يأمر تبارك وتعالى بعبادته وحده لا شريك له; فإنه هو الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه في جميع الآنات والحالات ، فهو المستحق منهم أن يوحدوه ، ولا يشركوا به شيئا من مخلوقاته ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ:"أتدري ما حق الله على العباد ؟ "قال:الله ورسوله أعلم . قال:"أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا "، ثم قال:"أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟ ألا يعذبهم "ثم أوصى بالإحسان إلى الوالدين ، فإن الله ، سبحانه ، جعلهما سببا لخروجك من العدم إلى الوجود ، وكثيرا ما يقرن الله ، سبحانه ، بين عبادته والإحسان إلى الوالدين ، كقوله:( أن اشكر لي ولوالديك ) [ لقمان:14] وكقوله:( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ) [ الإسراء:23] .
ثم عطف على الإحسان إلى الوالدين الإحسان إلى القرابات من الرجال والنساء ، كما جاء في الحديث:"الصدقة على المسكين صدقة ، وعلى ذي الرحم صدقة وصلة ".
ثم قال:( واليتامى ) وذلك لأنهم قد فقدوا من يقوم بمصالحهم ، ومن ينفق عليهم ، فأمر الله بالإحسان إليهم والحنو عليهم .
ثم قال:( والمساكين ) وهم المحاويج من ذوي الحاجات الذين لا يجدون ما يقوم بكفايتهم ، فأمر الله بمساعدتهم بما تتم به كفايتهم وتزول به ضرورتهم . وسيأتي الكلام على الفقير والمسكين في سورة براءة .
وقوله:( والجار ذي القربى والجار الجنب ) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس:( والجار ذي القربى ) يعني الذي بينك وبينه قرابة ، ( والجار الجنب ) الذي ليس بينك وبينه قرابة . وكذا روي عن عكرمة ، ومجاهد ، وميمون بن مهران ، والضحاك ، وزيد بن أسلم ، ومقاتل بن حيان ، وقتادة .
وقال أبو إسحاق عن نوف البكالي في قوله:( والجار ذي القربى ) يعني المسلم ( والجار الجنب ) يعني اليهودي والنصراني رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم .
وقال جابر الجعفي ، عن الشعبي ، عن علي وابن مسعود:( والجار ذي القربى ) يعني المرأة . وقال مجاهد أيضا في قوله:( والجار الجنب ) يعني الرفيق في السفر .
وقد وردت الأحاديث بالوصايا بالجار ، فنذكر منها ما تيسر ، والله المستعان:
الحديث الأول:قال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن عمر بن محمد بن زيد:أنه سمع أباه محمدا يحدث ، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ".
أخرجاه في الصحيح من حديث عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر ، به .
الحديث الثاني:قال الإمام أحمد:حدثنا سفيان ، عن داود بن شابور ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ".
وروى أبو داود والترمذي نحوه ، من حديث سفيان بن عيينة ، عن بشير أبي إسماعيل - زاد الترمذي:وداود بن شابور - كلاهما عن مجاهد ، به ثم قال الترمذي:حسن غريب من هذا الوجه وقد روي عن مجاهد عن عائشة وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الحديث الثالث عنه:قال أحمد أيضا:حدثنا عبد الله بن يزيد ، أخبرنا حيوة ، أخبرنا شرحبيل بن شريك أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يحدث عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه ، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره ".
ورواه الترمذي عن أحمد بن محمد ، عن عبد الله بن المبارك ، عن حيوة بن شريح - به ، وقال:[ حديث] حسن غريب .
الحديث الرابع:قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا سفيان ، عن أبيه ، عن عباية بن رفاعة عن عمر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يشبع الرجل دون جاره ". تفرد به أحمد .
