{ *واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا36 الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا37 والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا38 وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما39} .
قال البقاعي في وجه اتصال الآية الأولى من هذه الآيات بما قبلها ما نصه:ولما كثرت في هذه السورة الوصايا من أولها إلى هنا نتيجة التقوى ( كذا ) العدل والفضل والترغيب في نواله ، والترهيب من نكاله ، إلى أن ختم ذلك بإرشاد الزوجين إلى المعاملة بالحسنى وختم الآية بما هو في الذروة من حسن الختام من صفتي العلم والخبر وكان ذلك في معنى ما ختم به الآية الآمرة بالتقوى من الوصف بالرقيب ، اقتضى ذلك تكرير التذكير بالتقوى التي افتتحت السورة بالأمر بها فكان التقدير حتما فاتقوه عطف عليه أو على نحو{ واسألوا الله من فضله} أو على{ اتقوا ربكم} الخلق المقصود من الخلق المبثوثين على تلك الصفة وهو العبادة الخالصة التي هي الإحسان في معاملة الخالق ، وأتبعها الإحسان في معاملة الخلائق ، فقال{ واعبدوا الله} الخ وأقول إنه أبعد في العطف ، وأحسن في الترتيب والوصف .
الأستاذ الإمام:كل ما تقدم من الأحكام كان خاصا بنظام القرابة والمصاهرة وحال البيوت التي تتكون منها الأمة ، ثم إنه تعالى بعد بيان تلك الأحكام الخصوصية ، أراد أن ينبهنا إلى بعض الحقوق العمومية ، وهي العناية بكل من يستحق العناية وحسن المعاملة من الناس ، فبدأ ذلك بالأمر بعبادته تعالى ، وعبادته ملاك حفظ الأحكام والعمل بها وهي الخضوع له تعالى وتمكين هيبته وخشيته من النفس ، والخشوع لسلطانه في السر والجهر ، فمتى كان الإنسان على هذا فإنه يقيم هذه الأحكام وغيرها حتى تصلح جميع أعماله ولذلك كانت النية عندنا تجعل الأعمال العادية عبادات كالزارع يزرع ليقيم أمر بيته ويعول من يمونه ويفيض من فضل كسبه على الفقراء والمساكين ويساعد على الأعمال ذات المنافع العامة فعمله بهذه النية يجعل حرثه من أفضل العبادات فليست العبادة في قوله هنا:{ واعبدوا الله} خاصة بالتوحيد كما قال المفسر ( الجلال ) بل هي عامة كما قلنا تشمل التوحيد وجميع ما يمده من الأعمال .
{ ولا تشركوا به شيئا} من الأشياء أو شيئا من الإشراك ( قال ) اختلف تعبيرهم والمعنى واحد ، والإشراك بالله يستلزم الإيمان به والنهي عنه يستلزم النهي عن التعطيل بالأولى .أقول يعني أن الشرك هو الخضوع لسلطة غيبية وراء الأسباب والسنن المعروفة في الخلق بأن يرجى صاحبها ويخشى منه ما تعجز المخلوقات عن مثله ، وهذه السلطة لا تكون لغيره تعالى فلا يرجى غيره ولا يخشى سواه في أمر من الأمور التي هي وراء الأسباب المقدورة للمخلوقين عادة لأن هذا خاص به تعالى فمن اعتقد أن غيره يشركه فيه كان مؤمنا مشركا:{ وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} [ يوسف:106] وأما التعطيل فهو إنكار الألوهية ألبتة أي إنكار تلك السلطة الغيبية التي هي مبدأ كل قوة وتصرف وفوق كل قوة وتصرف ، فإذا نهى تعالى أن يشرك به غيره فيما استأثر به من السلطة والقدرة والتصرف ولم يجعله من الهبات التي منحها خلقه وعرفت عن سنته فيهم فلأن ينهى عن إنكار وجوده وجحد ألوهيته يكون أولى .قال:والإشراك قد ذكر في القرآن بعض ضروبه عند مشركي العرب وهو عبادة الأصنام باتخاذهم أولياء وشفعاء عند الله تعالى يقربون المتوسل بهم إليه ويقضون الحاجات عنده كما هو المعهود من معنى الولاية والشفاعة عندهم والآيات في ذلك كثيرة:{ ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض ، سبحانه وتعالى عما يشركون} [ يونس:18]{ والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ، إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون ، إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار} [ الزمر:3] .
وذكر أن أهل الكتاب دخل عليهم الشرك فالنصارى عبدوا المسيح عليه السلام وبعضهم عبد أمه السيدة مريم رضي الله عنها وقال الله في الفريقين:{ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم ، وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو ، سبحانه عما يشركون} [ التوبة:32] وقد ورد في تفسيره بالحديث الصحيح المرفوع أنهم كانوا يضعون لهم أحكام الحلال والحرام فيتبعونهم فيها وسبق ذكر ذلك في التفسير غير مرة .
قال:فالشرك أنواع وضروب أدناها ما يتبادر إلى أذهان عامة المسلمين أنه العبادة لغير الله كالركوع والسجود له ، وأشدها وأقواها هو ما سماه الله دعاء واستشفاعا وهو التوسل بهم إلى الله وتوسيطهم بينهم وبينه تعالى فالقرآن ناطق بهذا وهو المشهور في كتب السير والتاريخ ، فهذا المعنى هو أشد أنواع الشرك وأقوى مظاهره التي يتجلى فيها معناه أتم التجلي ، وهو الذي لا ينفع معه صلاة ولا صيام ولا عبادة أخرى .
