{ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل( 44 ) والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا( 45 ) من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليِِِّاً بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليل( 46 ) .}
/م44
{ ألم تر}هذا تعبير قرآني قد تكرر في كثير من آي القرآن الكريم ، وأصل الصيغة للاستفهام ، وهو موجه إلى عدم الرؤية ، والاستفهام إنكاري لنفي وقوع ما دخل عليه ، فإذا قال القائل:أفعل فلان كذا . . . ؟ ! يستنكر نسبة الفعل إليه ، فمعناه نفي الفعل مع توبيخ من نسب إليه ذلك ، أو تنبيه السامع إلى النفي ، لأن معناه حينئذ:ما وقع من فلان هذا الفعل ، وما كان يعقل أن يقع منه . والاستفهام هنا متجه إلى أمر منفي ، ويقول العلماء إن نفي النفي إثبات ، فيكون معنى النص:قد رأيت ونظرت ببصيرتك وبصرك إلى عمل الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ، وفي هذا التعبير تنبيه إلى تأكد العلم بحال هؤلاء الذين تراهم من أهل الكتاب ، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم أوتوا نصيبا أي مقدارا من الكتاب ولم يؤتوا الكتاب كله ؛ لأنهم نسوا حظا مما ذكروا به ، ولأن الأحداث التي توالت عليهم من غارات التتار ومظالم الرومان ، قد جعلت أجزاء من كتبهم تتقطع سلسلة سندها ، ويذهب عنهم علمها ، وهم فوق ذلك لم يعملوا بأحكام ما وصل إليهم ، فهل قد وصل إليهم بعض الكتاب ، وحرفوا ذلك الذي وصل إليهم ، وأوّلوه على غير معناه ، وأهملوا العمل بأكثره ، فهم لم يؤتوا علما وتفسيرا وعملا إلا أقله ! .
وموضع التنبيه والغرابة ليس هو وصفهم ، وإن كان في ذاته أمرا أعجبا ، إنما موضعه أنهم يبتغون الضلالة ويطلبونها ولو دفعوا فيها أغلى الأثمان ، وهو الهدى ، ولا يطلبونها لنفسهم ، بل يريدون أن يكون غيرهم مثلهم في ضلالهم ، ولذا قال سبحانه وتعالى:{ يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل} أي تبعدوا عن الطريق المستقيم الذي هو صراط الله تعالى قال فيه تعالى:{ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله( 153 )} ( الأنعام ) .
وهما يرد بحثان لغويان:أحدهما أنه ذكر هنا المطلوب وهو الضلالة ، ولم يذكر المتروك كما في بعض الآيات الكريمة:{ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى( 16 )}( البقرة ) والجواب عن ذلك أن ذكر المطلوب وهو الضلالة من غير ذكر المتروك وهو الهدى ، أو ذكر المبيع من غير ذكر الثمن ، فيه ما يدل على أنهم يطلبون الضلالة في ذاتها ، فالبعد عن الحق مطلب لهم وغاية ، لأنهم مردوا على الباطل لا يستمرئون غيره ولا يبتغون سواه ! ! ويدل على هذا أن هناك قراءة بالياء{[740]} في ( أن تضلوا )وتكون الآية على هذه القراءة:( ويريدون أن يضلوا )أي أنهم يبتغون الباطل ويريدونه ولا يقعون فيه عن جهل وعماية ، بل عن قصد وإرادة ، وذلك شر ما تبتلى به النفس .
البحث اللغوي الثاني:أن"ال"في السبيل للعهد ، لا للاستغراق ، والسبيل الحق معروف بيّن لا عوج فيه ، وهو وحده الموصل إلى الحق ، لأنه الطريق المستقيم ، ولأنه صراط العزيز الحميد .
وإن هؤلاء هم أعداء أهل الإيمان حقا وصدقا ، لأنهم يبتغون الضلالة لأنفسهم ، ويبتغون الضلالة لغيرهم من المؤمنين ، ولقد قال سبحانه مقررا عداوتهم:{ والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا} .