{ وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوم 116 ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد 117 إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم 118 قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم 119 لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير120}
اتصال هذه الآيات بما قبلها جلي ظاهر ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقوله تعالى:{ وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال} معطوف على قوله تعالى:{ إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أذكر نعمتي عليك} الخ والمعنى:اذكر أيها الرسول للناس يوم يجمع الله الرسل فيسألهم جميعا عما أجابتهم به أممهم إذ يقول لعيسى اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك الخ وإذ يقول له بعد ذلك:أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ؟ أي يسأله:أقالوا هذا القول بأمر منك أم هم افتروه وابتدعوه من عند أنفسهم ؟
ومعنى قوله:«من دون الله » كائنين من دون الله – أو حال كونكم متجاوزين بذلك توحيد الله وإفراده بالعبادة .فهذا التعبير يصدق باتخاذ إله أو أكثر مع الله تعالى وهو الشرك ، فإن عبادة الشريك المتخذ غير عبادة الله خالق السموات والأرض ، سواء اعتقد المشرك أن هذا المتخذ ينفع ويضر بالاستقلال – وهو نادر – أو اعتقد أنه ينفع ويضر بإقدار الله إياه وتفويضه بعض الأمر إليه فيما وراء الأسباب ، أو بالوساطة عند الله أي بحمله تعالى بما له التأثير والكرامة على النفع والضر ، وهو الأكثر الذي كان عليه مشركو العرب عند البعثة كما حكى الله عنهم في قوله:{ ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [ يونس:18] وقوله:{ والذين اتخذوا من دونه أولياء:ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [ الزمر:3] الخ – وقلما يوجد في البشر المتدينين من يتخذ إلها غير الله متجاوزا بعبادته الإيمان بالله الذي هو خالق الكون ومدبره ، فإن الإيمان الفطري المغروس في غرائز البشر هو أن تدبير الكون كله صادر عن قوة غيبية لا يدرك أحد كنهها ، فالموحدون أتباع الرسل يتوجهون بعباداتهم القولية والفعلية إلى صاحب هذه القوة الغيبية وحده ، معتقدين أنه هو الفاعل المطلق وحده ، وأن كل فعل ينسب إلى غيره فإنما ينسب إليه كذبا أو على أنه فعله بإقدار الله إياه عليه وتسخيره له بمقتضى سننه في خلقه ، التي قام بها نظام الأسباب والمسببات بمشيئته وحكمته ، والمشركون يتوجهون تارة إليه وتارة إلى بعض ما يستكبرون خصائصه من خلقه ، كالشمس والنجم ، وبعض مواليد الأرض ، وتارة يتوجهون إليهما معا فيجعلون الثاني وسيلة إلى الأول .
ومن يشعر بسلطة غيبية تتجلى له في بعض الخلق فهو يخشى ضرها ويرجو نفعها ، ولا يمتد نظر عقله ولا شعور قلبه إلى سلطة فوقها ، ولا يتفكر في خلق هذه الأكوان ، فهو أقرب إلى الحيوان منه إلى الإنسان ، فلا يعد من العقلاء المستعدين لفهم الشرائع وحقائق الدين ، على أنه يصدق عليه أنه اتخذ إلها من دون الله ، ولكن هذا النوع من الاتخاذ غير مراد هنا لأن الذين شرعوا للناس عبادة المسيح وأمه كانوا من شعوب مرتقية حتى في وثنيتها ، ولها فلسفة دقيقة فيها ، وهم اليونان والرومان ، وبعض اليهود المطلعين على تلك الفلسفة جد الاطلاع .وجملة القول أن اتخاذ إله من دون الله يراد به عبادة غيره سواء كانت خالصة لغيره أو شركة بينه وبين غيره ، ولو بدعاء غيره والتوجه إليه ليكون واسطة عنده{ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء} [ البينة:5] .
أما اتخاذهم المسيح إلها فقد تقدم بيانه في مواضع من تفسير هذه السورة ، وأما أمه فعبادتها كانت متفقا عليها في الكنائس الشرقية والغربية بعد قسطنطين ، ثم أنكرت عبادتها فرقة البروتستانت التي حدثت بعد الإسلام بعدة قرون .
