التّفسير
الآية الحاضرة تبيّن سلسلة من الحقوق الإِسلامية بما فيها الحقوق الإِلهية ،وحقوق العباد ،وآداب العشرة مع الناس ،ويستفاد منها عشرة تعاليم:
1واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً
إِنّ الآية تدعو الناس قبل أي شيء إِلى عبادة الله والخضوع له وحده ،وترك الشرك والوثنية التي هي أساس كل البرامج والمناهج الإِسلامية .
إِنّ الدّعوة إِلى التوحيد وعبادة الله وحده تطهر الروح ،وتخلص النية ،وتقوي الإِرادة ،وتشدد من عزيمة الإِنسان على الإِتيان بأي برنامج مفيد .
وحيث أنّ الآية الحاضرة تبيّن سلسلة من الحقوق الإِسلامية لذلك فقد أشارت إِلى حقّ الله على الناس قبل أي شيء وقبل أي حقّ وقالت: ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ) .
2وبالوالدين إحساناً
ثمّ إنّها تشير إِلى حقّ الوالدين وتوصي بالإِحسان إِليهما ولا شك أنّ حقّ الوالدين من القضايا التي يهتمّ بها القرآن الكريم كثيراً ،وقلّما حظى موضوع بمثل هذا الاهتمام والعناية ،فقد جاءت التوصية بالوالدين بعد الدعوة إِلى التوحيد في العبادة في أربعة مواضع في القرآن الكريم{[776]} .
من هذه التعابير المتكررة يستفاد أن ثمّة ارتباطاً بين هاتين المسألتين ،والقضية في الحقيقة كالتالي: حيث إن أكبر نعمة هي نعمة الوجود والحياة وهي مأخوذة من جانب الله سبحانه في الدرجة الأُولى ،فيما ترتبط بالوالدين في الدرجة الثانية ،لأنّ الولد جزء من وجود الوالدين ،لذلك كان ترك حقوق الوالدين وتجاهلها ،في مصاف الشرك بالله سبحانه .
هذا ولنا أبحاث مفصلة حول حقوق الوالدين في ذيل الآيات المناسبة في سورة الإِسراء ولقمان بإِذن الله تعالى .
3وبذي القُربى
ثمّ أنّها توصي بالإِحسان إِلى كلّ الأقرباء ،وهذا الموضوع من المسائل التي يهتم بها القرآن الكريم اهتماما بالغاً تارة تحت عنوان «صلة الرحم » وأُخرى بعنوان «الإِحسان إِلى القُربى » وقد أراد الإِسلام بهذافي الحقيقةأن يقوي من أواصر العلاقة الواسعة بين جميع أفراد البشر مضافاً إِلى إيجاد أواصر و علاقات أقوى وأمتن منها في الوحدات الاجتماعية التي هي أكثر انسجاماً مثل «العشيرة » و«العائلة » ليستطيعوا التعاون في ما بينهم عند ظهور المشاكل والحوادث ،والتعاون على الدفاع عن حقوقهم .
4واليتامى
ثمّ أشارت إِلى حقوق «اليتامى » وأوصت المؤمنين ببرهم والإِحسان إِليهم ،لأنّه يوجد في كل مجتمع أطفال أيتام على أثر الحوادث المختلفة ،لا يهدد تناسيهم وإِهمالهم وضعهم الخاص فقط ،بل الوضع الاجتماعي بصورة عامّة ،لأنّ الأطفال اليتامى لو تركوا دون ولاية أو حماية ولم ينالوا حاجتهم من المحبّة واللطف يتحولون إِلى أفراد منفلتين فاسدين ،بل أشخاص خطرين جُناة .
وعلى هذا يكون الإِحسان إِلى اليتامى إِحساناً إِلى الفرد وإِلى المجتمع معاً .
5والمساكين
ثمّ يذكّر سبحانهفي هذه الآيةبحقوق الفقراء والمساكين ،لأنّه قد يوجد حتى في المجتمع السليم الذي يسوده العدل من يعاني من نواقص وعاهات تعوقه عن الحركة والنشاط والفعالية ،ولا شك أنّ تناسي هؤلاء أمر يخالف كل الأُسس والقيم الإِنسانية ،فلابدّ من تقديم العون إِليهم ،ومعالجة حرمانهم .
وأمّا إِذا كان الفقر والحرمان الذي يعاني منه الأفراد الأصحاء ناشئين عن الانحراف عن مبادئ وأُسس العدالة الاجتماعية فإِنّه لابدّ من مكافحتهما أيضاً .
