ثم إنه بعد تنزيه ربه ، وتبرئة نفسه ، وإقامة البرهانين على براءته ، بين حقيقة ما قاله لقومه ، لأن الشهادة عليهم لا تكون تامة كاملة ، بحيث تظهر لهم هنالك حجة الله البالغة ، إلا بإثبات ما كان يجب أن يكونوا عليه من أمر الدين والتوحيد بعد نفي ضده ، فكان من شأن السامع لما سبق من النفي أن يسأل عما قاله في موضوعه ، ولذلك قال:{ ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم} فهذا قول يتضمن إنكار أن يكون أمرهم باتخاذه وأمه إلهين وإثبات ضده ، أي ما قلت لهم في شأن الإيمان وأصل الدين وأساسه الذي يبنى عليه غيره ولا يعتد بغيره دونه ، إلا ما أمرتني بالتزامه اعتقادا وتبليغا وهو الأمر بعبادتك وحدك ، مع التصريح بأنك ربي وربهم ، وأنني عبد من عبادك مثلهم ، أي إلا أنك خصصتني بالرسالة إليهم .فقوله:«أن اعبدوا الله » تفسير للمأمور به ، وإنما قال:ما قلت لهم إلا ما أمرتني به ، ولم يقل ما أمرتهم إلا بما أمرتني به ، أدبا مع الله تعالى ومراعاة لما ورد في السؤال «أأنت قلت » .
{ وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم} أي وكنت قائما عليهم أراقبهم وأشهد على ما يقولون ويفعلون فأقر الحق وأنكر الباطل مدة دوام وجودي بينهم{ فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد} أي فلما توفيتني إليك كنت أنت المراقب لهم وحدك إذ انتهت مدة رسالتي فيهم ومراقبتي لهم وشهادتي عليهم ، فلا أشهد على ما وقع منهم وأنا لست فيهم ، وأنت شهيد عليهم وشهيد بيني وبينهم ، بما أنك شهيد على كل شيء في ملكك ، وأنت أكبر شهادة ممن تجعلهم شهداء من خلقك ،{ قل أي شيء أكبر شهادة ؟ قل الله شهيد بيني وبينكم} [ الأنعام:19] .
وقد مر في هذه السورة ما يزكي تبرئة عيسى عليه السلام لنفسه ويؤيد قوله هنا ، وذلك قوله تعالى:{ لقد كفر الذين قالوا:إن الله هو المسيح ابن مريم – وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم ، إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار} [ المائدة:75] فجملة «وقال المسيح يا بني إسرائيل » الخ حالية أي قالوا قولهم ذلك والحال أن المسيح أمرهم بضده ، وهو أن يعبدوا الله وحده .
وفي أناجيلهم من بقايا التوحيد الذي أمرهم به ما رواه يوحنا في إنجيله عنه وهو قوله عليه السلام:«وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك .ويسوع المسيح الذي أرسلته » وفي إنجيل برنابا من تجريد التوحيد والاستدلال عليه بالآيات البينات ما هو جدير بأن يكون وحيا صحيحا من الله تعالى إلى رسوله عيسى عليه الصلاة والسلام .