{ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم عن الله لا يحب من كان مختالا فخورا36 الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله واعتدنا للكافرين عذابا مهينا37 والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله واليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا38 وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما39}
في الآيات السابقة من اول السورة وردت أحكام الأسرة ، وواجبات الأقوياء فيها بالنسبة لضعفائها ، والدعائم التي تقوم عليها ، والحقوق المتبادلة بين آحادها ، وأشير إلى الآفات التي قد تعروها ،ثم بينت عناصر تكوينها سليمة ، وأشير إلى المعاملات المالية بينها من غير تفضيل ، ثم بين علاج ما يكون بين الزوجين من أسباب النزاع التي قد تهدد المودة الواصلة بينهما بالقطع ، وفي هذه الآيات ذكر سبحانه الأسس التي تقوم عليها المعاملات العامة والخاصة ، وذكر وجوب الإحسان إلى كل من يتصل بالشخص بقرابة او جواز ، ثم بين حال الذين يقطعون العلاقات بين الناس ، وبين سبحانه وتعالى ان أساس التعامل الفاضل هو عبادة الله تعالى وحده ، من غير إشراك ، وان أساس التعامل الفاسد هو ان يريد الشخص بعبادته غرضا من أغراض الدنيا من غير اتجاه إليه سبحانه ، ومراعاة حق الناس عليه .
ولذا قال سبحانه:{ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا} هذا اول الخط الذي يسير فيه الفاضل في علاقته بالله وبالناس ، وهو اول الخط المستقيم ، والعبادة معناها خلوص النفس لله تعالى ، والاتجاه إليه وحده ، والإخلاص في كل ما يعمل لله تعالى ، وهي بهذا المعنى تشمل العبادات من صلاة وحج وصوم ، وصدقات . والصلاة لب العبادة ، وهي ذات صور مختلفة في الديانات ، ولكنها في صميمها لا تكون صلاة إلا إذا تحققت فيها الضراعة التامة ، والاتجاه إلى الله وحده ، وعدم الانشغال عنه سبحانه بأي عرض من اعراص الدنيا . وهذه هي العبادات المفروضة ، وبعدها يكون الاتجاه إلى الله تعالى في كل مقصد وعمل ، ولا يحس بالالتجاء إلا له ، فالدعاء له وحده ، لا يشرك معه أحدا في دعائه ، ولذلك ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال:"الدعاء مخ العبادة"{[718]} . ويلي هذه المرتبة في سمو العبادة ألا يفعل العمال إلا لله ، ولا يحب إلا في الله ولا يبغض إلا في الله .
وهذه المرتبة يصورها قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لا يحبه إلا لله"{[719]} .
هذه هي العبادة ، او إشارات إلى أنواعها ومراتبها . وإن الأخذ بها يجعل كل العمال في دائرة الفضيلة ، وينير البصيرة ، وإن نقيض العبادة الخالصة لله تعالى الشرك ، وهو منهي عنه . وكما ان العبادة مراتب فالشرك مراتب أيضا ، أعلاها الشرك الأعظم ، وهو اعتقاد شريك لله تعالى في ألوهيته واستحقاقه للعبودية ، وهو الذي ذكره الله تعالى في قوله:{ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء . . .116}[ النساء] ويليه ان يعتقد ان أحدا ينفع ويضر من دون الله ، والالتجاء إلى غير الله والخضوع لغير الله وبغير ما امر الله تعالى . والمرتبة الثالثة الإشراك في القربات ، بأن يصلى مرائيا ، او يزكي مباهيا ، او يصوم متعاليا ، ولا يقصد وجه الله بصومه ، وقد يرائي فقد أشرك"{[720]} ، ويسمى هذا النوع الشرك الخفي . وقد روى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن أخوف ما أتخوف أمتي:الإشراك بالله ، اما إني لست أقول يعبدون شمسا ولا قمرا ولا وثنا ، ولكن أعمالا لغير الله وشهوة خفية"{[721]} .
