وبعد تنزيه ربه ،وتبرئة نفسه مما نُسب إليه ،بيّن المسؤول حقيقةَ ما قاله لقومه وأن ذلك لم يتعدّ تبليغ الرسالة التي كُلِّف بها ،وأنه أعلن عبوديته وعبوديتهم لله ،ودعاهم إلى عبادته .
ما قلتُ لهم إلا ما أمرتَني بتبليغه لهم .قلتُ لهم: اعبدوا الله وحده مالك َ أمري وأمركم ،وأنك ربي وربهم ،وأنني عبد من عبادك مثلهم .
{وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} كنت قائما عليهم أراقبُهم وأشهد على ما يقولون ويفعلون مدة وجودي بينهم .
{فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}
فلمّا انتهى أجل إقامتي الذي قدّرتَه لي بينهم ،وقبضتني إليك ،ظللتَ أنت وحدك المطلع عليهم ،لأني إما شهِدت من أعمالهم ما عملوه وأنا بين أظهُرهم ،فكل شيء غيّروه بعدي لا عِلم لي به ،وأنت تشهَد
على ذلك كله .
وظاهر النصوص القرآنية يفيد أن الله تعالى قد توفّى عيسى ابنَ مريم ثم رفعه إليه ،فيما تفيد بعض الآثار أنّه حيّ عند الله .وليس هناك أي تعارض ،فإن الله تعالى قد توفّاه من حياة الأرض ،لكنّه حيٌّ عنده ،مثل بقيّة الشهداء ..فهم يموتون في الأرض وهم عند الله أحياء .أما صورة حياتهم عند ربهم فشيء لا نعرف كيفَه .
وقد جاء في إنجيل يوحنا نص صريح بأن المسيح رسول: «وهذه هِي الحياةُ الأبدية ،أن يعرفوك أنت الإلَه الحقيقي وحدك ،ويسوع المسيح الذي أرسلته » .فالتبديل في العقيدة والتغيير ،إنما حدث بعد غياب المسيح .
وقد تكلم المفسّرون والعلماء في موضوع الرفع الذي نطرقه وأطالوا في ذلك ،وقد بحث أستاذنا المرحوم الشيخ محمود شلتوت هذا الموضوع مستفيضا في فتاواه ،وخلاصة ما قال: «والمعنى أن الله توفى عيسى ورفعه إليه وطهره من الذين كفروا .
وقد فسّر الألوسي قوله تعالى{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} بمعنى: إني مُسْتوفٍ أجَلَك ومميتُك حتفَ أنفك لا أسلِّط عليك من يقتُلُك ،وهو كنايةٌ عن عصمته من الأعداء وما كانوا بصدَدِه من الفتك به عليه السلام .
وظاهرٌ أن الرفع- الذي يكون بعد استيفاء الأجَل هو رفْع المكانةٍ لا رفع الجسد ،خصوصاً وقد جاء بجانبه قولُه:{وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ} مما يدل على أن الأمر أمرُ تشريفٍ وتكريم .
وقد جاء الرفع في القرآن كثير بهذا المعنى ،{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ} ،{نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ} ،{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} ،{وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} ،{يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ} .إلى أن يقول{وبعد} ،فما عيسى إلا رسولٌ قد خلَتْ من قبلِه الرسل ،ناصَبَه قومُه العداء ،وظهرت على وجوههم بوادرُ الشر بالنسبة إليه ،فالتجأ إلى الله ،فأنقذه الله بعزته وحكمته وخيّب مكر أعدائه .هذا هو ما تضمنته الآيات{فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر قَالَ مَنْ أنصاري إِلَى الله} إلى آخرها ،بين الله فيه قوة مَكره بالنسبة إلى مكرهم ،وأن مكرهم في اغتيال عيسى قد ضاع إذ قال:{يا عيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ} ،فهو يبشِّرُه بإنجائه من مكرِهم وردِّ كيدهم في نحورهم ،وأنه سَيَستوفي أجَله حتى يموت من غير قتل ولا صلب ،ثم يرفعه الله إليه .الخ .