( مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ) هذا الكلام السامي في تاكيد القول الأول وهو إثبات تنزيه الله تعالى وانه ما دعا إلا على الوحدانية ولقد كان كل هذا في مقام التوبيخ واثبات الحجة عليهم ، وعقابهم على كفرهم وافترائهم على الله تعالى ربهم ، وعلى عيسى ابن مريم رسوله سبحانه إليهم .
والجملة السامية السابقة فيها إثبات استحالة أن يكون قد قال ( اتخذوني وأمي آلهين ) فهي تفي بالدليل ، وهي هذه الجملة السامية فيها نفى وإثبات فيها نفى القول الذي نسبوه بهتانا إليه وفيه ثبات ما قاله ولم يقل سواه ولذلك كان فيه قصر بالنفي والإثبات فهو يذكر أنه دعا إلى التوحيد المطلق وفيه إثبات أنه لا يمكن أن يدعو إلى التوحيد المطلق وذلك لثلاث أمور:
اولها أنه هو الذي أمر ربه ولم يؤمر بغيره وهو رسول من عند الله ولا يمكن أن يكون الرسول قد ادى الرسالة على وجهها إلا إذا بلغ ما أمر به دون سواه ولذا قال عليه السلام:( ما قلت لهم إلا ما أمرتني به ) .
ما أمرتني أن أقول وأبلغه وإلا أكن غير مؤد للرسالة .
ثانيها:أنه لم يكتف ببيان انه أدى ما أمر به إجمالا بل ذكر حقيقة ما دعا مفسرا غير مجملا اذ قال:( ان اعبدوا الله ) فإن هي المفسرة فهو يفسر ما أمر به وهو بين لا إبهام فيه .
وثالثها أنه أقام الدليل على استحقاقة وحده لعباده سبحانه:( ربي وربكم ) أي أنه هو المستحق للعبادة لأنه هو وحده الذي خلقني فأنا مخلوق فكيف أكون إلها وهو الذي خلقكم وحده فكيف تعبدون غيره ؟ وفي هذا التعبير أثبت وحدانية الخلق والتكوين ووحدانية الذات كما أثبت تصريح اللفظ وحدانية العباد .
وقد اكد عليه السلام أنه بلغهم تلك الحقائق فقال كما حكى عنه ربه:( وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم ) أي كنت مشاهدا لهم رقيبا عليهم تعلم ما حاوله من الزيغ والتحريف مدة بقائي فيهم ، فما تركت تنبيههم إلى التوحيد في العبادة والذات والصفات والتكوين مدة إقامتي بينهم ، ولما تركت الدنيا كنت أنت الرقيب .
( فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) في النص الكريم السابق ذكر عليه السلام شهادته عليهم وهو حي قائم برسالته مؤد لها على وجهها وفي هذا النص يذكر انتهاء مهمته بوفاته ويفوض أمرهم إلى ربهم في ألطف تعبير وأدق إشارة .
والفاء للتفصيل كما تدل على الحالية والبعد به ، والمعنى عند حد وفاتي ومن قبلها ، ومن بعد كنت أنت وحدك الرقيب عليهم العالم بحالهم وأنت على كل شيء عالم بحالهم تعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور .
وفقنا الله لما يحب ويرضى .