إن هذه العبادة التي توجهها النصارى إلى مريم والدة المسيح ( عليهما السلام ) منها ما هو صلاة ذات دعاء وثناء ، واستغاثة واستشفاع ، ومنها صيام ينسب إليها ، ويسمى باسمها ، وكل ذلك يقرن بالخضوع والخشوع لذكرها ولصورها وتماثيلها ، واعتقاد السلطة الغيبية لها ، التي يمكنها بها في اعتقادهم أن تنفع وتضر في الدنيا والآخرة بنفسها أو بواسطة ابنها ، وقد صرحوا بوجوب العبادة لها ، ولكن لا نعرف عن فرقة من فرقهم إطلاق كلمة ( إله ) عليها ، بل يسمونها ( والدة الإله ) ويصرح بعض فرقهم بأن ذلك حقيقة لا مجاز ، والقرآن يقول هنا إنهم اتخذوها وابنها إلهين ، والاتخاذ غير التسمية ، فهو يصدق بالعبادة وهي واقعة قطعا ، وبين في آية أخرى أنهم قالوا:{ إن الله هو المسيح عيسى ابن مريم} وذلك معنى آخر وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى في أهل الكتاب{ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} أنهم اتبعوهم فيما يحلون ويحرمون لا أنهم سموهم أربابا .
وأول نص صريح رأيته في عبادة النصارى لمريم عبادة حقيقية ما في كتاب ( السواعي ) من كتب الروم الأرثوذكس ، وقد اطلعت على هذا الكتاب في دير يسمى ( دير البلمند ) وأنا في أول العهد بمعاهد التعليم .وطوائف الكاثوليك يصرحون بذلك ويفاخرون به .وقد زين الجزويت في بيروت العدد التاسع من السنة السابعة لمجلتهم ( المشرق ) بصورتها وبالنقوش الملونة ، إذ جعلوه تذكارا لمرور خمسين سنة على إعلان البابا بيوس التاسع أن مريم البتول «حبل بها بلا دنس الخطية » وأثبتوا في هذا العدد عبادة الكنائس الشرقية لمريم كالكنائس الغربية ، ومنه قول «الآب لويس شيخو » في مقالة له فيه عن الكنائس الشرقية «إن تعبد الكنيسة الأرمنية للبتول الطاهرة أم الله لأمر مشهور » وقوله:«قد امتازت الكنيسة القبطية بعبادتها للبتول المغبوطة أم الله »{[873]} .
من يسمع أو يقرأ سؤال الله تعالى لعيسى عن عبادة الله له ولأمه تتوق نفسه إلى معرفة جوابه عليه السلام ، وتتوجه إلى السؤال والاستفهام ، فلذلك جاء كأمثاله بأسلوب الاستئناف{ قال سبحانك} بدأ عليه السلام جوابه بتنزيهه إلهه وربه عز وجل عن أن يكون معه إله ، خلافا لمن قال إن التنزيه هنا إنما هو عن ذلك القول المسؤول عنه ، فذهب إلى أن معنى الجملة:أنزهك تنزيها لائقا من أن أقول ذلك ، أو من أن يقال ذلك في حقك ، وظن أن هذا هو الذي يقتضيه سياق النظم ، وستعلم ما فيه من الضعف ، وأن ما اخترناه هو الحق .
وكلمة «سبحان » قيل إنها علم للتسبيح ، وقيل إنها مصدر للتسبيح الثلاثي كالغفران ، واستعملت مضافة باطراد إلا ما شذ في الشعر ، والتسبيح تنزيه الله تعالى عما لا يليق به ، وهو من مادة السبح والسباحة وهي الذهاب السريع البعيد في البحر أو البر ، ومن الثاني سبح الخيل وقالوا فرس سبوح ( كصبور ) ومثله التقديس من القدس وهو الذهاب البعيد في الأرض ، ثم استعمل التسبيح والتقديس في التنزيه .قالوا:إن التسبيح يدل على الإبعاد ولكن عن كل شر وسوء ، ولذا خص بتنزيه الله تعالى ، ويقابله اللعن فهو يدل على الإبعاد ولكن عن كل خير ، وكذلك لفظ الإبعاد والبعد غلب استعماله في مقام الشر ؛{ ألا بعدا لعاد قوم هود} [ هود:60]{ أولئك في ضلال بعيد} [ إبراهيم:14] .