ثم ذكر أن هذا الشرك قد فشا في المسلمين اليوم وأورد شواهد على ذلك عن المعتقدين الغالين في البدوي"شيخ العرب "والدسوقي وغيرهما لا تحتمل التأويل ، وبين أن الذين يؤولون لأمثال هؤلاء إنما يتكلفون الاعتذار لهم لزحزحتهم عن شرك جليّ واضح إلى شرك أقل منه جلاء ووضوحا ولكنه شرك ظاهر على كل حال ، وليس هو من الشرك الخفي الذي وردت الأحاديث بالاستعاذة منه الذي لا يكاد يسلم منه إلا الصديقون ومنه أن يعمل المؤمن العمل الصالح من العبادة لله تعالى ويحب أن يمدح عليه أو يتلذذ المدح عليه مثلا .
أقول:ثم عقب الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك بالوصية بالوالدين فقال:{ وبالوالدين إحسانا} أي وأحسنوا بالوالدين إحسانا تاما لا تقصروا في شيء منه يقال أحسن به وأحسن له وأحسن إليه ، وقيل إذا تعدى الإحسان بالباء يكون متضمنا لمعنى العطف وعندي أن التعدية بالباء أبلغ لإشعارها بإلصاق الإحسان بمن يوجه إليه من غير إشعار بالفرق بينه وبين المحسن ، والتعدية بإلى تشعر بطرفين متباعدين يصل الإحسان من أحدهما إلى الآخر .
والإحسان في المعاملة يعرفه كل أحد وهو يختلف باختلاف أحوال الناس وطبقاتهم وإن العامي الجاهل ليدري كيف يحسن إلى والديه ويرضيهما ما لا يدري العالم النحرير إذا أراد أن يحدد له ذلك ، وقال بعضهم إن جماع الإحسان المأمور به أن يقوم بخدمتهما ولا يرفع صوته عليهما ولا يخشن في الكلام معهما ، وأن يسعى في تحصيل مطالبهما والإنفاق عليهما بقدر سعته ، وأنت تعلم أن من فعل ذلك وهو لا يلقاهما إلا عابسا مقطبا ، أو أدى النفقة التي يحتاجان إليها وهو يظهر الفاقة والقلة فإنه لا يعد محسنا بهما ، فالتعليم الحرفي لا يحدد الإحسان المطلوب من كل أحد بل العمدة فيها اجتهاد المرء وإخلاص قلبه في تحري ذلك بقدر طاقته وحسب فهمه لأكمل الإرشاد الإلهي التفصيلي في ذلك بقوله عز وجل:{ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ، إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما* واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا* ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا} [ الإسراء:2325] فأنت ترى الرب العليم الحكيم الرحيم قد قفى هذه الوصية البليغة الدقيقة ببيان أن العبرة بما في نفس الولد من قصد البر والإحسان والإخلاص فيه وأن التقصير مع هذا مرجو الغفران ، وقد فصل بعض العلماء القول في ذلك كالغزالي في الإحياء وابن حجر في الزواجر .
قال الأستاذ الإمام:الخطاب لعموم الأفراد أي ليحسن كل لوالديه وذلك أنهما السبب الظاهر في وجود الولد ونموه بذلا من الجهد والطاقة في تربيته بكل رحمة وإخلاص وقد بينت كتب الأحكام الظاهرة ما للوالدين من حقوق النفقة وبينت كتب الدين جميع الحقوق والمراد بكتب الدين كتب آدابه كالإحياء للغزالي ويجمع هذه الحقوق كلها آيتا سورة الإسراءوذكرهما وتكلم عليهما قليلاوأقول:إن ههنا مسألة مهمة قلما تجد أحدا من علمائنا بينها كما ينبغي وهو أن بعض الوالدين يتعذر إرضاؤهما بما يستطيعه أولادهما من الإحسان بل يكلفون الأولاد ما لا طاقة لهم به وما أعجب حكمة الله في خلق هذا الإنسان ، قلما تجد ذا سلطة لا يجور ولا يظلم في سلطته حتى الوالدين على أولادهما ، وهما اللذان آتاهما الفاطر من الرحمة الفطرية ما لم يؤت سواهما ، قد تظلم الأم ولدها قليلا مغلوبة لبادرة الغضب أو طاعة لما يعرض من أسباب الهوى ، كأن تتزوج رجلا تحبه ، وهو يكره ولدها من غيره ، وكان يقع التغاير بينها وبين امرأة ولدها وتراه شديد الحب لامرأته يشق عليه أن يغضبها لأجل مرضاتها هي ، ففي مثل هذه الحال قلما ترضى الأم بالعدل ، وتعذر ولدها في خضوعه لسلطان الحب ، وإن هو لم يقصر فيما يجب لها من البر والإحسان ، بل تأخذها عزة الوالدية ، حتى تستل من صدرها حنان الأمومة ، ويطغى في نفسها سلطان استعلائها على ولدها ، ولا يرضيها إلا أن يهبط من جنة سعادة الزوجية لأجلها ، وربما تلتمس له في مثل هذه الحال زوجا آخر ينفر منها طبعه ، وما حيلته وقد سلب منه قلبه ، كما أنها تظلمه من أول الأمر بمثل هذا الاختيار ، وظلم الآباء فيه أشد من ظلم الأمهات ، ولا تجب طاعة الوالدين في مثل هذا ، ويا ويح الولد الذي يصاب بمثلهما ، ولا سيما إذا كانا جاهلين بليدين يتعذر إقناعهما .
