{ إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا} الصّلى معناه إيقاد النار ، وصلى وقع في النار ، وأصليناهم نارا:ابتليناهم وعذبناهم بنار ، فالتميز هنا فيه تأكيد لمعنى العذاب بالنار والإيقاع فيها ، وإن العذاب الشديد الذي يستقبلهم يوم القيامة يستحقه الكافرون بسبب كفرهم ، من غير تفرقة بين ذرية إسحاق وإسماعيل وغيرهم ، ولذلك عبر بالموصول ، إذ التعبير بالموصول يشعر بأنه الصلة سبب الحكم ، فهؤلاء حكم عليهم بالعذاب ، لأنهم كفروا ، ومتى تحقق السبب تحقق الحكم بلا فرق بين قبيل وقبيل ، وأن عذاب الكفار دائم ، وآلامه مستمرة ، وقد أكد وجود العذاب بقوله سبحانه:{ سوف نصليهم ناراً}فسوف هنا كما قال سيبويه للتهديد ، فهي لتأكيد العذاب المقبل ولو بتراخ ، وتراخي العذاب مع تأكيده يجعل النفس في فزع حتى يقع .
{ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب}فعذاب هؤلاء الكفار دائم لا مناص لهم من الاستمرار فيه . فكلما أصاب العذاب موضع الإحساس من الجسم أعاد الله تعالى ذلك الإحساس إليه ، وذلك أن موضع الإحساس في الجسم هو الطبقة التي تلاصق اللحم مع الجلد ، فإذا فسدت هذه الطبقة ذهب الإحساس بالألم ، ولقد عبر الله تعالى عن موت الإحساس ثم إعادته بقوله تعالى:{ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها}فشبه سبحانه وتعالى حالهم في تعذيبهم بالنار بحال قطع من اللحم تلقى في النار ، فإذا تهدأت الجلود من شدة النار حتى صارت لا تحس بدل الله تعالى هذه الجلود بأخرى ، فيكون العذاب وآلامه في استمرار دائم ! ولا موضع إذن لاعتراض الذين يقولون:كيف يعذب جلد لم يعص لجريمة جلد قد عصى ؛ لأن الجسم المعذب واحد ، ولكن الكلام تصويري لبيان استمرار الإحساس بآلام العذاب ، فلا ينقلبون كقطعة فحم ، بل يستمر الإحساس بالألم الدائم ، وهذا يتلاقى مع ما روى عن الفضيل في تفسير هذا النص:"يجعل النضج غير نضيج"أي يجعل الجلد مع إصابة موضع الإحساس منه بما يميته لا يموت ، بل يستمر ! ومن العلماء من قال:إن الجلد لا يتغير ذاته بل يتغير وصفه ، فيخلق فيه هذا الإحساس بعد أن يبلى موضع الإحساس بالنار .
والغاية أن يذوقوا العذاب ، أي أن يستمروا في ذوقه والإحساس به ، وقد شبه الإحساس بالذوق ، للإشارة إلى عظيم الألم ، لأنهم يحسون به كمن يحس بذوق المرير من الطعام أو بمن يذوق النار ليأكلها ، واللسان أشد أعضاء الجسم حساسية ، فإذا كان العذاب يذاق ، فهذا دليل على شدة الإحساس ، وحيث اشتد الإحساس كان الألم ، وحيث مات الإحساس فلا ألم ، وليس لجرح بميت إيلام ! وقد ختم الله تعالى الآية بما يبين عظم سلطان الله:
{ إن الله كان عزيزا حكيما}هذا تذييل بلاغي يؤكد التهديد الذي اشتمل عليه ، فإن منزل العذاب قوي غالب ، هو المسيطر على كل شيء ، ولا يسيطر سواه ، وليس فوقه أحد ، ولا ناصر لأحد من أمره ، وهو حكيم يضع الأمور في مواضعها ، فلا يعذب محسنا ولا يثيب كافرا وإن كان يعفو عن كثير من دون الكفر .
وقد أكد سبحانه عزته وحكمته ب"إن"وب"كان"التي تدل على الاستمرار ، وإن من مقتضى حكمته أن يثيب الأبرار كما يعاقب الكفار .