الحديث الخامس:قال الإمام أحمد:حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان ، حدثنا محمد بن سعد الأنصاري ، سمعت أبا ظبية الكلاعي ، سمعت المقداد بن الأسود يقول:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه:[ "ما تقولون في الزنا ؟ "قالوا:حرام حرمه الله ورسوله ، فهو حرام إلى يوم القيامة . فقال:رسول الله صلى الله عليه وسلم] لأن يزني الرجل بعشر نسوة ، أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره ". قال:ما تقولون في السرقة ؟ قالوا:حرمها الله ورسوله فهي حرام . قال "لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات ، أيسر عليه من أن يسرق من جاره ".
تفرد به أحمد وله شاهد في الصحيحين من حديث ابن مسعود:قلت:يا رسول الله ، أي الذنب أعظم ؟ قال:"أن تجعل لله ندا وهو خلقك ". قلت:ثم أي ؟ قال:"أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك ". قلت:ثم أي ؟ قال:"أن تزاني حليلة جارك ".
الحديث السادس:قال الإمام أحمد:حدثنا يزيد ، أخبرنا هشام ، عن حفصة ، عن أبي العالية ، عن رجل من الأنصار قال:خرجت من أهلي أريد النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا به قائم ورجل معه مقبل عليه ، فظننت أن لهما حاجة - قال الأنصاري:لقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جعلت أرثي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من طول القيام ، فلما انصرف قلت:يا رسول الله ، لقد قام بك هذا الرجل حتى جعلت أرثي لك من طول القيام . قال:"ولقد رأيته ؟ "قلت:نعم . قال:"أتدري من هو ؟ "قلت:لا . قال:"ذاك جبريل ، ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه . ثم قال:أما إنك لو سلمت عليه ، رد عليك السلام ".
الحديث السابع:قال عبد بن حميد في مسنده:حدثنا يعلى بن عبيد ، حدثنا أبو بكر - يعني المدني - عن جابر بن عبد الله قال:جاء رجل من العوالي ورسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل عليه السلام يصليان حيث يصلى على الجنائز ، فلما انصرف قال الرجل:يا رسول الله ، من هذا الرجل الذي رأيت معك ؟ قال:"وقد رأيته ؟ "قال:نعم . قال:"لقد رأيت خيرا كثيرا ، هذا جبريل ما زال يوصيني بالجار حتى رئيت أنه سيورثه ".
تفرد به من هذا الوجه وهو شاهد للذي قبله .
الحديث الثامن:قال أبو بكر البزار:حدثنا عبيد الله بن محمد أبو الربيع الحارثي ، حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك ، أخبرني عبد الرحمن بن الفضل عن عطاء الخراساني ، عن الحسن ، عن جابر بن عبد الله قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الجيران ثلاثة:جار له حق واحد ، وهو أدنى الجيران حقا ، وجار له حقان ، وجار له ثلاثة حقوق ، وهو أفضل الجيران حقا ، فأما الذي له حق واحد فجار مشرك لا رحم له ، له حق الجوار . وأما الذي له حقان فجار مسلم ، له حق الإسلام وحق الجوار ، وأما الذي له ثلاثة حقوق ، فجار مسلم ذو رحم له حق الجوار وحق الإسلام وحق الرحم ".
قال البزار:لا نعلم أحدا روى عن عبد الرحمن بن الفضيل إلا ابن أبي فديك .
الحديث التاسع:قال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن أبي عمران ، عن طلحة بن عبد الله ، عن عائشة; أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت:"إن لي جارين ، فإلى أيهما أهدي ؟ قال:"إلى أقربهما منك بابا ".
ورواه البخاري من حديث شعبة ، به .
وقوله:( والصاحب بالجنب ) قال الثوري ، عن جابر الجعفي ، عن الشعبي ، عن علي وابن مسعود قالا هي المرأة .
وقال ابن أبي حاتم:وروي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وإبراهيم النخعي ، والحسن ، وسعيد بن جبير - في إحدى الروايات - نحو ذلك .
وقال ابن عباس ومجاهد ، وعكرمة ، وقتادة:هو الرفيق في السفر . وقال سعيد بن جبير:هو الرفيق الصالح . وقال زيد بن أسلم:هو جليسك في الحضر ، ورفيقك في السفر .