ولعلك إذا دققت النظر في أخبار البشر لا تجد فيها أغرب من تحكم الوالدين في تزويج الأولاد بمن يكرهون ، أو إكراههم على تطليق من يحبون ، ثبت في الهدي النبوي الشريف أن الثيب من النساء أحق بنفسها فليس لأبيها ولا لغيره من أوليائها أن يعقدوا لها إلا على من تختاره وترضاه لنفسها ، لأنها لممارستها الرجال تعرف مصلحتها ، وأن البكر على حيائها وغرارتها ، وعدم اختبارها وعلم ما يعلم الأب الرحيم من مصلحتها ، يجب أن تستأذن في العقد عليها ، ويكتفي من إذنها بصماتها ، وظاهره أنها إذا لم تظهر الرضى بل صرحت بعدمه لا يجوز العقد عليها ، ومن قال من الفقهاء إن الأب ولي مجبر كالشافعية اشترطوا في صحة تزويجه لبنته بدون إذنها أن يكون الزوج كفؤا لها وأن يكون موسرا بالمهر حالا وأن لا يكون بينها وبينه عداوة ظاهرة ولا خفية ، وأن لا يكون بينها وبين الولي العاقد عداوة ظاهرة .فهذا قولهم في العذراء المخدرة ، وأما الرجل فهو أحق من أبيه بتزويج نفسه إجماعا وليس لأبيه ولاية عليه في ذلك فكيف يتحكم الوالد في ولده بما لا يحكم به الشرع ولا ترضى به الفطرة ، أليس هذا من ظلم الاستعلاء الذي يوهم الرجل أن ابنه كعبده ، يجب أن لا يكون له معه رأي ولا اختيار في أمره ، لا في حاضره ولا في مستقبله الذي يكون عليه بعده ، وإن كان الوالد جاهلا بليدا ، والولد عالما رشيدا ، وعاقلا حكيما ؟ والويل كل الويل للولد إذا كان والده الجهول الظلوم غنيا ، وكان هو معوزا فقيرا ، فإن والده يدل عليه حينئذ بسلطتين ، ويحاربه بسلاحين ، لا يهولنك أيها السعيد بالأبوين الرحيمين ما أذكر من ظلم بعض الوالدين الجاهلين القساة فإني أعلم من أمر الناس ما لا تعلم ، إني لأعرف ما لا تعرف من أخبار الأمهات اللواتي تحكمن في أمر زواج بناتهن أو أبنائهن تحكما كان سبب المرض القتال ، والداء العضال ، فالموت الزؤام ، ثم ندمن ندامة الكسعي ولات ساعة مندم ، ولعلك تعلم أن تحكم الآباء في ذلك أشد وأضر ، وأدهى وأمر ، على أنه كثير .
ومن ضروب ظلم الوالدين الجاهلين للولد العاقل الرشيد منعه من استعمال مواهبه في ترقية نفسه في العلوم والأعمال ، ولا سيما إذا توقف ذلك على السفر والترحال ، والأمثلة والشواهد على هذا كثيرة جدا في كل زمان ومكان ، وأول ما خطر في بالي منها عند الكتابة الآن اثنان:شاب عاشق للعلم كان أبوه يمنعه منه ليشتغل بالتجارة التي ينفر منها لتوجه استعداده إلى العلم ، ففر من بلده على قطر آخر ثم إلى قطر آخر ، يركب الأهوال ، ويصارع أنواء البحار ، ويعجم عود الذل والضر ، ويذوق طعوم الجوع والفقر ، ورجل دعي إلى دار خير من داره ، وقرار أشرف من قراره .ورزق أوسع من رزقه ، في عمل أفضل من عمله ، وأمل في الكمال أعلى من سابق أمله ، ورجاء في ثواب الله أعظم من رجائه ، فاستشرفت له نفسه ، واطمأن به قلبه ، ولكن والدته منعته أن يجيب الدعوة ، ويقبل النعمة ، لا حبا فيه ، فإنها لا تستطيع أن تماري في أن ذلك خير له ، ولكن حبا في نفسها ، وإيثارا للذتها وأنسها ، نعم إن العجوز ألفت بيتها ومن تعاشر في بلدها من الأهل والجيران ، فآثرت لذة البيئة الدنيا لنفسها ، على المنفعة العليا لولدها ، ولعله لو اختار الظعن لاختارت الإقامة ، وفضلت فراقه على صحبته ، وبعده على قربه ، ونبزته بلقب العاق ، وادعت أنها لم تتعد حدود الرحمة والحنان ، ووافقها الجمهور الجاهل على ذلك لبنائه الأحكام على المسلمات ، ومنها أن الأولاد هم الذين يؤثرون أهواءهم على بر والديهم ، وأن الوالدين لا يختاران لولدهما إلا ما فيه الخير له ، وأنهما يتركان كل حظوظهما ورغائبهما لأجله ، ولا ينكر أحد أن لهذا أصلا صحيحا ولكنه ليس من القضايا الكلية الدائمة ، أما الأم فذلك شأنها مع الطفل إلا ما تأتي به بوادر الغضب من لطمة خفيفة تسبق بها اليد من غير روية واختيار ، أو دعوة تعد من فلتات اللسان ، ولسان حالها ينشد:
أدعو عليه وقلبي *** يقول يا رب لا لا
فإذا كبر وصار له رأي غير رأيها ، وهوى غير هواهاوذلك ما لا بد منهتغير شأنها معه ، وهي أشد الناس حبا له ، فلا ترجح رأيه وهواه في كل مسائل الخلاف ، بل لا تعذره أيضا في كل ما يتبع فيه وجدانه ، ويرجح فيه استقلاله ، وأما الأب فهو على فضله وعنايته بأمر ولده أضعف من الأم حبا ورحمة وإيثارا ، وأشد استنكارا لاستقلال ولده دونه واستكبارا ، حتى إنه ليقسو عليه ويؤذيه ويشمت به ويحرمه من ماله ويؤثر الأجانب عليه .وأكثر ما يكون ذلك من الأب الغني مع ولده المحتاج إذا خالف هواه{ إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} [ العلق:7 ،6] وإن طغيانه يكون على حسب ما يرى لنفسه من السلطة والفضل والاستعلاء حتى أنه لينتحل لنفسه صفات الربوبية ، ويتسلق بغروره إلى ادعاء الألوهية ، وقد كنت أنكر على أبي الطيب قوله:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد *** ذا عفةٍ فلعلةٍ لا يظلمُ
وأعده من المبالغة الشعرية حتى كدت بعد إطالة التأمل في أحوال الوالدين مع الأولاد وتدبر ما أحفظ من الوقائع في ذلك أجزم بأن قوله هذا صحيح مطرد .فكم رأينا من غني قد انغمس في الترف والنعيم ، أفاض من فضل ماله على المستحقين وغير المستحقين ، وله من الولد من يعيش في البؤس والضنك ، ولا يناله من والده لماج ولا مجاج من ذلك الرزق ، لأنه لم يرض أن يكون منه كعبد الرق .