6والجار ذي القربى
ثمّ يوصي بالجيران من ذوي القربى ،وهناك احتمالات متعددة حول المراد من «الجار ذي القربى » أبداها المفسرون ،فبعضهم قال: معناه الجار القريب في النسب ،غير أن هذا التّفسير يبدو بعيداً بملاحظة العبارات السابقة التي أشارت إِلى حقوق الأقرباء في هذه الآية ،فلابدّ أن يكون المراد هو القرب المكاني لا القرب النسبي ،لأن الجيران الأقربين مكاناً يستحقون احتراماً وحقوقاً أكثر من غيرهم ،أو أن يكون المراد الجيران الأقربين إِلى الإِنسان من الناحية الدينية والإِعتقادية .
7والجار الجنب
ثمّ إنها توصي بالجيران البعيدين ،والمرادكما أسلفناهو البعد المكاني ،لأنّ كل أربعين داراً من بين يديه وخلفه وعن يمينه وشماله تعتبر من الجيران ،كما تصرح بعض الروايات{[777]} ،وهذا يستوعب في المدن الصغيرة كل المدينة تقريباً ( لأنّنا لو فرضنا دار كل شخص مركز دائرة يقع في امتداد شعاعها من كل صوب أربعون بيتاً لاتضحت من خلال محاسبة بسيطة مساحة هذه الدائرة التي يكون مجموع البيوت الواقعة فيها ما يقرب من خمسة الآف بيت ،ومن المسلم أن المدن الصغيرة قلّما تتشكل من أكثر من هذا العدد من المنازل والبيوت .
والجدير بالتأمل أنّ القرآن يصرّحفي هذه الآيةمضافاً إِلى ذكر الجيران القريبينبحقّ الجيران البعيدين ،لأنّ لفظة الجار لها في العادة مفهوم محدود وضيق وتشمل الجيران القريبين فقط ،ولهذا لم يكن بدّاً في نظر الإِسلام أن يذكر بالجيران البعيدين أيضاً .
كما يمكن أن يكون المراد من الجيران البعيدين الجيران غير المسلمين ،لأنّ حقّ الجوار غير منحصر في نظر الإِسلام بالجيران المسلمين ،فهو يعمّ المسلمين وغير المسلمين ( اللّهم إِلاّ الذين يحاربون المسلمين ويعادونهم ) .
إنّ لحقّ الجوار في الإِسلام أهميّة بالغة إلى درجة أنّنا نقرأ في وصايا الإِمام أمير المؤمنين( عليه السلام ) المعروفة: «ما زال ( رسول الله ) يوصي بهم حتى ظننا أنّه سيورثهم »{[778]} ( وقد ورد هذا الحديث في مصادر أهل السنة أيضاً فقد روي في تفسير المنار وتفسير القرطبي من البخاري مثل هذا المضمون عن رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) أيضاً ) .
وروي في حديث آخر عن رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّه قال ذات يوم «والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن ،فقيل: يا رسول الله ومن ؟قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه »{[779]} .
كما نقرأ في حديث آخر أيضاً أنّ النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إِلى جاره »{[780]} .
وروي عن الإِمام الصّادق جعفر بن محمّد( عليهما السلام ) أنّه قال: «حسن الجوار يعمر الدّيار ويزيد في الأعمار »{[781]} .
في عالمنا المادي حيث لا يعرف الجار عن جاره شيئاً ،بل وربّما لا يتعرف على اسم صاحبه بعد عشرين سنة من الجيرة والجوار يتألّق هذا التعليم الإِسلامي في حق الجار بشكل خاص ،فإِنّ الإِسلام يقيم للعلاقات العاطفية والتعاون الإِنساني وزناً خاصّاً ،ويوليها اهتماماً كبيراً ،في حين تؤول هذه العلاقات والعواطف في الحياة الصناعية المادية إِلى الزوال يوماً بعد يوم ،وتعطي مكانها إِلى القسوة والجفاء والخشونة .