وأما ) ابن السبيل ) فعن ابن عباس وجماعة هو:الضيف .
4
وقال مجاهد ، وأبو جعفر الباقر ، والحسن ، والضحاك ، ومقاتل:هو الذي يمر عليك مجتازا في السفر .
وهذا أظهر ، وإن كان مراد القائل بالضيف:المار في الطريق ، فهما سواء . وسيأتي الكلام على أبناء السبيل في سورة براءة ، وبالله الثقة وعليه التكلان .
وقوله:( وما ملكت أيمانكم ) وصية بالأرقاء ; لأن الرقيق ضعيف الحيلة أسير في أيدي الناس ، ولهذا ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يوصي أمته في مرض الموت يقول:"الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم ". فجعل يرددها حتى ما يفيض بها لسانه .
وقال الإمام أحمد:حدثنا إبراهيم بن أبي العباس ، حدثنا بقية ، حدثنا بحير بن سعد ، عن خالد بن معدان ، عن المقدام بن معد يكرب قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة ، وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة ، وما أطعمت زوجتك فهو لك صدقة ، وما أطعمت خادمك فهو لك صدقه ".
ورواه النسائي من حديث بقية ، وإسناده صحيح ولله الحمد .
وعن عبد الله بن عمرو أنه قال لقهرمان له:هل أعطيت الرقيق قوتهم ؟ قال:لا . قال:فانطلق فأعطهم ; فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوتهم "رواه مسلم .
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"للمملوك طعامه وكسوته ، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق ". رواه مسلم أيضا .
وعنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه ، فإن لم يجلسه معه ، فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين ، فإنه ولي حره وعلاجه ".
أخرجاه ولفظه للبخاري ولمسلم فليقعده معه فليأكل ، فإن كان الطعام مشفوها قليلا فليضع في يده أكلة أو أكلتين ".
وعن أبي ذر ، رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"هم إخوانكم خولكم ، جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ، وليلبسه مما يلبس ، ولا تكلفوهم ما يغلبهم ، فإن كلفتموهم ، فأعينوهم ". أخرجاه .
وقوله:( إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ) أي:مختالا في نفسه ، معجبا متكبرا ، فخورا على الناس ، يرى أنه خير منهم ، فهو في نفسه كبير ، وهو عند الله حقير ، وعند الناس بغيض .
قال مجاهد في قوله:( إن الله لا يحب من كان مختالا ) يعني:متكبرا ( فخورا ) يعني:يعد ما أعطي ، وهو لا يشكر الله ، عز وجل . يعني:يفخر على الناس بما أعطاه الله من نعمه ، وهو قليل الشكر لله على ذلك .
وقال ابن جرير:حدثني القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا محمد بن كثير ، عن عبد الله بن واقد أبي رجاء الهروي قال:لا تجد سيئ الملكة إلا وجدته مختالا فخورا - وتلا ( وما ملكت أيمانكم [ إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا] ) ولا عاقا إلا وجدته جبارا شقيا - وتلا ( وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا ) [ مريم:32] .
وروى ابن أبي حاتم ، عن العوام بن حوشب ، مثله في المختال الفخور . وقال:
حدثنا أبي ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا الأسود بن شيبان ، حدثنا يزيد بن عبد الله بن الشخير قال:قال مطرف:كان يبلغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقاءه ، فلقيته فقلت:يا أبا ذر ، بلغني أنك تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثكم:"إن الله يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة "؟ قال:أجل ، فلا إخالني أكذب على خليلي ، ثلاثا . قلت:من الثلاثة الذين يبغض الله ؟ قال:المختال الفخور ، أوليس تجدونه عندكم في كتاب الله المنزل ؟ ثم قرأ الآية:( إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ) [ النساء:36] .
وحدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا وهيب عن خالد ، عن أبي تميمة عن رجل من بلهجيم قال:قلت يا رسول الله ، أوصني . قال:"إياك وإسبال الإزار ، فإن إسبال الإزار من المخيلة ، وإن الله لا يحب المخيلة ".