إنما أطلت في هذا لأن الناس غافلون عنه فهم يظنون أن وصايا الدين حجة على أن للوالدين أن يعبثا باستقلال الولد ما شاء هواهما ، وأنه ليس للولد أن يخالف رأي والديه ولا هواهما ، وإن كان هو عالما وهما جاهلين بمصالحه وبمصالح الأمة والملة ، وهذا الجهل الشائع مما يزيد الآباء والأمهات إغراء بالاستبداد في سياستهم للأولاد فيحسبون أن مقام الوالدية يقتضي بذاته أن يكون رأي الولد وعقله وفهمه دون رأي والديه وعقلهما وفهمهما ، كما يحسب الملوك والأمراء المستبدون أنهم أعلى من جميع أفراد رعاياه عقلا وفهما ورأيا أو يحسب هؤلاء وأولئك أنه يجب ترجيح رأيهم وإن كان أفينا ، على رأي أولادهم ورعاياهم وإن كان حكيما .
إذا طال الأمد على هذا الجهل الفاشي في أمتنا فإن الأمم التي تربي أولادها على الاستقلال الشخصي تستعبد من بقي من شعوبنا خارجا عن محيط سلطتها قبل أن ينقضي هذا الجيل .
يجب أن نفهم أن الإحسان بالوالدين الذي أمرنا به في دين الفطرة هو أن نكون في غاية الأدب مع الوالدين في القول والعمل بحسب العرف حتى يكونا مغبوطين بنا وأن نكفيهما أمر ما يحتاجان إليه من الأمور المشروعة المعروفة بحسب استطاعتنا ، ولا يدخل في ذلك شيء من سلب حريتنا واستقلالنا في شؤوننا الشخصية والمنزلية ، ولا في أعمالنا لأنفسنا ولملتنا ولدولتنا ، فإذا أراد أحدهما أو كلاهما الاستبداد في تصرفنا فليس من البر ولا من الإحسان شرعا أن نترك ما نرى فيه الخير العام أو الخاص ، أو نعمل ما نرى فيه الضرر العام أو الخاص ، عملا برأيهما واتباعا لهواهما ، من سافر لطلب العلم الذي يرى أنه واجب عليه لتكميل نفسه أو خدمة دينه أو دولته ، أو سافر لأجل عمل نافع له أو لأمته ووالداه أو أحدهما غير راض لأنه لا يعرف قيمة ذلك العمل فإنه لا يكون عاقا ولا مسيئا شرعا وعقلا ، هذا ما ينبغي أن يعرفه الوالدون والأولاد:البر والإحسان ، لا يقتضيان سلب الحرية والاستقلال .
أرأيت لو كانت أمهات سلفنا الأماجد كأمهاتنا أكانوا فتحوا الممالك ، وفعلوا هاتيك العظائم ؟ كلا بل كانت الأسيفة الرقيقة القلب منهن كتماضر الخنساء رضي الله عنها تدفع بنيها الأربعة إلى القتال في سبيل الله وترغبهم فيه بعبارات تشجع الجبان ، بل تحرك الجماد ، فقد روى ابن عبد البر عن الزبير بن بكار أنها شهدت حرب القادسية ومعها أربعة بنين لها فقالت لهم من أول الليل:يا بني إنكم أسلمتم طائعين ، وهاجرتم مختارين ، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد ، كما أنكم بنو امرأة واحدة ، ما خنت أباكم ، ولا فضحت خالكم ، ولا هجنت حسبكم ، ولا غيرت نسبكم ، وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين ، من الثواب الجزيل في حرب الكافرين ، واعلموا أن الدار الباقية ، خير من الدار الفانية ، يقول الله تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} [ آل عمران:200] فإذا أصبحتم إن شاء الله سالمين ، فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين ، وبالله على أعدائه مستنصرين ، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها ، واضطرمت لظى على سباقها ، وجللّت نارا على أرواقها ، فيمموا وطيسها ، وجالدوا رئيسها ، عند احتدام خميسها ، تظفروا بالغنم والكرامة ، في دار الخلد والمقامة ، فلما كان القتال في الغد كان يهجم كل واحد منهم ويقول شعرا يذكر فيه وصية العجوز ويقاتل حتى يقتل فلما بلغها خبر قتلهم كلهم قالت:الحمد لله الذي شرفني بقتلهم وأرجو ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته .
ولو شئت أن أروي لك مثل خبرها عن أم عبد الله بن الزبير وغيرها لفعلت ، أفترى هذه الأمة تعتبر اليوم بسيرة سلفها وهي لم تعتبر بما بين يديها ، وأمام عينيها ، وما يتلى كل يوم عليها ، من أحوال الأمم التي كانت دونها في العلم والقوة ، والعزة والثروة ، فأصبحت منها في موقع النجم ، تشرف عليها من سماء العظمة بالأمر والنهي ، ومنشأ ذلك كله الاستقلال الشخصي في الإرادة والعقل ، فإن الآباء والأمهات متفقون فيها على تربية أولادهم على استقلال العقل والفهم في العلم ، واستقلال الإرادة في العمل ، فقرة أعينهم أن يعمل أولادهم بإرادة أنفسهم واختيارهم ما يعتقدون أنه هو الخير لهم ولقومهم .
وإنما قرة أعين أكثر آبائنا وأمهاتنا أن ندرك بعقولهم لا بعقولنا ، ونحب ونبغض بقلوبهم لا بقلوبنا ، ونعمل أعمالنا بإرادتهم لا بإرادتنا ، ومعنى ذلك أن لا يكون لنا وجود مستقل في خاصة أنفسنا ، فهل تخرج هذه التربية الاستبدادية الجائرة ، أمة عزيزة عادلة ، مستقلة في أعمالها ، وفي سياستها وأحكامها ؟ ، أم البيوت هي التي تغرس فيها شجرة الاستبداد الخبيثة للملوك والأمراء الظالمين ، فيجنون ثمراتها الدانية ناعمين آمنين ؟ ، فعليكم يا علماء الدين والأدب أن تبينوا لأمتكم في المدارس والمجالس ، حقوق الوالدين على الأولاد ، وحقوق الأولاد على الوالدين ، وحقوق الأمة على الفريقين ، ولا تنسوا قاعدتي الحرية والاستقلال ، فهما الأساس الذي قام عليه بناء الإسلام{[489]} ، وإن علماء الشعوب الشمالية التي سادت في هذا العصر علينا ، يعترفون بأنهم أخذوا هاتين المزيتين ( استقلال الفكر والإرادة ) عنا ، وأقاموا بناء مدنيتهم عليهما ، ولله درّ القائل منا:لاعب ولدك سبعا ، وأدبه سبعا ، وصاحبه سبعا ، ثم اجعل حبله على غاربه .وسنعود إلى هذه المسألة إن شاء الله تعالى .
قال تعالى:{ وبذي القربى} أي وأحسنوا بمعاملة ذي القربى وهم أقرب الناس إلى الإنسان بعد الوالدين الذين يلونهما في الحقوق .وفي سورة البقرة{ وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى} [ البقرة:82] الخ فأعيد الجار هنا ، ولم يعد هناك .قال بعض المفسرين النكتة في ذلك أن الوصية بذي القربى مؤكدة في هذه الأمة زيادة عن تأكيدها في بني إسرائيل لأن إعادة الجار للتأكيد .وعندي أنه يمكن أن تكون إعادة الجار لإفادة التنويع فإن الإحسان بالوالدين غير الإحسان بالأقربين إذ يجب للوالدين من الرعاية والتكريم والخضوع ما لا يجب لغيرهما .ومتى ارتقت الشرائع بارتقاء الأمة حسن فيها مثل هذا التحديد والتدقيق في الحدود والواجبات لاستعداد الأمة له .
الأستاذ الإمام:إذا قام الإنسان بحقوق الله تعالى فصحت عقيدته وصلحت أعماله ، وقام بحقوق الوالدين فصلح حالهما وحاله ، تتكون بذلك وحدة البيوت الصغيرة المركبة من الوالدين والأولاد ، وبصلاح هذا البيت الصغير يحدث له قوة فإذا عاون أهله البيوت الأخرى التي تنسب إلى هذا البيت بالقرابة وعاونته هي أيضا يكون لكل من البيوت المتعاونة قوة كبرى يمكنه أن يحسن بها إلى المحتاجين الذين ليس لهم بيوت تكفيهم مؤنة الحاجة إلى الناس الذين لا يجمعهم بهم النسب وهم الذين عطفهم على ذوي القربى بقوله:{ واليتامى والمساكين} فإن الله تعالى يوصي باليتامى في مثل هذا المقام لأن اليتيم يهمل أمره بفقده الناصر القوي الغيور وهو الأب ، أو تكون تربيته ناقصة بالجهل الذي هو جناية على العقل ، أو فساد الأخلاق الذي هو جناية على النفس ، وهو بجهله وفساد أخلاقه يكون شرا على أولاد الناس يعاشرهم فيسري إليهم فساده ، وقلما تستطيع الأم أن تربي الولد تربية كاملة مهما اتسعت معارفها .وكذلك المساكين لا تنتظم الهيئة الاجتماعية إلا بالعناية بهم وصلاح حالهم فإن أهمل أمرهم الأغنياء كانوا بلاء وويلا على الناس .