8والصّاحب بالجنب
ثمّ أوصت بالرّفيق والصّاحب ،غير أنّه لابدّ من الانتباه إِلى أنّ ل «الصاحب بالجنب » معنى أوسع من الرفيق والصديق المتعارف ،وفي الحقيقة تشمل كل من رافق أو صاحب الإِنسان مرافقة ما سواء كان صديقاً دائمياً أو صديقاً مؤقتاً ( كالذي يرافق الإِنسان في السفر بعض الوقت ) وتفسير لفظة «الصاحب بالجنب » في بعض الروايات بالرفيق مثل «رفيقك في السفر » أو الذي يقصد الإِنسان رجاء نفعه مثل: ( المنقطع إِليك يرجو نفعك » ليس المراد هو اختصاص هذا العنوان بهم ،بل هو نوع من التوسعة في مفهوم هذه اللفظة بحيث تشمل هذه الموارد أيضاً ،وبهذا الطريق تكون هذه الآية أمراً كلياً وجامعاً بحسن معاشرة كل من يرتبط بالمرء ،سواء كان صديقاً واقعياً ،أو زميلا ،أو رفيق سفر ،أو مراجعاً ،أو تلميذاً ،أو مشاوراً ،أو خادماً .
وقد فسرت لفظة الصاحب بالجنب في بعض الروايات بالزّوجة ،وقد روى صاحب تفسير المنار ،وتفسير روح المعاني والقرطبي في ذيل هذه الآية هذا المعنى عن علي( عليه السلام ) ،ولكن لا يبعد أن يكون هذا من باب بيان أحد المصاديق أيضاً .
9وابن السبيل
وأمّا الصنف الآخر الذي أوصت بهم الآية هنا فهم الذين تحدث لهم حاجة السفر وبلاد الغربة ،فابن السبيل هو الذي ينقطع في السفر وإِن كان يمكن أن يكون متمكّناً ذا مال في بلده ،والتعبير عن هذا الشخص بابن السبيل ( أي ابن الطريق ) إِنّما هو لأجل أنّنا لا نعرفهم أصلا حتى ننسبهم إِلى عائلة أو قبيلة أو شخص ،بل لابدّ أن نحميهم بمجرّد أنّهم مسافرون انقطعوا في السفر ،وبرزت لديهم حاجة إِلى المساعدة والعون .
10وما ملكت أيمانكم
وفي نهاية المطاف توصي هذه الآية بالإِحسان إِلى العبيد والأرقاء ،وبهذا تكون الآيةفي الحقيقةقد بدأت بحق الله ،وختمت بحقوق العبيد ،لعدم انفصال هذه الحقوق بعضها عن بعض .
على أنّ هذه الآية ليست هي الآية الوحيدة التي توصي بالعبيد ،بل لقد بحثت هذه المسألة في آيات مختلفة أُخرى أيضاً .
هذا مضافاً إِلى أنّ الإِسلام قد نظم برنامجاً دقيقاً لتحرير العبيد تدريجاً ،والذي يؤول في النتيجة إِلى تحريرهم المطلق ،وسوف نتحدّث حول هذه المسألة في ذيل الآيات المناسبة إِن شاء الله تعالى .
ثمّ إنّه سبحانه يقول في ختام هذه الآية ( إِنّ الله لا يحبّ من كان مختالا فخوراً ) وهو بذلك يحذر كل من يتمرّد ويعصي أوامر الله ،ويتقاعس عن القيام بحقوق أقربائه ووالديه واليتامى والمساكين وابن السبيل والأصدقاء والأصحاب بدافع التكبر بأنّه سيكون معرضاً لسخط الله ،وسيحرم من عنايته سبحانه ،ولا ريب أنّ من حرم من اللطف الإِلهي والعناية الرّبانية حرم من كل خير وسعادة .
وتؤيد هذا المعنى روايات وأخبار قد رويت في ذيل هذه الآية منها ما روي عن أصحاب النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) حيث قال: كنت عند رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقرأ هذه الآية «إِن الله لا يحبّ كل مختال فخور » فذكر الكبر فعظمه ،فبكى ذلك الصحابي فقال له رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ): ما يبكيك ؟فقال يا رسول الله: إِنّي لأُحب الجمال حتى أنّه ليعجبني أن يحسن شراك نعلي قال: «فأنت من أهل الجنّة ،أنّه ليس بالكبر أن تحسن راحلتك ورحلك ،ولكن الكبر من سفه الحقّ وغمص الناس »{[782]} .
والخلاصة أنّ ما يستفاد من العبارة الأخيرة أنّ مصدر الشرك وهضم حقوق الآخرين هو الأنانية والتكبر غالباً ،ولا يتسنى للشخص أداء تلك الحقوق ،وخاصّة حقوق الأيتام والمساكين والأرقاء إلاّ من تحلّى بروح التواضع و نكران الذات{[783]} .