قال الراغب:والتسبيح تنزيه الله تعالى ، وأصله المر السريع في عبادة الله تعالى ، وجعل ذلك في فعل الخير ، كما جعل الإبعاد في الشر ، فقيل أبعده الله ، وجعل التسبيح عاما في العبادات قولا كان أو فعلا أو نية .اه ثم أورد الشواهد من الآيات على إطلاق التسبيح بمعنى الصلاة وبمعنى الدلالة على التنزيه كتسبيح السموات والأرض وما فيهما .والمراد بتسبيح النية العلم والاعتقاد .وفي كلمة «سبحانك » – ومثلها سبحان الله – مبالغة في هذا التنزيه أي مبالغة ، إذ تدل على المبالغة بمادتها الدالة بمأخذها الاشتقاقي على البعد والايغال والسبح الطويل في هذا البحر المديد الطويل ، وبصيغتها الأصلية وهي التسبيح – التي هي مسمى اسم المصدر ( سبحان ) ومدلوله – فإن التفعيل يدل على التكثير ، ثم بالعدول عن هذه الصيغة التي هي مصدر إلى الاسم الذي جعل علما عليها – على قول ابن جني – فإن اسم المصدر يدل على تأكيد معنى المصدر وثباته وحقيقته ، لأن مدلوله هو لفظ المصدر ، فانتقال الذهن منه إلى المصدر ومن المصدر إلى المعنى بمنزلة تكرار لفظ المصدر ، بل هو أبلغ منه وأدل على إرادة الحقيقة دون التجوز ، ولم أر أحدا سبقني إلى بيان هذا على كونه في غاية الظهور عند من تأمله [ ومن شدة الظهور الخفاء] .
قلنا إن عيسى عليه السلام بدأ جوابه بتنزيه الله عز وجل عن أن يكون معه إله ، فأثبت بهذا أنه على علم يقيني ضروري بأن الله تعالى منزه في ذاته وصفاته عن أن يشارك في ألوهيته ، وانتقل من هذا إلى تبرئة نفسه العالمة بالحق ، عن قول ما ليس له بحق ، فقال:{ ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} أي ليس من شأني ولا مما يصح وقوعه مني أن أقول قولا ليس لي أدنى حق أن أقوله ، لأنك أيدتني بالعصمة من مثل هذا الباطل .ولا يخفى أن هذا أبلغ في البراءة من نفي ذلك القول وإنكاره إنكارا مجردا ، لأن نفي الشأن يستلزم نفي الفعل نفيا مؤيدا بالدليل ، فهو بتنزيه الله تعالى أولا أثبت أن ذلك القول الذي سئل عنه – تمهيدا لإقامة الحجة على من اتخذوه وأمه إلهين – قول باطل ليس فيه شائبة من الحق ، ثم قفى على ذلك بأنه ليس من شأنه ولا مما يقع من مثله أن يقول ما ليس له بحق ، فنتيجة المقدمتين الثابتتين أنه لم يقل ذلك القول .
ثم أكد هذه النتيجة بحجة أخرى قاطعة على سبيل الترقي من البرهان الأدنى الراجع إلى نفسه وهو عصمته عليه السلام ، إلى البرهان الأعلى الراجع إلى ربه العلام ، فقال:{ إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك} أي إن كان ذلك القول قد وقع مني فرضا فقد علمته ، لأن علمك محيط بكل شيء ، تعلم ما أسره وأخفيه في نفسي ، فكيف لا تعلم ما أظهرته ودعوت إليه فعلمه مني غيري ؟ ولا أعلم ما تخفيه من علومك الذاتية التي لا تهديني إليها بنظر واستدلال كسبي ، إلا ما تظهرني عليه بوحي وهبي .قيل إن إضافة كلمة نفس إلى الله تعالى من باب المشاكلة ، على أنها وردت بغير مقابل يسوغ ذلك كقوله تعالى:{ كتب ربكم على نفسه الرحمة} [ الأنعام:54] –{ ويحذركم الله نفسه} [ آل عمران:28] وقيل إنها بمعنى الذات ، والمهم فهم المعنى من هذا الإطلاق .وتنزيه الله تعالى عن مشابهة نفسه لأنفس خلقه معروف بالنقل والعقل ، فاستشكال إطلاق الوحي للأسماء مع هذا ضرب من الجهل{ إنك أنت علام الغيوب} أي إنك أنت المحيط بالعلوم الغيبية وحدك لأن علمك المحيط بكل ما كان وما يكون وما هو كائن علم ذاتي لا منتزع من صور المعلومات ، ولا مستفاد بتلقين ولا بنظر واستدلال ، وإنما علم غيرك منك لا من ذاته ، فإما أن يناله بما آتيته من المشاعر أو العقل ، وإما أن يتلقاه مما تهبه من الإلهام والوحي ، أي وقد علمت أني لم أقل ذلك القول .وشرط «أن » لا يقتضي الوقوع .