وقلما ينظر الناس في المسكنة إلى غير العدم وصفر الكف والمهم معرفة سبب ذلك فإن من الناس من يكون سبب عدمه وعوزه ضعفه وعجزه عن الكسب ، أو نزول الجوائح السماوية تذهب بماله من غير تقصير منه ، وهذا هو المسكين الحقيقي الذي تجب مواساته بالمال الذي يقع موقعا من كفايته ، ومنهم العادم الذي ما عدم المال إلا بالإسراف والتبذير والمخيلة والفخفخة الباطلة ، ومنهم العادم الذي ما عدم المال إلا لكسله وإهماله للكسب طمعا فيما في أيدي الناس واتكالا عليهم ، أو بسلوكه فيه مسلك الغش والخيانة حتى يفضح سره ويظهر أمره فيحبط عمله ، فالمساكين على ضربين:مسكين معذور يساعد بالمال ينفقه أو يساعده على تحصيله بكسبه إن كان قادرا على ذلك ، ومسكين غير معذور يرشد إلى تقصيره ، ولا يساعد على إسرافه وتبذيره ، بل يدل على طرق الكسب ، فإن اتعظ وقبل النصح ، وإلا ترك أمره إلى أولي الأمر ، والله بصير بالعباد ، اه بتصرف وزيادة واختصار .
ثم قال تعالى:{ والجار ذي القربى والجار الجنب} الجوار ضرب من ضروب القرابة فهي قرب بالنسب ، وهو قرب بالمكان والسكن ؛ وقد يأنس الإنسان بجاره القريب ، ما لا يأنس بنسيبه البعيد ، ويحتاجان إلى التعاون والتناصر ما لا يحتاج الأنسباء الذين تناءت ديارهم .فإذا لم يحسن كل واحد منهما بالآخر لم يكن فيهما خير لسائر الناس ، وقد اختلف المفسرون في الجار ذي القربى والجار الجنب فقال بعضهم الأول هو القريب منك بالنسب والثاني هو الأجنبي لا قرابة بينك وبينه ، وقال بعضهم الأول هو الأقرب منك دارا ، والثاني من كان أبعد مزارا ، وقيل إن ذا القربى من كان قريبا منك ولو بالدين ، والأجنبي من لا يجمعك به دين ولا نسب .وفي حديث ضعيف السند عند أبي نعيم والبزار عن جابر بن عبد الله ( رضي الله عنه ) قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( الجيران ثلاثة:فجار له ثلاثة حقوق حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام ، وجار له حقان حق الجوار وحق الإسلام ، وجار له حق واحد حق الجوار ) وثبت الأمر بالإحسان في معاملة الجار غير المسلم في أحاديث أخرى كأحاديث الوصايا المطلقة والوقائع المعينة كعيادته صلى الله عليه وسلم لولد جاره اليهودي في الصحيح ، وروى البخاري في الأدب المفرد عن عبد الله بن عمر ( رضي الله عنه ) أنه ذبح له شاة فجعل يقول لغلامه:أهديت لجارنا اليهودي أهديت لجارنا اليهودي ؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:( ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ){[490]} فهذا دليل على أن ابن عمر فهم من الوصايا المطلقة في الجار أنها تشمل المسلم وغير المسلم وناهيك بفهمه وعلمه ، ومن تلك الوصايا حديث أبي شريح الخزاعي في الصحيحين مرفوعا "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره "{[491]} ورواه غيرهما عن غيره .
قال الأستاذ الإمام حدد بعضهم الجوار بأربعين دارا من كل جانب من الجوانب الأربعة والحكمة في الوصية بالجار ، هي التي تعرفنا سر الوصية ومعنى الجوار ، المراد بالجار من تجاوره ويتراءى وجهك ووجهه في غدوك أو رواحك إلى دارك فيجب أن تعامل من ترى وتعاشر بالحسنى فتكون في راحة معهم ويكونون في راحة معك اه ، فهو يرى أن أمر الجوار لا يحدد بالبيوت والتحديد بالدور مروي عن الحسن وحدده بعضهم بأربعين ذراعا والصواب عدم التحديد والرجوع في ذلك إلى العرف ، والأقرب حقه آكد وإكرام الجار من أخلاق العرب قبل الإسلام وزاده الإسلام تأكيدا بالكتاب والسنة .ومن الإحسان بالجار الإهداء إليه ودعوته على الطعام وتعاهده بالزيارة والعيادة .
قال تعالى:{ والصاحب بالجنب} روي عن ابن عباس ( رضي الله عنه ) فيه قولان:الرفيق في السفر ، والمنقطع إليك يرجو نفعك ورفدك .وروى عبد بن حميد عن عليّ كرم الله وجهه أنه المرأة ، أي لأنها هي التي قضت الفطرة ونظام المعيشة أن تكون بجنب بعلها وإذ كان الأصل في خطاب الشرع أن يكون للرجال والنساء جميعا وإن كان بضمير المذكر للتغليب جاز أن نقول أن المراد بالمرأة الزوج ورجلها مثلها فيجب على كل منهما الإحسان بالآخر ، ويحتمل أن يكون الإمام عبر بلفظ الزوج المراد به الجنس فظن الراوي أنه يريد المرأة لأنها أحوج إلى إحسان بعلها منه إلى إحسانها فرواه بالمعنى ، وقال الأستاذ الإمام هو من صاحبته وعرفته ولو وقتا قصيرا .وهذا القول أعم وأشمل من قول بعضهم إنه الرفيق في أمر حسن كتعلم وتصرف صناعة وسفر فإنه بقيد"ولو وقتا قصيرا "يشمل صاحب الحاجة الذي يمشي بجانبك يستشيرك أو يستعينك وما كان أكثر هؤلاء الأصحاب عنده رحمه الله تعالى كان لا يكاد يتراءى للناس في طريق إلا وتراهم يوفضون إليه من كل نصب يمشون بجانبه مستبشرين أو مستعينين .
