/ت34
نشوز الزوجين
{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا ...} وهذه حالة جديدة تحتاج إلى نوع آخر من العلاج ؛وهي حالة الشقاق المشترك ،وذلك إذا لم تكن المشكلة من طرفٍ واحد ،بل كان كل منهما ضالعاً في ذلك ؛فكيف يمكن حلّ المشكلة ؟
{فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ ...} إن القرآن يطرح أسلوب ما سمّاه البعض «مجلس التحكيم العائلي » ،وذلك باختيار شخص أو أكثر من أهل الزوج ،مطّلع على ظروفه النفسية والعائلية والاجتماعية ؛واختيار شخص أو أكثر من أهل الزوجة ،بنفس المواصفات ؛ثم يجتمعان في جلسة تحكيم عائلية ،ليدرسا المشكلة من جميع جوانبها السلبية والإيجابية ،ويتداولا في إمكانيات الحل بتحديد بعض التنازلات من هذا الطرف أو ذاك ،ومحاولة التوفيق بينهما للوصول إلى النتيجة المرجوّة ،في العودة بالبيت الزوجي إلى حالة «السلام العادل ...» .وهذا ما أثارته الفقرة التالية في قوله تعالى:{إِن يُرِيدَآ إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَآ ...} وذلك للإيحاء بأن إرادة الإصلاح إذا انطلقت من موقع الإخلاص ،فإن الله يرعاها بتوفيقه ،الذي يتحرك في كل المواقف التي تتحرك فيها النفوس الخيّرة ،للوصول إلى نتائج الخير في الفكر والعمل .ولم تتحدث الآية عن الحالة الآخرى ،وهي حالة إرادة التفريق ،لأن القرآن يريد التأكيد على أن تنطلق الجهود في هذا الاتجاه ،بالإلحاح على ملاحقة كل إمكانيةٍ محتملةٍ في هذا السبيل ،وعدم الوقوع في قبضة اليأس أمام بعض حالات الفشل ؛هذا من جهة ،ومن جهة أخرى ،فلأن موضوع التفريق هو النتيجة الطبيعية لكل حالات الخلاف المستحكم التي لا تجد حلاً معقولاً أمامها .
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً ...} وفي هذه الفقرة التي تثير أمام الإنسان الشعور بالعلم المطلق لله والخبرة العميقة الواسعة بكل الأمور الظاهرة والباطنة ...يقف الإنسانالزوج ،والزوجة ،والحكمانليعيش الخشوع الذي يمنعه عن مواقف الانحراف الاستعراضي ،الذي يؤدي به إلى إعطاء انحرافه لوناً من ألوان الشرعية الظاهرية التي لا ترتكز على أساس ،مما يبعد المسيرة عن السير في الاتجاه الصحيح .
لماذا التحكيم العائلي لا القضاء .؟
وقد نستوحي من طرح مجلس التحكيم العائلي ،أن مثل هذا المجلس يعالج المسألة من موقع المسؤولية الحميمة المباشرة التي تدرس الخلاف من موقع العاطفة والمحبة التي قد تكتشف بعض الأساليب والوسائل المنفتحة على عناصر القضية بشكلٍ أعمق وأوسع وأفضل ،لأن هناك خصوصيات في داخل هذه العائلة أو تلك قد تؤثر في حل بعض المشاكل النفسية لدى هذا الطرف أو ذاك ،أو تجميد بعض الخلافات الشخصية لديهما ،عندما يشعران بأن استمرارها يتجاوز وضعهما إلى وضع العائلتين ،بحيث يمكن امتداد المشكلة في تأثيرها عليهما إلى واقعهما الخاص حتى بعد الانفصال ،لو كان الانفصال هو ما يفكران فيه كحلّ للخلافات العالقة بينهما .
