{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ} ،لأنّي عبدك ورسولك الَّذي أمرته بإبلاغ رسالتك لعبادك ليعبدوك وليوحدوك ،فلا يشركوا بك شيئاً ،وقد قلت لهم{أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّى وَرَبَّكُمْ} وشرحت لهم في جميع مراحل حياتي عندما كنت معهم أنّني مثلهم عبدٌ مربوبٌ لك لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلاَّ بك ،وأنّني لم أفعل ما فعلته من خوارق الإعجاز إلاَّ بإذنك وبقدرتك ،من دون أن يكون لي فيها شيءٌ ذاتيٌّ ينطلق من قدرة الذات على الإبداع ،وطلبت منهم أن يعبدوك ،لأنَّ ذلك هو سرّ الاعتراف بالربوبيّة .
وقد يخطر بالبال سؤال ،هل هذه الكلمة هي كل رسالة عيسى ؟وكيف يُمكن أن لا تكون هناك كلمة أخرى في الوقت الَّذي كان الإنجيل يُمثِّل حجماً كبيراً في مختلف جوانب الحياة من النصائح والمواعظ والتعاليم ؟والجواب عن ذلك: إنَّ هذه الكلمة تختصر كل تطلعات الرسالة وامتداداتها ،لأنَّ العبادة لله تتمثَّل في تحرير النفس من الخضوع لكل شيء غير الله ،سواء كان شخصاً ،أو جهةً ،أو صنماً ،وأن تخضع لله في كل شأن من شؤون حياتك ،فتطيعه في ما أمر به فتفعله ،وفي ما نهى عنه فتتركه ،وفي ما رسمه من وسائل وأهداف فتلتزم بها ،وفي ما أوحى به من عقائد ومفاهيم فتعتقد بها ..وهكذا تتّسع العبادة لكل قضايا الحياة وأوضاعها ،وسبلها ،ووسائلها ،وغاياتها ،فيُمثِّل قيامك بكل مسؤولياتك الفرديّة والاجتماعيّة ،المعنى الأعمق للعبادة ،وتكون الصَّلاة والصوم والحج ونحوها مظهراً من مظاهرها ،لا كلَّ شيء فيها ،وبذلك تكون كل آفاق الرسالة وتحركاتها لوناً من ألوان العبادة الّتي تُحوِّل الحياة كلّها إلى مسجد ،يتمثَّل فيها السجود لله في أكثر من شكل .
ونلاحظ في هذا المجال ،أنَّ عيسى( ع ) لم يقتصر في جوابه على نفي ما قالوه ،بنفي تبليغه لهم ،بل تعدى ذلك إلى ما أمرهم به ،ليكون نفيه حجَّة عليهم في ما قالوه ،كما يكون ما بلغه حجَّة عليهم لإثبات انحرافهم عن خط الله ،والَّذي التزم به من خلال الالتزام بالرسالة جملة وتفصيلاً .
ويتابع عيسى( ع ) الحديث عن عدم مسؤوليته عن هذا الكفر الَّذي يسيرون عليه ،{وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} فقد كان شهيداً عليهم ما دام معهم ،يراقب تحركاتهم وكلماتهم ،ويعرف الخطأ من الصواب في ذلك كلّه ،ويعرف المطيع والعاصي ،فيعظ هذا ،وينصح ذاك ،ويشجّع آخر ،ويؤدّي دور الشهادة العمليّة عليهم ،لأنَّ دور النَّبيّ ( صلى الله عليه وسلّم ) ليس دور الشاهد المتفرج .
وهكذا يبدو لنا الفرق بين شهادة النَّبيّ على الأمة وشهادة الأمة على نفسها وعلى غيرها ،وبين شهادة بقيّة الشهداء في الدعاوى والقضايا العامة .فإنَّ هؤلاء لا يُمثِّلون إلاَّ دور المتفرج الَّذي يُمارس ويسمع ،بينما يكون دور الأنبياء والأمة دور الشاهد الفاعل الَّذي يشاهد الانحراف ويتدخل فيه من أجل تغييره ،ويتحمّل مسؤوليته بقدر طاقته على ذلك كله ،ولذلك حصر الشهادة عليهم في حالة وجوده بينهم .أمَّا بعد ذلك ،فهو لا يعرف من أمرهم شيئاً ،كما لا يتحمّل فيهم أيّة مسؤوليّة ،ويبقى ذلك كله لله ،فهو الرقيب عليهم في كل ما قالوه وفي كل ما فعلوه ،وفي جميع الأحوال ،فإنَّ النَّبيّ لا يتحمّل المسؤوليّة إلاَّ من حيث الإبلاغ والإنذار ،فلا مسؤوليّة عليه في ما انحرفوا به من القول والعمل ،إذا لم يستجيبوا له ولم يطيعوه ،ولم يقدر على تغيير ما هم فيه .وليست الآية في مقام تحميله مسؤوليّة ذلك ،لأنَّ الله يعلم أنَّ الأنبياء غير مسؤولين عن انحراف أمتهم في حياتهم ،فكيف يتحملون المسؤوليّة بعد وفاتهم ؟بل كانت الآية واردةً في مقام إقامة الحجّة عليهم بهذا الأسلوب .
إسلام الأمر لله منتهى الروح الرسالية
وتأتي كلمة{فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} لتُثير الجدل فيها في أنَّها بمعنى الموت ،أو بمعنى بلوغ الحد في الحياة على أن يكون ذلك بمعنى التوفية أي بلوغ الشيء حدّه .وقد تحدثنا عن ذلك بعض الحديث في ما قدمناه من تفسير الآية الكريمة{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيّ} وذكرنا هناك أنَّ الوصول إلى نتيجةٍ حاسمةٍ في هذا الأمر ليس مشكلةً فكريّةً عقيديّةً أو عمليّةً ،بل نترك لله إجمال ما أجمله مما لم يكلفنا بعلمه .وتتصاعد الروح الرسولية في إسلام الأمر كله لله الَّذي بيده العفو وبيده العقاب{كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيء شَهِيدٌ} ،