حوار الله وعيسى ( ع ) يوم القيامة
وهذا أسلوبٌ من أساليب الحوار القرآني الَّذي يُراد من خلاله إعطاء الفكرة صفة القصة الّتي يدور حولها الحوار من أجل التأكيد على بعض الجوانب الحيّة فيها ،كوسيلةٍ من وسائل إثباتها بطريقةٍ حاسمةٍ أو نفيها كذلك .وقد جاءت هذه الآيات لتعالج ما حدث للنصارى الَّذين ينتسبون إلى عيسى( ع ) ،في اعتقادهم بألوهيّة السيِّد المسيح وعبادتهم له ولوالدته ،فتؤكد أنَّ عيسى( ع ) غريب عن الموضوع كلياً ،فليس له دخل في ذلك من قريب أو من بعيد ،بل كانت رسالته على النقيض من ذلك ،لأنَّها قامت على توحيد الله في العقيدة والعبادة ،فليس لأيّ بشر الحقّ في أن يعبد أحداً من دون الله مهما كانت قيمته ،وليس لأيّ إنسان أن يعتقد في نفسه العظمة بالمستوى الَّذي يتحوّل فيه إلى إله أو ما يشبه الإله ،فضلاً عن أن يرى في ذاته تجسيداً للإله ،أو يرى النَّاس فيه ذلك .وقد أدار الله الموضوع بطريقة الحوار بينه وبين عيسى( ع ) في يوم القيامة ،على الطريقة القرآنيّة الّتي تتحدث عن المستقبل بصيغة الماضي بالنظر إلى أنَّه محقّق الثبوت .فقد قال الله له وهو يستعرض له الانحرافات الّتي حدثت من بعده:{أَءَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ} إنَّ النَّاس تعبدك وتتقرب إليك ،وتقدسك وتتخذك إلهاً ،كما أنَّهم يعبدون أمك فيخشعون لها ويخضعون لتماثيلها ،كما يفعلون مع الله ،فكأنَّهم يتخذونها إلهاً من دون الله ،تماماً كما جاء في الآية الكريمة:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [ الجاثية: 23] فإنَّ اتخاذ الهوى إلهاً لا يعني إلاَّ اتباعه وطاعته ،وترك طاعة الله في ما أمر الله به أو نهى عنه ،فهل كان ذلك من خلال تعاليمك ؟وهل كنت ترضى بذلك ؟ولكنَّ عيسى( ع ) يقف ،من خلال الحوار ،وقفة الخاشع الخاضع لربِّه ،الرافض لهذا الفكر الَّذي لا يتناسب مع عظمة الله ،الّتي تفرض على النَّاس توحيده وتنزيهه عن كل شريك ،ليسبّح الله تدليلاً على أنَّه يعيش الشعور بالعظمة في أعلى مستوياتها:{قَالَ سُبْحَانَكَ} تعظيماً لك وتنزيهاً عن كل ما خالف مقامك ،{مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}
إنَّ الإنسان الَّذي يحترم نفسه هو الَّذي يقف في حديثه عنها عند حدودها الذاتيّة في ما تملكه من طاقات ،وفي ما تتصف به من صفات ،ولا يتعدى ذلك إلى الدرجات الّتي لم يبلغها ،أو المواقع الّتي لا يملكها ،كما يفعل الإنسان الجاهل الَّذي لا يعرف قدر نفسه ،أو الَّذي يقول عن نفسه ما ليس له بحق في ما يعرفه من حدود نفسه ،ولستُيا ربّفي هذا الموقع ،فإنّي عبدك ورسولك الَّذي يعرف كيف يعيش العبوديّة لك ،وكيف يحس بالانسحاق أمام ألوهيتك ،في كل ما لك من الحقّ ،وفي ما عليّ من الحق .وماذا بعد ذلك ؟لماذا أقف يا ربّ موقف الدفاع عن نفسي ؟إنَّه موقف الَّذي يحتاج في إثبات براءته إلى بيّنة ،وليس موقفي هو هذا ،لأنّني أقف أمامك أنت الله الَّذي{إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} ،فأنت{تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} ،وتحيط بكل شيء يفكر به الإنسان أو يقوله أو يعمله ،{وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} ،لأنَّ علمي مستمدٌّ من علمك ،فلا يحيط بشيء إلاَّ ما ألهمتني إياه ،فكيف لي الإحاطة بما في نفسك ،{إِنَّكَ أَنتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ} ف{إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} ،وأنت تعلم أنّني لم أقل لهم شيئاً من ذلك ،لأنَّ ذلك هو الباطل الَّذي لا يحق لي أن أفكر به ،فكيف يحقّ لي أن أقوله !