هذا من جهة ،ومن جهةٍ أخرى ،فإن التحاكم لدى المحاكم القضائية العادية قد يخلق الكثير من التعقيدات التي قد تترك تأثيراتها العميقة على نفسيتهما حتى لو كانت النتيجة هي الصلح بينهما ،لأن مجريات المحكمة القضائية قد تثير الكثير من الفضائح وتكشف الكثير من الأسرار أمام الناس ،بحيث تعمّق المشكلة في داخلهما بما تفتحه من الجراح العميقة في الأعماق لتتحول إلى المزيد من السلبيات الواقعية في البيت ،بينما نلاحظ في التحاكم العائلي ،أنّ إثارة الأسرار وكشف الفضائح أمام الأقرباء ،لا سيما في الدائرة الضيقة في نطاق ممثل هذه العائلة من هذا الجانب وممثل تلك العائلة من الجانب الآخر ،لا يخلق مشكلةً عميقة لديهما ،لأن أسرارهما تمثل جزءاً من أسرار العائلتين اللتين تحافظان على إبقائها في جوّ الكتمان نظراً لتأثيرها السلبيإذا كانت فاضحةعلى سمعة العائلتين ؛الأمر الذي لا يخلق مشكلةً جديدةً لهما في المستقبل .
ثم إن الحكمين يتحسسان مسؤولية الوصول إلى النتيجة الحاسمة من موقع ارتباط القضية بهما ذاتياً وعائلياً ،مما يدفعهما إلى استعمال كل الوسائل واسنتفاد كل الأساليب للوصول إلى حلٍّ إيجابيٍّ يعيد السلام إلى البيت ،ولعل هذا هو الذي جعل الآية تتحدث عن الصلح كخيارٍ للحكمين في الحلّ ولم تتحدث عن التفريق ،لأن خصوصية الحكمينهناتتصل بالجانب النفسي لهما ،بحيث لا يسمحان لهما بالتفريق ،لأنه يؤدي إلى إيجاد شرخٍ بين العائلتين قد ينعكس سلباً على علاقتهما ببعضهما البعض مستقبلاً ؛الأمر الذي يجعل من الصلح مصلحة عائلية للعائلتين ،كما هو مصلحة شخصية للزوجين .ومن الطبيعي أن مثل هذه الخصوصيات الذاتية والموضوعية لا تتوفربمثل هذه الدقةفي المحاكم العادية التي قد تخلص إلى الحل ،ولكنها تبقى في الدائرة الرسمية التي تعالج الواقع من الخارج لا من الداخل ،لأنها لا تملك علاقةً بالواقع الداخلي للشخصين بشكل حميم .
وهناك نقطة مهمة ،وهي أن المحاكم القضائية قد تكلف الشخصين بذل المال الذي تفرضه إجراءات المحاكم وتحملهما بعض الجهود الإضافية الفردية والاجتماعية ،مما لا يحتاجان إليه في المحكمة العائلية .
صفات الحكمين
وقد يكون من المفيد التنبيه على أن الحكمين العائليين لا بد من أن يكونا بالغين عاقلين خبيرين بدراسة المشاكل في الجانب الخاص والعام منها ،وبالتدبير المتحرك في عناصر الواقع المتشنّج بين الشخصين من خلال الخبرة الطويلة لهما في تجاربهما الواقعية ،ليتسنىّ لهما الوصول إلى نتيجة حاسمة إيجابيةٍ بحكمةٍ ورويّةٍ واتزانٍ .
