/م44
فقال:{ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل} قال ابن جرير نزلت في طائفة من اليهود وروي ذلك عن ابن عباس وغيره ويرى بعضهم أن أهل الكتاب فيها أعم والرؤية في قوله تعالى:{ ألم تر} قلبية علمية كما قال ابن جرير وقيل بمعنى النظر ، والمعنى ألم ينته علمك أيها الرسول أولم تنظر إلى هؤلاء الذين أعطوا نصيبا أي حظا وطائفة من الكتاب الإلهي كيف حرموا هدايته واستبدلوا بها ضدها فهم يشترون الضلالة باختيارها لأنفسهم بدلا من الهداية ويريدون أن تضلوا أيها المسلمون السبيل أي طريق الحق القويم كما ضلوا فهم يكيدون لكم ليردوكم عن دينكم إن استطاعوا .والتعبير بالنصيب يدل على أنهم لم يحفظوا كتابهم كله وذلك أنهم لم يحفظوه في زمن إنزاله عن ظهر قلب كما حفظنا القرآن ولم يكتبوا منه نسخا متعددة في العصر الأول كما فعلنا ، حتى إذا ما فقد بعضها قام مقامه البعض الآخر ، بل كان عند اليهود نسخة واحدة من التوراة هي التي كتبها موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، ففقدت كما بينا ذلك في تفسير الآية الأولى من سورة آل عمران من الجزء الثالث من التفسير ) وفيه بحث تاريخ كتابتها وحقيقة الموجود الآن منها وبحث الإنجيل كذلك .ويؤيد ذلك قوله تعالى في كل من اليهود والنصارى{ فنسوا حظا مما ذكروا به} وسيأتي في سورة المائدة فهو تصريح بمفهوم ما هنا ، يقول هنا إنهم أوتوا نصيبا أي حظا ويقول هناك إنهم نسوا حظا ، فالكلام يريد ويصدق بعضه بعضا والتعبير بأوتوا الكتاب في موضع آخر لا يعارضه لأن الكتاب للجنس ومن لم يعرف هذه الحقيقة من المفسرين قال إن المراد بالكتاب علمه .
وقال الأستاذ الإمام:قال"أوتوا نصيبا من الكتاب "لأنهم لم يأخذوا الكتاب كله بل تركوا كثيرا من أحكامه لم يعملوا بها وزادوا عليها ، والزيادة فيه كالنقص منه .فالتوراة تنهاهم عن الكذب وإيذاء الناس وأكل الربا مثلا وكانوا يفعلون ذلك وزاد لهم علماؤهم ورؤساؤهم كثيرا من الأحكام والرسوم والتقاليد الدينية فهم يتمسكون بها وليست من التوراة ولا مما يعرفونه عن موسى عليه السلام ، وهم يدعون اتباعه في الدين .فالأمر المحقق الذي لا شك فيه هو أنهم يعملون ببعض أحكام التوراة وقد أهملوا سائرها ففي مقام الاحتجاج بالعمل بالدين وعدمه يذكر الواقع وهو أنهم لم يؤتوا الكتاب كله إذ لم يعملوا به كله وإنما عملوا ببعضه ، وفي مقام الاحتجاج عليهم بالإيمان بالنبي والقرآن يناديهم:{ يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا} الخ كما ترى في الآية التالية لهذه الآية ومثلها كثير .
هذا ما قرره الأستاذ في الدرس ولما انتهى إلى هنا قلت:أليس التعبير بالنصيب إشارة أو نصا على أنهم لم يحفظوا الكتاب كله بل فقدوا حظا ونصيبا آخر منه ؟ فقال بلى فأجاز ما فهمته وأقره وكنت بينت هذا من قبل في الكلام على شريعة حمورابي ونسبتها إلى التوراة ، وما هي التوراة ، وذلك في المجلد السادس من المنار .فالذي لم يعملوا به من التوراة على ما اختاره الأستاذ الإمام يكون قسمين:أحدهما ما أضاعوه ونسوه وثانيهما ما حفظوا حكمه وتركوا العمل به وهو كثير أيضا .وقال بعض المفسرين إن المراد بما أضاعوه من الكتاب نعت نبينا صلى الله عليه وسلم وجعل بعضهم اشتراء الضلالة هو بذل المال لتأييد اليهودية والكيد للإسلام ومقاومته كان بعض عوام اليهود يعطون أحبارهم المال ليستعينوا به على ذلك .