الخط الإيماني في مسؤولية العلاقات الإنسانية:
كان الحديث في الآيات السابقة عن الأسرة الصغيرة ؛وفي هذه الآيات بعض الحديث عن الأسرة الكبيرة ،وهي المجتمع الذي يعيش فيه الأفراد ضمن خلايا متنوعة ،ينتقل فيها الإنسان منذ طفولته من خلية إلى أخرى ،ويتحمّلعلى أساس ذلكمسؤوليته تجاهه .وتلك هي النظرة الإسلامية الواسعة للحياة ،فإن النمو الطبيعي للإنسان في المؤسسات الاجتماعية المختلفة التي ترعاه وتطعمه وتسقيه وتعلّمه وتمرّضه وتدافع عنه ،يجعل للمجتمع حقاً عليه في القيام بمسؤوليته ،من خلال الإمكانات المالية والعلمية والبدنية التي ساهم المجتمع بها في تكوينه ،وهذا ما أرادت هذه الآيات أن توجه الإنسان إليه في بعض مجالاته العملية .
ولمّا كان الإسلام يعتقد أن على الإنسان أن يرتكز على قاعدة فكرية وروحية تحدد له مواقعه ومساره في الحياة ،فقد بدأ بالنداء الذي يدعو إلى عبادة الله وحده وعدم الإشراك به ،لأن ذلك هو الذي يوحّد التصور والمسار والهدف ،ويجعل الإنسان خاضعاً في تصرفاته العملية لقوة واحدة ،هي الله ،باعتباره النقطة الوحيدة التي تحدد له منطلقاته في الحياة ،فهو الهاجس الدائم الخفي الذي يحكم كل أفكاره ومشاعره ،لأن معنى أن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً ،هو أن نخشع له ونخضع لسلطته ونطيعه ونطلب رضاه ومحبته ،وبذلك نبتعد عن كل الأشياء التي تبعدنا عنه ،ونجعل الحياة كلها ساحة متحركة من أجل الحصول على ثوابه والبعد عن عقابه .وهذا هو قوله تعالى:{وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} .وفي هذا الجو ،يمكننا أن نحدّد علاقتنا بالأشياء والأشخاص ،لتكون بأجمعها مشدودةً إلى هذا الخط وسائرة في هذا الاتجاه .فإذا فكر الإنسان أن يقترب من هذا أو يبتعد عن ذاك ،أو يعطي هذا أو يمنع ذاك ؛فإن مسار التفكير ينطلق في الاتجاه الذي يحدده ما يرضي الله أو ما يسخطه ،وما يحبه الله أو ما يبغضه ،وهذا ما حددته بعض الآيات الكريمة التي تحدثت عن صفة المؤمنين في كلمة واحدة حاسمة .{الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [ الأحقاف:13] .فإن الاعتراف بالله الرب الواحد ،يحدّد للإنسان نقطة البدء التي تنتهي إليه في نهاية المطاف .وهذا هو معنى الاستقامة التي توجّه الخطوط المنطلقة من الإيمان به ،نحوه ،في مسيرة الإنسان الصاعدة إليه .
ومن هنا كانت البداية ؛فإذا كنا نريد أن نعبد الله وحده ،فعلينا أن نحب ونرعى من يريد الله منا أن نحبه ونرعاه ؛وتلك هي بعض النماذج الإنسانية التي تعيش داخل المجتمع .
وبالوالدين إحساناً
{وَبِالْوَلِدَيْنِ إِحْسَاناً} هذه هي الخلية الأولى من خلايا المجتمع التي تحضن الإنسان ؛وهي تضم والديه اللذين هما السبب المباشر لوجوده ،وهما اللذان أعطياه من كل شيء يملكانه من دون مقابل ،وذلك هو النموذج الذي يشعر معه المعطي بالعطاء ،كحالةٍ وجدانية ذاتية تتصل بالإحساس الطاهر الرفيع من كيانه .وقد أراد الله لنا أن نعيش الشعور بالحاجة إلى الإحسان إليهما ،من خلال ما نقدم إليهما من خدمات ،وما نصبر عليه من سلبياتهما المزاجية والعملية ،كنوعٍ من الاعتراف بالجميل لإحسانهما الذي لن نستطيع بلوغ مداه ؛لأنهما عاشا العطاء من موقع الإحساس الذاتي بالحاجة إليه ،تماماً كما هي حاجتنا إلى أن نعيش حياتنا .أما نحن ،فنعيشغالباًالعطاء من موقع الواجب الذي قد نحس بثقله علينا في كثير من الحالات .