ما هي سلطة الحَكَمَين ؟
وقد يثور هنا سؤال عن مدى نفوذ حكم الحكمين على الشخصين ،هل هما مصلحان يتوقف نفوذ حكمهما على قبول الطرفين بالنتائج المقترحة منهما ،باعتبار أنهما يقدمان للزوجين ما يعتقدان أنه الحل الأفضل للمشكلة وبحيث تبقى لهما حرية الرفض أو القبول ،أم هما حكمان حاكمان يملكان حق الفرض والإلزام ؟
قد يظهر من بعض الفقهاء القول بنفوذ حكمهما في أيّ جانب من الإصلاح أو التفريق ،انطلاقاً من صفة «الحكم » للشخصين الذي يعني أنهما يملكان سلطة الحكم الذي يفرضبحسب طبيعة الموقعنفوذه عليهما ،ولكن المشهور بينهم ،أن الحُكْم ينفذ في ما يريدانه ويحكمان به من الإصلاح بين الزوجين وحلّ المشكلة بينهما بالعودة إلى البيت في اتجاه السلام العائلي وعودة الأمور بينهما إلى حالتها الطبيعية السابقة ،ليتقيدا بالحكم الصادر من الحكمين بشروطهما الإصلاحية .أما الطلاق ،الذي قد يكون حلاً للمشكلة ،فلا صلاحية لهما في فرضه عليهما ،بل لا بد من موافقة الزوجين عليه ،لأن الأمر يتعلق بهماالزوج والزوجةأو بالزوج وحده لأنه هو الذي يملك حق الطلاق .
ولعل هذا الرأي هو الأوفق بمدلول الآية الذي يشير إلى الإصلاح ،لأن القضية هي قضية حل الخلاف الذي تحوّل إلى شقاق بينهما بتقريب وجهات النظر من قِبَل الشخصين القريبين لهما المطّلعَيْن على أوضاعهما ،فذلك هو الذي اعتاد الناس أن يلجأوا إليه كلما حدثت هناك مشكلة في الواقع الاجتماعي ،فإنهم يبادرون إلى إيجاد لجنةٍ تحكيمية تقوم بحلّ المشكلة لإعادة المياه إلى مجاريها من دون الدخول في أيّ مشروع للتفريق أو للقطيعة ،لأن ذلك ليس مهمة الفعاليات الاجتماعية في موقعها المميز الذي يتحرك من أجل الوصل لا الفصل ،ومن أجل التقارب لا التباعد ،ولعل هذا هو الوجه في اقتصار الآية على مسألة الإصلاح من دون تعرّض للتفريق ،باعتبار أن ذلك هو المعتاد في مهمة التحكيم الاجتماعي ،أما التفريق فهو مهمة القضاء ؛والله العالم .
نشوز الزوج
ولم تتحدث الآيات عن حالة نشوز الزوج وتمرّده على أداء حقوق الزوجة الشرعية ؛وقد أثيرت المسألة في أبحاث الفقه ،واختلفت الآراء في موقف الزوجة ،هل تكتفي برفع أمرها إلى الحاكم الشرعي ليجبره على أداء حقوقها الشرعية ،أم يجوز لها أن تتصرف بأساليبها الخاصة ؛فتمنعه بعض حقوقه عليها ،على أساس المعاملة بالمثل ،أم يفصل بين الحالات ؟ذهب الكثيرون ،إلى أن المسألة مربوطةٌ بقرار الحاكم ؛لأن الله لم يجعل لها أمر تنفيذ حدوده ،كما جعل للرجل ذلك من خلال صفة القوامة ؛أمّا امتناعها عن أداء حقوقه فلا مبرر له ،لأن معصيته لله في أمرها ،لا تبرر لها المعصية في أمره ،بعد أن كان لكل واحد منهما تكليف مستقل ،لا يرتبط بالآخر .فإذا رفعت أمرها إلى الحاكم ،فيمكن للحاكم أن يطلّق بنفسه ،إذا امتنع الزوج من الطلاق والإنفاق ،بعد تخييره بينهما ،وذلك إذا كانت الحالة حالة النشوز عن النفقة ؛ويمكنه أن يجبره في حالات أخرى ،على حسب القانون الشرعي المتبع في مثل هذه الأمور .وذهب البعض إلى أن لها الحق في الامتناع ،لما يفهمه من المقابلة بين الحقوق ،فللزوج الحق على زوجته مقابل ما لها من الحق عليه ،فإذا امتنع عن أداء ذلك ،كان لها الحق في الامتناع .وتحفّظ بعض آخر ،فلم يجزم بأحد
الرأيين ،لأن القضية باقيةٌ لديه في حدود الإشكال الذي يبحث عن الوضوح ؛والله العالم بحقائق أحكامه .