإنسان كإنسان ،لتكون الدعوة إلى إلغاء العقوبات من أساس التشريع ،دون فرق بين الرجل والمرأة ؟وهذا ما لا تتقبله كل الأمم والشعوب التي تريد أن تحفظ حياتها ،من خلال حفظ نظامها الذي يعتبر العقوبات جزءاً من الخطة العامة للقانون ،باعتبارها العنصر الرادع للمجرمين والمنحرفين عن السير بعيداً في ميدان الإجرام والانحراف .
وفي ضوء ذلك ،لا بد لنا أن ندرس الفكرة: إن العلاقة الزوجية هي إحدى العلاقات الإنسانية التي تخضع في امتدادها لنظام محدّد يحفظ لها توازنها ؛فإذا حصل التمرّد على التزاماتها ،فما هو الحل ؟هل يترك للمصادفات ،أم يبحث عن طريق للمعالجة ؟
لا مجال للأوّل ،لأن معناه جعل العلاقة في مهب الرياح ؛فلا بد من الثاني .فإذا استنفدت الطرق السلمية من الوعظ والهجران ،كان ذلك دليلاً على أن المرأة لا تخضع للأساليب الإنسانية العادية القائمة على الاحترام ،لأن المرأة التي لا تعي الكلمة ،ولا تستجيب للضغوط النفسية ،ولا تستعد لمناقشة المسألة بالحوار الهادىء من حيث سلبياتها وإيجابياتها ،هي امرأة لا تريد أن تدخل في علاقات طبيعية مع الآخرين ؛فكيف يتعامل معها الرجل ،هل يطلقها ،أم يعرض أمرها للمحاكم المختصة ،أم يحل المشكلة بطريقته الخاصة ؟.
إن الطلاق ليس حلاً ،ولكنه يمثّل الهروب من المشكلة ،بتهديم الهيكل الذي يثيرها ،بينما يحاول الإسلام أن يجعل الطلاق آخر الحلول باعتباره أبغض الحلال إلى الله .أما الرجوع إلى المحاكم ،فليس عملياً في مثل هذه الحوادث اليومية التي قد تفشى معها أسراراً نفسيةً وعمليةً كثيرة ،في الوقت الذي لا مجال لإثبات الكثير من حوادثها بالأدلة الشرعية ،لأن الممارسات الشخصيةلا سيما ما يتعلق بالجانب الجنسي من العلاقةلا تتم أمام الناس ،فكيف يمكن التعامل مع عملية الإثبات فيها بطريقة معقولة ؟هذا ،مع ما يقتضيه ذلك من المراجعة المتكررة للمحاكم ،تبعاً لتكرر مثل هذه الحوادث ؛فلا مجال إلا لاعتبار الموضوع من شؤون الصلاحيات الممنوحة للزوج ،من ناحية القوامة على المرأة في نطاق الحياة الزوجية ؛تماماً كما هي بعض الأساليب التأديبية التي يتركها القانون للمدير في الحالات اليومية الطارئة ،التي ينحرف فيها بعض الموظفين بطريقة مستمرة ؛ولكن ذلك لا بد من أن ينطلق من خلال الالتزام الإيماني ،الذي يمنعه من ممارسة الضرب في غير الحدود التي أباحها الله ؛فإذا تعدّى حدود الله ،كان للزوجة أن ترفع أمرها إلى الحاكم الشرعي ليرجعه إلى الخط الصحيح ،لأن القضية تتخذ مجرى آخر ،يفرض على السلطة التدخل لرد الاعتداء وإنقاذ المعتدى عليه .
ونحن لا ننكر أن مثل هذا الأمر قد يجعل التطبيق خاضعاً لبعض ألوان الاستغلال الذاتي من قبل الزوج ؛ولكن الذنب في ذلك ليس ذنب التشريع ،بل هي مشكلة المجتمع ،والذي لا يتحرك لتطبيق الخطة الشاملة بشكل متوازن ضاغط ؛ولعل من أبرز الشواهد على ذلك ،ما نلاحظه من ألوان الظلم الشخصي والاجتماعي على الفرد والمجتمع الذي لا ينطلق من حالة شرعية تسمح بالاستغلال ،من خلال بعض الثغرات الموجودة فيها ،بل ينطلق من حالات خاصة وعامة ،تشجع على ذلك كله ،من خلال ما تفرضه لعبة القوة والضعف في الحياة .
{فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} ،لأن هذه الإجراءات لم تفرض تنفيساً لعقدة أو تشجيعاً لظلم أو فرضاً لسلطة ذاتية ،بل فرضت لمواجهة مشكلة تبحث عن حل ،لتساعد البيت الزوجي على التماسك والاستمرار ،ولتدفع الزوجة إلى القيام بمسؤولياتها تجاه زوجها تنفيذاً لحكم الله .فإذا تحقق الهدف مع أي مرحلة من مراحل الحل ،فيجب على الزوج أن يمسك عن أيّ تصرف سلبي آخر ،لأن الله لم يجعل له أيَّة سلطة عليها من قريب أو بعيد ،خارج نطاق حقوقه الشرعية المفروضة .