مناسبة النزول
قوله تعالى:{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} .
في أسباب النزولللواحديقال أكثر المفسرين: نزلت في اليهود ؛كتموا صفة محمد( ص ) ولم يبينوها للناس ،وهم يجدونها مكتوبةً عندهم في كتبهم .وقال الكلبي: هم اليهود بخلوا أن يصدقوا من أتاهم صفة محمد( ص ) ونعته في كتابهم ،وقال مجاهد: الآيات الثلاث إلى قوله:{عَلِيماً} ،نزلت في اليهود .وقال ابن عباس وابن زيد: نزلت في جماعة من اليهود كانوا يأتون رجالاً من الأنصار يخالطونهم وينصحونهم ويقولون لهم: لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر ،فأنزل الله تعالى:{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} .
ونلاحظ أن الآراء الأولى تنسجم مع الفقرة الثانية من الآية وهي{وَيَكْتُمُونَ مَآ ءَاتَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} .أما رواية ابن عباس وابن زيد ،فهي تنطبق مع الفقرة الأولى:{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} وربما كان الوجهان صادرين عن اجتهادٍ ذاتيٍّ من المفسرين لا عن رواية ،والله العالم .
{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ..} وتلك هي صفة المختالين الفخورين ؛فإن هاتين الصفتين الذميمتين تمنعان الإنسان عن الانفتاح على الفئات المحرومة في المجتمع التي هي أقل منه مالاً وجاهاً ،وتوحيان إليه بالحرص على ما عنده من المال الذي أوصله إلى هذه المكانة ،ورفعه إلى هذه الدرجة ؛ويتنامى لديه هذا الشعور الأنانيّ الضيق ،الذي يسجنه في داخل ذاته ،فيخيّل إليه أن الدنيا تتجمّع في شخصه ،فلا وجود إلا له ،ولا مصلحة إلا مصلحته ؛فالمهم عنده أن يعيش ويشبع ويرتوي ويستمتع بالحياة ،ولا قيمة لحياة الآخرين ولحاجاتهم المعيشية .فلماذا يهتم بهم أو يعتني بأمرهم ،ما دامت حياتهم غير مرتبطة بحياته ؟بل ربما يمتد به الأمر إلى الإحساس بالخوف على ماله منهم ،وذلك لما يخيّل إليه من شعورهم بالحسد ضدّه .وهكذا تتحول الأنانية في نفسه إلى عقدة مرضيَّة ،تمنعه من العطاء والمشاركة والامتداد في حياة الآخرين ؛وهذا هو سر البخل الذي يتحكم في سلوكه ،في ما يحتاج الناس إليه من العطاء ،لأن الكرم خلقٌ رفيعٌ يتحرك في داخل النفس المنفتحة الممتدة في حياة الناس ،على أساس إحساسها العميق بإنسانيتها التي تتصل بإنسانيتهم ،وانطلاقها الواسع في رحاب الإيمان الذي يجد في العطاء تأكيداً للثقة بالله الذي منه العطاء ،وإليه يرجع ؛فهو صاحب الفضل في ما يعطي ،وما يأخذ ،وهو الذي يفيض على الإنسان نعمه في البداية ،وفي النهاية ،فلماذا البخل ،ولماذا الحرص ؛إذا كانت خزائن الله لا تنفذ وكرمه لا يضيق عن أحد ؟
دروس من ملامح المختالين
وهكذا أراد الله أن يعطينا ملامح هؤلاء المختالين الفخورين ،من خلال سلوكهم في مواقع العطاء ؛فهم لا يكتفون بالبخل ،بل يتنكرون للعطاء من قِبَل الآخرين الذين يعيشون العطاء كقيمة إنسانية روحية كبيرة .فيأمرونهم بالبخل ويخوفونهم بالفقر ويصوّرون لهم الواقع الذي تعيشه الفئات المحرومة بغير صورته الحقيقية ؛فهذا الإنسان لا يستحق العطاء لكذا ،وذاك لا يستحق الإكرام لكذا ...وهكذا يستمرون في إثارة الشكوك وتفويت الفرص ،وإضعاف الهمم ،وتجفيف منابع الخير في قلوب الناس ،لأنهم لا يريدون أن يحرجهم الآخرون في ما يعطون ،ولا يحبّون للعطاء أن يمتد أثره لدى الناس ،لأنه ينعكس سلبياً على مواقعهم الاجتماعية ،بما يكشفه من أنانياتهم وضعفهم وصغارهم في أنفسهم عندما يبدأ الناس المقارنة بينهم وبين الكرماء الطيبين من الأمة .ثم ذكر لنا أنهم يكتمون ما آتاهم الله من فضله ،في ما أنعمه عليهم من نعمه التي أراد لهم أن يبذلوها للناس ،سواء كان ذلك مالاً أو علماً أو جاهاً ،فلكل نعمة من هذه النعم مسؤولية لا بدَّ أن يقوم بها الإنسان في نفسه وفي الآخرين ،ولكنهم يكتمونها ،لأن إظهارها لا يلتقي مع طبيعة الأنانية المتحكمة في نفوسهم ؛وقد يبرز ذلك في أساليبهم المتنوعة التي يحاولون أن يظهروا بها أنهم فقراء لا يملكون شيئاً ؛خشيةً أن يطالبهم الناس بالعطاء .