وإن النهي عن الشرك يشمل الإشراك بالله في أي شيء او أي حال ، ولذا قال تعالى{ ولا تشركوا به شيئا} ، أي شيء وعلى أي نحو كان ، سواء أكان شركا ظاهرا ام كان شركا خفيا . وإن الإشراك في كل صوره يضعف الضمير ، والإيمان بالله يقوي الضمير ، وإن اول مظاهر قوة الضمير قوة الضمير التي توجدها عبادة الله وحده ، البر بالناس ، ولذا عقب طلب البر والإحسان بالنهي عن الإشراك فقال تعالى:
{ وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين} وقد قرن الله سبحانه وتعالى النهي عن الإشراك بالإحسان إلى الوالدين ، ومن وليهما ، وقد جاء في آيات أخرى ذكر الإحسان بالوالدين فقط بعد النهي عن الإشراك ، كما قال تعالى:{ وقضى ربك الا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا}[ الإسراء] لأن أحق من يستحق الإرضاء بعد الله الوالدان ، ولا يستحق غيرهما بعد الله الشكر ، ولذا قال تعالى:{ ان اشكر لي ولوالديك . . .14}[ لقمان] وقال عليه الصلاة والسلام:"رضاء الرب من رضا الوالدين ، وسخطه في سخط الوالدين"{[722]} ، والإحسان إلى الوالدين بالصحبة الكريمة ، وسد حاجتهما ، والقول الحسن ، وعدم التململ من حياتهما إن بلغا الكبر ، وتعبا تعب الشيخوخة ، وصارت حياتهما عبئا على أولادهما ، ولذا قال سبحانه وتعالى:{ إما يبلغن عندك الكبر احدهما او كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما23 واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا24}[ الإسراء] .
والإحسان إلى ذي القربى من هذا الصنف ، فعلى القريب أن يحسن بقريبه ، بسد حاجته ، ويكرم صحبته ، ويصله ولو قاطعه ، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ليس الواصل بالمكافئ إنما الواصل من يصل رحمه عند القطيعة"{[723]} ، ويكون في عونه دائما في دفع الملمات ، والمواساة في الشدائد .
والإحسان باليتيم ، يكون بإيوائه ، والعطف الذي يقوم مقام عطف أبيه ، وسد حاجاته ، والاختلاط به بالرحمة ، فيجعله مع أولاده مختلطا بهم ، مؤتنسا معهم ، ويسوي بينهم وبينه ، لكي ينشأ أليفا مألوفا مع المجتمع الذي يعيش فيه ، وقد ورد في الأثر:"إن خير بيوت المسلمين بيت يكرم فيه يتيم"{[724]} ، وإن قهر اليتيم وإذلاله ينشئه نافرا شاذا ، فيكون عدوا للجماعة لا يألفها ، ويكون منه الإجرام ، والإيذاء ، وقد قال الله تعالى:{ فأما اليتيم فلا تقهر9}[ الضحى] .
والمساكين هم الفقراء والذين لا طاقة لهم على عمل ، لمرض مزمن او شيخوخة فانية ، او آفة في جسمهم تجعلهم غير قادرين ، او تعطل لا يجدون معه عملا يعملون ، والإحسان بهم سد حاجاتهم ، وكفالة الراحة لهم .
وبعد ان بين سبحانه الإحسان اللازم المطلوب الذي لا مناص عنه ، وهو دفع الآفات الاجتماعية ، اتجه إلى الإحسان إلى المجتمع القريب ، والإحسان في المعاملة بشكل عام ، فقال:
{ والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم}{ والجار ذي القربى} هو الجار الذي يتصل بالإنسان بصلة الرحم والقرابة ، وهذا له مع حق الجوار حق الرحم ، فقد ثبت له الإحسان من ناحيتين:
إحداهما:من ناحية القرابة ، فهو داخل في ذي القربى ، والثانية:الجوار ، وقد يقول قائل:لماذا امر بالإحسان به في الجوار مع انه مذكور في القرابة ؟ والجواب عن ذلك ان الجوار قد يوجد احتكاكا ، تكون معه الشحناء ، فللحرص على بقاء المودة الواصلة ، نبه – سبحانه – إلى ان الجوار يوثق الإحسان ولا يباعده ، فهو يجعله اوجب وألزم .
{ والجار الجنب} هو الجار الذي يكون مسكنه او متجره ، او مزرعته بجنبك ، والإحسان إليه بألا يكون منه أذى له بأي نوع من أنواع الأذى ، فلا يزعجه في أمنه ، ولا يمنع الماء عنه ، ولا يرسل إليه الماء غير الصالح ، ويلقى عليه مزابل بيته . ثم من الإحسان به مواساته في شدائده ، ومعاونته في حاجاته ، وان يحفظ سره ، ولا يكشف عورته ، ولا يعلن منه ما يخفي على الناس . ومن الإحسان إليه أن يهدي إليه ما يعجز عن شرائه لأولاده من حلوى وفاكهة ونحو ذلك . ومن الإحسان إلى الجار هو الأمر الذي يدعو إليه التآلف الإسلامي في المجتمعات الصغيرة ، وقد أكثر النبي صلى الله عليه وسلم من الحث على الإحسان بالجار{[725]} .