ولعل الإحسان إلى الوالدين ،بما يعنيه من الاعتراف بالجميل ،يعطينا درساً في الفكرة من ناحية المبدأ ،عندما نواجه الكثيرين من الناس الذين يقدِّمون إلينا خدماتٍ متنوعةً فيكون علينا مقابلتهم بالإحسان إليهم من خلال إيماننا بالمبدأ الذي عشنا تجربته مع الوالدين ،وقد يكون في الجانب السلبي من الممارسة ،في عدم الإحسان إليهما ،ما يوحي بأننا سنعيش الشعور بالجحود والنكران مع الآخرين ،لأن حق الوالدين هو أعظم الحقوق بعد حق الله ،فإذا أنكره الإنسان ،فإن إنكار ما هو أهون منه أسهل .وقد نلاحظ أن القرآن لم يوص الوالدين بالولد كما أوصى الولد بوالديه ،وربما كان الأساس في ذلك أن الفطرة التي تفجر ينابيع العاطفة الروحية لدى الوالدين ،تغني عن كل النصائح والأوامر في هذا الاتجاه ،لأنهما يحققان المبدأ من ناحية فطرة ذاتية ،من دون ملاحظة لأي شيء خارجي .ولكن الأحاديث المأثورة تحدثت عن بعض تفاصيل حقوق الولد على والديه ،في بعض الجوانب التربوية الفكرية والعملية ،لتتحرك مسؤوليتهما في ذلك ،في ما لا يلتفتان إليه من ناحية العاطفة .
كيف نفهم الإحسان للوالدين ؟
وقد نحتاج للإشارة إلى نقطة مهمة في موضوع إطاعة الوالدين ،وهي أن القرآن الكريم لم يستخدم تعبير «إطاعة الوالدين » ليكون ذلك عنواناً للخط الذي يسير عليه الولد مع والديه ،فيكون ذلك لوناً من ألوان جعل السلطة للوالدين بالتدخل في شؤون الولد في مسار حياته الخاصة والعامة ،وفي توجيه أفكاره وانتماءاته وعلاقته بالناس والأشياء ؛كما ربما يعتقد الكثيرون من الناس ؛بل استخدم تعبير الإحسان للوالدين وعدم محاولة إيذائهما والشكر لهما على ما قاما به ،إلا في الجانب السلبي كما في قوله تعالى:{وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُما} [ العنكبوت:8] فإنهما قد يطلبان من الولد أن يجسّد الإحسان إليهما بإطاعتهما في معصية الله ،لأن ذلك يدخل السرور عليهما ويُثبت لهما أن ولدهما بارٌّ بهما مخلصٌ لهما ،فكان النهي الإلهي له عن ذلك أن يمتنع عن إطاعتهما في هذا الموضوع المضاد لمصلحته لأنه يبعده عن الله ويعرّضه لغضبه ،مع الأمر بمصاحبتهما بالمعروفعند عصيانهماواتباع سبيل المنيبين إلى الله .ولكن ذلك لا يعني وجوب الطاعة لهما في غير مورد المعصية إذا كان مضمون الأمر الأبوي أو الأمومي مخالفاً لمصلحته في حياته ،لأن الإحسان إليهما يصطدم بالإساءة إلى نفسه ،وهذا ليس مطلوباً منه ،بل كل ما هناك أن عليه أن يتحرك معهما بأسلوب الإحسان من دون أن يقع في مشكلة في واقعه العملي .وعلى ضوء ذلك ،فإن المبدأ هو الإحسان والرعاية وتجنب الإيذاء .