وإذا صح ما جاء في أحاديث أسباب النزولالتي أشرنا إليها في صدر هذا الحديث التفسيري عن هذه الآياتمن أن المقصود بهؤلاء المختالين ،الفخورون الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل في أوضاعهم المادية ويكتمون ما آتاهم الله من فضله ،مما أعطاهم الله من العلم بالنبي المبعوث في صفاته وعلامات رسالته ونبوّته ،فإننا نرى أنهم يمثلون النموذج السلبي في واقع الإنسان الذي لا يريد الله للناس أن يقتدوه ،لأنه يريد للإنسان أن يعيش روحية العطاء مما رزقه الله لمن يحتاج إلى ماله ،كما يحب له أن يقدم للناس العلم الذي أتاه الله من فضله ،لأن الحقيقة كالماء والهواء ،ليست ملكاً ذاتياً لأي إنسان ،بل هي هبة الله للإنسان كله وللحياة كلها ،لأنها هي التي توضّح له الرؤية ،وتعمق له المعرفة ،وتحقق له التوازن في خطواته وعلاقاته وأوضاعه العامة والخاصة في الحياة ،باعتبار أن الباطل يبتعد به عن ذلك كله ويمنعه من أن يتصور الواقع في صورته الحقيقية ،مما يجعله منحرفاً عن خط الاستقامة في الفكر والعمل .
وعلى ضوء ذلك ،فقد نستوحي من الآية ،أن على العلماء الواعين أن يجاهدوا بعلمهم ولا يخافوا من إعلان الحق لأهله ،حتى لو كان ذلك على خلاف الذهنيات الخرافية الجاهلة المنحرفة التي تقف ضد كل رأي يختلف عما هو مألوفٌ عندها من عقائد الآباء والأجداد ومفاهيمهم الخاطئة التي تسيء إلى الإسلام وإلى المسيرة كلها ،وأن لا يتعقدوا من النتائج السلبية النفسية التي قد تحصل لهم إذا كان صاحب الحقيقة مختلفاً معهم أو بعيداً عنهم ؛الأمر الذي لا ينسجم مع مزاجهم الذاتي في الإقرار بفضله وبكفاءته وبقيمته العلمية وبصحة طريقته ورأيه العلمي في هذا الجانب أو ذاك ،وأن لا ينهزموا أمام الحملات والاتهامات الظالمة التي قد توجّه إليهم من الجاهلينٍ والمنحرفين ،فإن على المفكر الحرّ المنفتح على الحق أن يدفع ضريبة أخلاقية للحقيقة وانفتاحه عليها .
جزاء الكافرين
{وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} وقد تحدث عن الكافرين في نطاق حديثه عن المختالين ،للإيحاء بأن الإيمان لا يلتقي مع البخل ،ولا ينسجم مع الأنانية والخيلاء والتجبر والتكبر والفخر ،بل يلتقي مع التواضع والخشوع والرقّة والقلب الكبير ،فإذا عاش المؤمن مثل تلك الصفات الذميمة ،فإن ذلك يعني أنه يتحرك في أخلاقه من مواقع الخط الكافر ،لأن الشيطان هو الذي يوحي للإنسان بذلك ويخوفه من الفقر ،{وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً} [ البقرة:268] .وفي ضوء ذلك ،يلتقي الإنسان بالكفر العملي في سلوكه ،في الوقت الذي يبتعد عنه في تفكيره ؛الأمر الذي يجعل مصيره ،في بعض الحالات ،مصير الكافرين في ما ينتظرهم من العذاب على ما قدموه من معاصٍ وجرائم .