{ والصاحب بالجنب}هو الصاحب الذي يكون بجنبك في عمل او سفر ، او طريق ، او مركب ، وقد قال جار الله الزمخشري في ذلك:
"الصاحب بالجنب هو الذي صحبك بان حصل بجنبك إما رفيقا في سفر ، وإما شريكا في تعلم علم او حرفة ، وإما قاعدا إلى جنبك في مجلس او مسجد ، أو غير ذلك من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه . فعليك ان ترعى ذلك الحق ولا تنساه وتجعله ذريعة إلى الإحسان"وإن من الإحسان إلى الصاحب الذي يكون بجنبك ، ألا تؤذيه بمنظر كريه أو ريح كريهة ، وان تحافظ على الحياء في مجلسك ، فلا تجعل نعلك يحف بثيابه او بحيث يؤذيه ، وان تعاونه عن كان محتاجا إلى معاونتك .
{ وابن السبيل} هو المنقطع عن أهله ولا مال له ، فكان الطريق تبناه ، والإحسان إليه بإيوائه وإطعامه وتسهيل الحياة له حتى يعود إلى أهله . وقد اوجب الإسلام إعداد مأوى من بيت مال الزكاة ، وإمدادهم بالطعام والكساء حتى يثوبوا إلى أهلهم .
{ وما ملكت أيمانكم} هم العبيد والإماء الذين ملكت رقابهم في الحروب العادلة ، فهم في سيطرة المالك لهم ، وكان رقابهم في يمينه يسيرها كما شاء . والإحسان إليهم يكون من مالكهم بالإطعام والكساء والمأوى ، وعدم إيذائهم بأي نوع من أنواع الأذى ، فلا يضربون ، ولا يلطمون ، وقد قال عليه الصلاة والسلام:"من كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ، وليلبسه مما يلبس ، ولا تكلفوهم من العمل ما يغلبهم ، فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه"{[726]} .
وفي سبيل الإحسان بهم نهى النبي عن ان يقول المالك عبدي وأمتي ، فقال"لا يقل أحدكم عبدي وأمتي ، بل ليقل فتاي وفتاتي"{[727]} ، ونهى عن ضربهم:"من لطم عبده فكفارته عتقه"{[728]} ، وقال بعض الحنابلة:إنه بمجرد اللطم يكون عتيقا .
وهنا بحث لفظي في الكلمة السامية:{ وبالوالدين إحسانا} ، فقد قالوا:إن "أحسن"تتعدى بنفسها وذلك بالنسبة للأعمال ، ومن ذلك قوله تعالى:{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا30}[ الكهف] وقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا ان يحسنه"{[729]} وقول علي رضي الله عنه:( الناس أبناء ما يحسنون ) . ويتعدى بالباء ، وبإلى وباللام ، وتكون بمعنى الإنعام والإكرام . وقالوا:إنها في تعديها بالباء تكون بمعنى الإكرام مع الاتصال والمودة والقرب ممن أحسن إليه .
{ إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا} المختال هو ذو الخيلاء أي الكبر ؛ وذلك لأن المتكبر يتخيل لنفسه من الصفات والسجايا والأفعال ما ليس فيه ، فسيعلى على الناس ، والفخور هو الذي يكثر من ذكر مزاياه ويبالغ فيها ، ويحب ان يحمد بما لم يفعل . وإن هذين الوصفين يتلازمان ، فحيث كان الكبر كان الفخر الكاذب ، والله تعالى لا يحب هؤلاء ؛ لأنهم يستنكفون عن الاتصال بالناس ، ويغمطون حقوق الناس ، ولا يقومون بحق النعمة التي انعم الله بها عليهم ، ولذا قال عليه الصلاة والسلام:"الكبر بطر وغمط الناس"{[730]} .
وكان ذكر ذلك النص الكريم بعد طلب الإحسان للإشارة إلى ان المتصف بهاتين الصفتين لا يمن ان يكون محسنا لأحد – هو إيذاء بصفاته وبأفعاله ، وهو مصدر الشر والتفرق في الجماعات ،