أما في غير هذا المجال ،فللولد أن يتبع طريقه على هدي قناعاته المستمدة من الفكر والمعاناة والتجربة والإيمان ،فليس لهما أن يضغطا عليه في التخلي عن قناعاته بحجّة حقهما الوالدي ،وليس لهما تخريب مخططاته العملية على ذلك الأساس ،إلا إذا دخلا معه في عملية حوار وإقناع ؛ولكن لا بد لنا من إثارة تحفّظ في هذا المجال ،وهو محاولة الولد الابتعاد عن مواجهتهما بالعصيان بطريقةٍ مباشرةٍ جافةٍ ،بل إن عليه أن يدير الأمور بطريقة لبقةٍ ذكيةٍ تحقق له مصلحته وتبتعد به عن إيذائهما ،لأن ذلك ما نفهمه من مبدأ الإحسان ،وقد يفرض عليه الموقف أن يضحّي ببعض مشاعره لمصلحة مشاعرهما ،في ما لا يترتب عليه مفسدة كبيرة .وعلى كل حال ؛فإن الإنسان المؤمن الواعي يعرف كيف يدير علاقاته بوالديه إدارة حكيمة ،تجمع بين مصلحته وبين الإحسان إليهما .
{وَبِذِي الْقُرْبَى ..} وهم أرحام الإنسان الذين يرتبط بهم بصلة النسب ،ويمثّلون الخلية الثانية من خلايا المجتمع الحاضنة له ،وقد أراد الله لنا أن نحسن إليهمٍ فنصلهم ولا نقطعهم ،ونتحمل منهم الأذى ؛لأن ذلك ما يجعل العلاقة باقية في نطاقها الطبيعي ،باعتبار أن التغلّب على المشاكل ،في المواضع الحسّاسة التي تثيرها تعقيدات القربى ،يتيح المجال للتغلّب على أمثالها في المواقع الأخرى التي هي أقلّ تعقيداً ؛هذا من جهة ،ومن جهة أخرى فإن الله سبحانه يريد للإنسان أن يحافظ على الصلات التي ترتبط بالروابط الطبيعية الحميمة ،كأساسٍ من أسس التخطيط لإيجاد روابط أخرى جديدة .فإن انهيار تلك الروابط يؤدّي إلى فقدان الفرصة لصنع الأخرى .وقد وردت النصوص الدينية الكثيرة التي تؤكد على صلة الرحم ،باعتبارها من القيم الإسلامية الكبيرة التي يعتبر الانحراف عنها موجباً للدخول في النار .
{وَالْيَتَامَى} هذه هي الفئة المحرومة من فئات المجتمع ،التي بقيت معلّقة بالهواء ومعرّضة للضياعمن ناحية ذاتية.فقد فقدت الآباء أو الأمهات ،ففقدت الحاضن الذي يحضنها ،والكفيل الذي يكفلها ويرعاها ،والقلب الذي يغذيها بالحنان والعاطفة ؛فأراد الله للمجتمعبمختلف أفرادهأن يحمل مسؤولية رعاية هؤلاء ،فيمنحهم الشعور بالحياة والقوة ،ويدفعهم إلى الإحساس بالتفاؤل بالمستقبل ،وبأنهم يقفون على أرض قوية صلبة ،وذلك في ما يكفله لهم المؤمنون من رعايةٍ وعنايةٍ وإحسان .
{وَالْمَسَاكِينِ ...} وهذه هي الفئة التي تعيش المسكنة الطبيعية في الظروف الصعبة التي تمرّ بها في حياتها ؛فليس لديها مجال للعيش الكريم ،وليس عندها فرصة للعمل المنتج أو للحصول على الإمكانات المادية التي تهيّىء لها سبل الحياة بشكل معقول .وقد أراد الإسلام للناس أن يكفلوا حياة هؤلاء ويجنبوهم ذل السؤال ،ويحفظوا لهم كرامتهم في الغذاء والملبس والمسكن ،بالطريقة العزيزة التي تتيح لهم الارتفاع إلى مستوى الحياة العادية للنّاس ؛وذلك من موقع الفرض لا من موقع المنّة ،من خلال ما فرضه الله من فرائض ماليّة في أموال المؤمنين .
{وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} وقد أراد الإسلام منا أن نهتم بالجار ،كمظهر من مظاهر الإحساس بأن الجوار يحقق علاقة إلفة ومحبّة ،تفرض على الإنسان حقاً في القيام برعاية الجار والإحسان إليه وتحمّل الأذى منه ،سواء كان هذا الجار قريباً أو بعيداً ،مسلماً كان أو كافراً ..وهذا أسلوبٌ إسلاميٌ في تخطيطه للحياة ،في اعتبار المجتمعات الصغيرة المتقاربة من الناحية السكنية أساساً للمجتمع الكبير ،في ما يعيشه الأفراد من علاقات حميمة مسؤولة ،تتجاوز المشاكل الطبيعية اليومية التي قد تحدث بفعل الاتصال الشديد الذي يعقِّد الكثير من الأوضاع .وقد شدّد على ذلك ،كما لم يشدّد على شيء آخر في نطاق العلاقات الإنسانية البعيدة ،حتى ورد في الحديث الشريف ،«ما زال جبرائيل( ع ) يوصيني بالجار ،حتى ظننت أنه سيورّثه » .وبذلك أعطى هذه العلاقةعلاقة الجواربُعداً روحياً يمتص من خلاله الكثير من المشاكل التي يريد للإنسان المؤمن أن يتجاوزها قربةً إلى الله ؛وذلك لأننا إذا أردنا أن نخضع العلاقات الإنسانية إلى الجانب المادي المبنيّ على الحسابات الدقيقة المعقّدة وأغفلنا الجانب الروحي ،لوقعنا في أوضاع صعبة جداً ،لا سيما في مثل هذه العلاقات التي لا مجال للإنسان للانفصال عنها إلا بتغيير حياته من الأساس في مسكنه أو أوضاعه ؛وتلك هي طريقة الإسلام في التعامل مع الجانب الاجتماعي من حياة الإنسان ،وذلك لما يثيره في نفسه من التفاعل الروحي والمادي ؛ليستمر الانسجام مع المجتمع من موقع الروح ،إذا لم تتوفر الأرباح في الحسابات المادية .
{وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ} قيل: إنه من كان رفيقاً في السفر ،أو جليساً في الحضر ،أو شريكاً في الدرس ،أو في حرفة وما إلى ذلك ...وهذا هو الخط الإسلامي الذي يعتبر للصحبة حقاً إنسانياً يوحي بالرعاية والإحسان ،في ما يحتاجه الصاحب من شؤون الحياة ،وما يواجهه من مشاكلها ،وما يحتاج إلى ستره من عيوبه وخطاياه مما يمكن أن يطّلع عليه صاحبه منه من خلال استمرار الصحبة ،وما يتطلبه من احترام مشاعره وأحاسيسه ،في الأمور التي تثيره وتغضبه ،وفي القضايا التي تفرحه وتريحه ،وغير ذلك من الأمور التي تمثلها كلمة الإحسان بما توحيه من مشاعر وممارسات .
{وَابْنِ السَّبِيلِ} وهو المنقطع به في السفر ،في المواضع التي لا يملك فيها تدبير أموره من ناحية مالية ؛فإن على المسلمين أن يحفظوا عزته وكرامته ،ويحسنوا إليه بما يحل له مشكلته حتى يبلغ بلده .
{وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ...} من العبيد والإماء ؛فإن على الإنسان المؤمن أن لا يعتبر الرق مصدر شعور بالدونية لهؤلاء ،أو مبرر إذلال عملي لهم ،بل ينبغي له أن يعترف بأن ذلك لا يلغي إنسانيتهم وحاجتهم إلى الرعاية والحماية والاحترام والإحسان ،بل كل ما هناك ،أنه وضع قانوني شرّعه الله في نطاق المصالح العامة التي ينطلق منها التشريع ،وأراد للناس أن يعملوا على اعتبار تحرير الرقيق هدفاً إسلامياً من خلال الوسائل الشرعية المتاحة للإنسان .
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} ربما كان تعقيب الآية بهذه الفقرة إيحاءً للإنسان بأن الانسجام مع خط الله في السلوك يفرض عليه التواضع بين يدي الله ،فيحس بإنسانية الناس من حوله ؛فلا يتكبر عليهم ،ولا يأخذه الزهو والغرور والشعور بالخيلاء ،بسبب ما رزقه الله من مال وجاه ،أو يفخر بذلك فيحس بالاستعلاء عليهم ؛ويمنعه ذلك من الإحسان إليهم بالكلمة والنظرة والممارسة ؛فإن الله هو الذي أعطاه كل ما لديه من النعم ،وهو القادر على أن يسلبه إياها ؛وهو الذي جعل من نعمته عليه ،حاجة الآخرين إليه ،فليسلك السبيل التي يحبها الله ،ليحبه الله من خلال ذلك ؛فإن الله يحب المتواضعين الطيبين ،ولا يحب من كان مختالاً فخوراً .