قال تعالى:{ وابن السبيل} المشهور في تفسيره هنا المسافر والضيف وقلنا في تفسير آية:{ ليس البر} [ البقرة:175] هو المنقطع في السفر لا يتصل بأهل ولا قرابة كان السبيل أبوه وأمه ورحمه وأهله ، وقال الأستاذ الإمام هنا إنه من تبناه السبيل في غير معصية .أي السائح الرحالة في غرض صحيح غير محرم ، والمتبادر أنه من لا يعرف إلا من الطريق أو في الطريق وإنما ضيقوا في تفسيره في آية مصارف الصدقات لأنهم لا يرون كل من عرف في الطريق مستحقا للزكاة وأما الإحسان المطلق فالأمر فيه أوسع وهو مطلوب دائما في كل شيء ومع كل أحد ، كل شيء بقدره ، وفي الحديث الصحيح ( إن الله كتب الإحسان في كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ){[492]}الخ وهو في كتاب الصيد في صحيح مسلم فيما أذكر .وإنما جاءت الآية فيمن يتأكد الإحسان بهم والضيف والمسافر منهم وإن لم يكونا مستحقين للزكاة ، والأمر بالإحسان بابن السبيل يتضمن الترغيب في السياحة والإعانة عليها وقد أهملها المسلمون في هذه العصور إلا قليلا خيره أقل .وذكرت في هامش تفسير هذه الكلمة من آياته{ ليس البر} في الجزء الثاني أن اللقيط يوشك أن يدخل في معنى ابن السبيل .واختار بعض أذكياء المعاصرين في رسالة له أن هذا هو المعنى المراد ، واللفظ يتسع للقيط ولا سيما في باب الإحسان ما لا يتسع لغيره ، وهو أولى وأجدر من اليتيم بما ذكرنا من الحكمة والفقه في الأمر بالإحسان به ، وإنما غفل جماهير المفسرين عن ذكره لندرة اللقطاء في زمن المتقدمين منهم ، ولا حظ للمتأخرين من التأليف إلا النقل عنهم ، لأنهم في الغالب قد حرموا على أنفسهم الاستقلال في الفهم لئلا يكون من الاجتهاد الذي تواطؤوا على القول بإقفال بابه ، وانقراض أربابه ، والرضا باستبدال الجهل به ، فإن غير المستقل بفهم الشيء لا يسمى عالما له كما هو بديهي وعليه إجماع علماء السلف .
وقد كثر في هذه الأزمنة اللقطاء ولولا عناية الجمعيات الدينية من الأوربيين بجمعهم وتربيتهم وتعليمهم لكان شرهم في البلاد مستطيرا ، فلله در هؤلاء الأوربيين ما أشد عنايتهم بدينهم ، ونفع الناس به بحسب اجتهادهم واستطاعتهم ، ويا لله ما أشد غفلة المسلمين وجهل جماهيرهم بأنفسهم وبغيرهم فإنهم يزعمون أنهم أشد من الإفرنج عناية بدينهم وغيرة عليه وعملا به بل يزعمون أن الإفرنج قد تركوا الدين ألبتة ، يستنبطون هذه النتيجة من بعض أحرارهم الغالين الذين يلقونهم فيسمعون منهم كلم الإلحاد ، أو من السياسيين منهم الذين يزلزلون ثقتنا بالدين لما يجهل أكثرنا من المقاصد والأغراض ، ونحن أحق الناس بتربية اللقطاء ، وجميع أنواع البر والإحسان .
قال تعالى:{ أو ما ملكت أيمانكم} أي وأحسنوا بما ملكت أيمانكم ، من فتيانكم وفتياتكم ، وعبر في آية البر وفي آية الصدقات ( 9:61 ) بقوله:{ وفي الرقاب} [ التوبة:61] أي تحريرها وهذا هو الإحسان الأتم الأكمل وهو من المالك يحصل بعتقهم ، ومن غيره بإعانتهم على شراء أنفسهم دفعة واحدة أو نجوما وأقساطا وهو المعبر عنه بالمكاتبة ، ودون هذا إحسان المالكين المعاملة إذا استبقوهم لخدمتهم وبينت السنة ذلك قولا وعملا ومنها أن لا يكلفوا ما لا يطيقون .وروى الشيخان وأبو داود والترمذي من حديث أبي ذر مرفوعا ( هم إخوانكم وخولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم من العمل ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه ){[493]} .
وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبالغ ويؤكد في الوصية بهم في مرض موته فكان ذلك من آخر وصاياه ، ومنه ما رواه أحمد والبيهقي من حديث أنس قال كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت ( الصلاة وما ملكت أيمانكم ) حتى جعل يغرغرها في صدره وما يفيض بها لسانه ، فهل بعد هذه العناية من عناية ، وهل بعد هذا التأكيد من تأكيد ؟ قال الأستاذ الإمام:أوصانا الله تعالى بهؤلاء الذين يعدون في عرف الناس أدنى الطبقات لئلا نظن أن استرقاقهم يجيز امتهانهم ويجعلهم كالحيوانات المسخرة ، فبين لنا أن لهم حقا في الإحسان كسائر طبقات الناس .والأحاديث في هذا الباب كثيرة .
{ إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا} قال الأستاذ الإمام هذا تعليل أو بمنزلة لكل هذه الوصايا المتقدمة ، والمختال هو المتكبر الذي يظهر على بدنه أثر من كبره في الحركات والأعمال ، فيرى نفسه أعلى من نفوس الناس ، وأنه يجب على غيره أن يتحمل من تيهه ما لا يتحمله هو منه ، فالمختال من تمكنت في نفسه ملكة الكبر وظهر أثرها في عمله وشمائله فهو شر من المتكبر غير المختال ، والفخور هو المتكبر الذي يظهر أثر الكبر في قوله كما يظهر في فعل المختال فهو يذكر ما يرى أنه ممتاز به على الناس تبجحا بنفسه وتعريضا باحتقار غيره .فالمختال الفخور مبغوض عند الله تعالى لأنه احتقر جميع الحقوق التي وضعها عز وجل وأوجبها للناس وعمي عن نعمته تعالى عليهم وعنايته بهم بل لا يجد هذا المتكبر في نفسه معنى عظمة الله وكبريائه لأنه لو وجدها لتأدب وشعر بضعفه وعجزه وصغاره فهو جاحد أو كالجاحد لصفات الألوهية التي لا تليق إلا بها ولا تكون بحق إلا لها .
فمن فتش نفسه وحاسبها علم أنه لا يعينه على القيام بعبادة الله تعالى ويطهره من نزغات الشرك به ومنازعته في صفاته ويسهل عليه القيام بوصاياه هذه وبغيرها إلا سكون النفس ومعرفتها قدرها ببراءتها من خلق الكبر الخبيث الذي تظهر آثار تمكنه ورسوخه بالخيلاء والفخر .إن المختال لا يقوم بعبادة الله تعالى لأن عملا ما لا يسمى عبادة إلا إذا كان صادرا عن الشعور بعظمة المعبود ، وسلطانه الأعلى غير المحدود ، ومن أوتي هذا الشعور خشع قلبه ، ومن خشع قلبه خشعت جوارحه ، فلا يكون مختالا ، إن المختال لا يقوم بحقوق الوالدين ولا حقوق ذوي القربى لأنه لا يشعر بما عليه من الحق لغيره ، وإذا كان لا يقوم بحقوق الوالدين وفضلهما عليه ليس فوقه إلا فضل الله تعالى ولا بحقوق ذوي القربى وهم بمقتضى النسب في طبقته ، فهل يرى نفسه مطالبا بحق ما لليتيم الضعيف ، أو للمسكين الأسيف ، أو للجار القريب أو البعيد ، أو للصاحب النبيه أو المغمول{[494]} ، أو لابن السبيل المعروف أو المجهول ؟ ، كلا إن هذا رجل مفتون بنفسه ، مسحور في عقله وحسه ، فلا يرجى منه البر والإحسان ، وإنما يتوقع منه الإساءة والكفران ، اه بتصرف وزيادة .
وأقول ليس من الكبر والخيلاء أن يكون المرء وقورا في غير غلظة ، عزيز النفس مع الأدب والرقة ، حسن الثياب بلا تطرس{[495]} ولا ابتغاء شهرة ، روى مسلم وأبو داود والترمذي من حديث ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ) فقال رجل إن الرجل يحب أن يكون ثوبه جسنا ونعله حسنة فقال صلى الله عليه وسلم:( إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر بطر الحق وغمص الناس ){[496]} وبطر الحق رده استخفافا به وترفعا أو عنادا ، وغمص الناس وغمطهم احتقارهم والازدراء بهم .وروى الطبراني وابن مردويه عن ثابت بن قيس بن شماس قال كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ هذه الآية فذكر الكبر وعظمه فبكى ثابت فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:( ما يبكيك ) فقال يا رسول الله إني لأحب الجمال حتى أنه ليعجبني أن يحسن شراك نعلي ، قال:( فأنت من أهل الجنة إنه ليس بالكبر أن تحسن راحلتك ورحلك ولكن الكبر من سفه الحق وغمص الناس ) وروى أبو داود من حديث أبي هريرة أن رجلا جميلا أتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال:إني أحب الجمال وقد أعطيت منه ما ترى حتى ما أحب أن يفوقني أحد بشراك نعل فمن الكبر ذلك ؟ قال صلى الله عليه وسلم:( لا ولكن الكبر من بطر الحق وغمص الناس ){[497]} .
ومن الخيلاء إطالة الثياب وجر الأذيال بطرا ومنه مشيه المرح فترى الشاب يتمطى ويمرح ويأرن كالمهر أو العجل ويضرب برجليه الأرض{ ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا} [ الإسراء:37] ولكن يجوز ذلك في الحرب ومثله التعليم العسكري .والفخور كثير الفخر يعد مناقبه ويزكي نفسه تعاظما وتطاولا على الناس وتعريضا بنقصهم وتقصيرهم عن بلوغ مداه .والجمع بين هاتين الخلتينالخيلاء وكثرة الفخرهو التناهي في الكبرياء والعتو على الله تعالى باحتقار خلقه والامتناع من الإحسان إليهم بالقول والعمل بدلا من الفخر والزهو عليهم بالقول والعمل ولا سيما أصحاب تلك الحقوق المؤكدة والأحاديث في ذلك كثيرة ، وكانوا يتفاخرون في الجاهلية بآبائهم فنهوا عن ذلك في الأحاديث نهيا صريحا فتركوه ، والفخر في الشعر إذا أريد به الترغيب في الفضيلة فلا بأس به وإلا كان مذموما .