التّفسير
محكمة الصّلح العائلية:
في هذه الآية إِشارة إِلى مسألة ظهور الخلاف والنزاع بين الزوجين ،فهي تقول: ( وإِن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها ) ليتفاوضا ويقربا من أوجه النظر لدى الزوجين ،ثمّ يقول تعالى: ( إن يريدا إِصلاحاً يوفق الله بينهما ) أي ينبغي أن يدخل الحكمان المندوبان عن الزوجين في التفاوض بنيّة صالحة ورغبة صادقة في الإِصلاح ،فإنّهما إن كانا كذلك أعانهما الله ووفق بين الزوجين بسببهما .
ومن أجل تحذير ( الحكمين ) وحثّهما على استخدام حسن النّية ،يقول سبحانه في ختام هذه الآية: ( إِنّ الله كان عليماً خبيراً ) .
إِنّ محكمة الصلح العائلية التي أشارت إِليها الآية الحاضرة ،هي إِحدى مبتكرات الإِسلام العظيمة ،فإِن هذه المحكمة تمتاز بميزات تفتقر إِليها المحاكم الأخرى ،من جملتها:
1إِن البيئة العائلية بيئة عاطفية ،ولذلك فإِن المقياس الذي يجب أن يتبع في هذه البيئة ،يختلف عن المقاييس المتبعة في البيئات الأخرى ،يعني كما أنّه لا يمكن العمل في «المحاكم الجنائية » بمقياس المحبّة والعاطفة ،فإِنّه لا يمكنفي البيئة العائليةالعمل بمقياس القوانين الجافة .والضوابط الصارمة الخالية عن روح العاطفة ،فهنا يجب حل الخلافات العائلية بالطرق العاطفية حدّ الإِمكان ،ولهذا يأمر القرآن الكريم أن يكون الحكمان في هذه المحكمة ممن تربطهم بالزوجين رابطة النسب والقرابة ليمكنهما تحريك المشاعر والعواطف باتجاه الإِصلاح بين الزوجين ،ومن الطبيعي أن تكون هذه الميزة هي ميزة هذا النوع من المحاكم خاصّة دون بقية المحاكم الأخرى .
2إِنّ المدعي والمدعى عليه في المحاكم العادية القضائية مضطرينتحت طائلة الدفاع عن النفسأن يكشفا عن كل ما لديهما من الأسرار ،ومن المسلم أنّ الزوجين لو كشفا عن الأسرار الزوجية أمام الأجانب والغرباء لجرح كل منهما مشاعر الطرف الآخر ،بحيث لو اضطر الزوجان أن يعودابحكم المحكمةإِلى البيت لما عادا إِلى ما كانا عليه من الصفاء والمحبة السالفة ،بل لبقيا يعيشان بقية حياتهما كشخصين غريبين مجبرين على القيام بوظائف معينة ،ولقد دلّت التجربة وأثبتت أنّ الزوجين اللذين يضطران إِلى التحاكم إِلى مثل هذه المحاكم لحل ما بينهما من الخلاف لم يعودا ذينك الزوجين السابقين .
بينما لا تطرح أمثال هذه الأُمور في محاكم الصلح العائلية للاستحياء من الحضور ،أو إذا اتفق أن طرحت هذه الأُمور فإنّها تطرح في جو عائلي ،وأمام الأقرباء فإنّها لن تنطوي على ذلك الأثر السيئ الذي أشرنا إليه .
3إِنّ الحكمين في المحاكم العادية المتعارفة لا يشعران عادة بالمسؤولية الكاملة في قضايا الخلاف والمنازعات ،ولا تهمهما كيفية انتهاء القضية المرفوعة إِلى المحكمة ،هل يعود الزوجان إِلى البيت على وفاق ،أو ينفصلا مع طلاق ؟
في حين أنّ الأمر في محكمة الصلح العائلية على العكس من ذلك تماماً ،فإِن الحكمين في هذه المحكمة حيث يرتبطان بالزوجين برابطة القرابة ،فإِن لافتراق أو صلح الزوجين أثراً كبيراً في حياة الحكمين من الناحية العاطفية ،ومن ناحية المسؤوليات الناشئة عن ذلك ،ولهذا فإِنّهما يسعيانجهد إِمكانهماأن يتحقق الصلح والسلام والوفاق والوئام بين الزوجين اللذين يمثلانهما ،وأن يعيدا المياه إِلى مجاريها كما يقول المثل .
4مضافاً إِلى كلّ ذلك فإِن مثل هذا المحكمة لا تعاني من أية مشكلات ،ولا تحتاج إِلى أية ميزانيات باهظة ،ولا تعاني من تلك الخسارة والضياع الذي تعاني منه المحاكم العادية ،فهي تستطيع أن تقوم بأهدافها وتحقق أغراضها من دون أية تشريفات وفي أقل مدّة من الزمن .
ولا يخفى أنّه يجب أن يختار الحكمان من بين الأشخاص المحنّكين المطلعين المعروفين ،في عائلتي الزوجين بالفهم وحسن التدبير .
مع هذه المميزات التي عددناها يتبيّن أنّ هذه المحكمة تحظى بفرصة للإِصلاح بين الزوجين .
إِنّ مسألة الحكمين وما يشترط فيهما من الشروط ،ومدى صلاحيتهما وما يحكمان به في مجال الزوجين ،قد ذكر في الكتب الفقهية بالتفصيل ،منها أن يكون الحكمان بالغين عاقلين عادلين بصيرين بعملهما .
وأمّا مدى نفوذ حكمهما في حق الزوجين ،فقد ذهب بعض الفقهاء إِلى نفوذ كل ما يصدر أنّه من حكم في هذا المجال ،وظاهر التعبير به «حكم » في الآية الحاضرة يفيد هذا المعنى أيضاً ،لأن مفهوم الحكمية والقضاء هو نفوذ الحكم مهما كان ،ولكن أكثر الفقهاء يرون نفوذ ما يراه الحكمان في مورد التوفيق بين الزوجين ورفع الاختلاف والنزاع بينهما ،بل يرون نفوذ ما يشترطه الحكمان على الزوجين ،وأمّا حكمهما في مجال الطلاق والافتراق بين الزوجين فغير نافذ لوحده ،وذيل الآية الذي يشير إِلى مسألة الإِصلاح أكثر ملاءمة مع هذا الرأي ،وللتوسع في هذا المجال يجب مراجعة الكتب الفقهية .