{ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم( 33 ) إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم( 34 )} .
/م33
{ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} هذا النص الكريم يبين جريمة كبيرة هي جماع لعدة جرائم ، وهي جريمة الذين يحاربون النظام القائم ويخرجون جماعات ذات قوة وشكيمة ويرتكبون جرائم القتل والنهب والسرقة ، لا في خفية بل في إعلان ، معتصمين بقوة مانعة لهم ، وقد اتفقوا جميعا على ارتكاب القتل والسرقة وتهديد الآمنين .
وجريمة هؤلاء أقوى من جريمة القتل المجرد ، لأن جريمة القتل المجرد ليست في ذاتها تهديدا للأمن ، وإن كان إهمال عقوبتها يؤدي إلى تهديد الأمن ، أما هذه فإنها تهديد مباشر للأمن ، فالأولى اعتداء ابتداء على الأفراد ، أما هذه فهي اعتداء ابتداء على الجماعة لأنها تترصد السابلة في الطريق ، فتقطع عليهم السبيل .
وقبل أن نخوض في بيان هذه الجرائم وكلام الفقهاء وأهل الخبرة في معناها ونذكر عقوبتها في ظل القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ، نتكلم في معاني الألفاظ ، ونتكلم على ثلاث عبارات:
أولها:في قوله تعالى:{ إنما جزاء الذين} فقد كان التعبير ب "إنما"، وهي من أوائل أدوات القصر والتخصيص وذكر هذه الكلمات في مقام بيان العقاب الذي سارع بيانه سبحانه هو لتأكيد العقاب ، ولبيان أنه عقاب لا هوادة فيه ، وأنه لا يحل محل ذلك العقاب غيره من دية أو مال ، ولا يدخله عفو ، لأنه حد من حدود الله تعالى ، بل هو أعظم الحدود ، لأنه جريمته أشد الجرائم خطرا ، إذ هي مقوضة لبنيان الجماعة ، وهادمة للأمن وكان معنى التخصيص واضحا إذ هي عقوبة ليس لها بديل من سواها أي لا جزاء للجريمة ولا كفاء لها إلا ذلك العقاب .
العبارة الثانية:هي قوله تعالى:{ يحاربون الله ورسوله} ومعناها:يحاربون شرع الله ورسوله بالانتقاض على أحكامه ومقاومة الحكام الذين يقومون على حفظ الأمن ويقاومون الجرائم ويكون المؤدى أن الله سبحانه وتعالى ليعتبر كل من يهدد أمن الجماعة ، ويعتدي عليها بالقتل والسرقة والنهب ويمنع السابلة محاربا لله ولرسوله ، لأنه يشيع الجرائم ، ويناصب أحكام الشرع ومن يقومون على تنفيذه وأنهم يقومون بكل الجرائم مجتمعين متفقين فيكون لهم صولة تعطيهم وصف المحاربين ، وكان التعبير بمحاربة الله ورسوله من نوع المجاز ، لأن الذي يقوم بالسلب والنهب وقتل السابلة يؤدي عمله إلى نقض النظام والاطمئنان ، فهو إن لم يقصد بفعله المحاربة هو يؤدي إليها ، أو يقال إن ذات الفعل محاربة ، فلا يكون مجازا لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من حارب مسلما على ماله فهو معاد لأولياء الله تعالى محارب لله".
والعبارة الثالثة{ ويسعون في الأرض فسادا} . السعي:هو الحركة السريعة المستمرة ، وقوله تعالى:{ فسادا} هو من قبيل التميز ، أي أن سعيهم لأجل الفساد لا لأجل الخير وفي ذلك الكلام إبهام بعده بيان ، فيكون فيه تأكيد في البيان ، فذكر السعي مبهما ثم بين بأنه من نوع الفساد لا من نوع الخير ، وإن أولئك الذين يحاربون النظام وعقوبتهم التي ذكرها الله سبحانه وتعالى بقوله تعالت كلماته:{ أن يقتلوا أو يصلبوا} . إلى آخر الآية الكريمة هم الذين يعبر عنهم في الفقه بقطاع الطرق ، ويسمى فعلهم قطع الطريق ويسمى الحرابة ، ويعنون له بذلك في الفقه الإسلامي والعقوبة المذكورة في النص الكريم خاصة بهم .
وقد التبس على بعض من لا دراية له بأحكام العقوبات في الفقه الإسلامي هؤلاء بالبغاة والتبس على بعض آخر أمر هؤلاء بأمر الخوارج ، والواقع أن الذين ينقضون النظام أقسام ثلاثة متمايزة متغايرة ، فالبغاة:هم الخارجون ذوو القوة والمنعة الذين يخرجون على الإمام العادل بتأويل ، أي بوجه مسوغ لهم الخروج ، كأولئك البغاة الذين خرجوا على الإمام علي كرم الله وجهه ، والذين وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لعمار بن ياسر رضي الله عنه:"تقتلك الفئة الباغية"{[905]} وهذه تقاتل حتى تسلم ، كما قال تعالى:{. . .فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ( 9 )} ( الحجرات ) .
وهؤلاء البغاة لا يستبيحون من الأموال والدماء إلا معسكر السلطان ، إذ هم لا يحاربون غيره ويحسبون أنهم يحسنون صنعا .
والخوارج:هم الذين خرجوا على الإمام العادل بتأويل ولكنهم ، لا يستبيحون معسكر السلطان فقط ، بل يعتبرون مخالفيهم في الرأي كافرين بل يعتبرونهم مشركين ، وهؤلاء يعاملون معاملة البغاة ، يقاتلون حتى يفيئوا فإذا كانت الفيئة فالإصلاح والقسط ، ورد القضب إلى أجفانها .
وقطاع الطريق ، أو أهل الحرابة:وهؤلاء مجرمون يخرجون لارتكاب جرائم السلب والنهب والقتل ، وسائر الموبقات بلا تأويل يتأولونه ، ولا تفسير يفسرون بل يرتكبون ما يرتكبون إثما وعدوانا مقصودا ولا يقصدون إلا العدوان ، كالعصابات الإجرامية التي نراها معتصمة في بعض الجبال أو الكهوف وكالعصابات التي تزعج الآمنين بقوة إرهابية .
فهي إذن أقسام متمايزة متغايرة ، وما لأحد من بعد أن يخلط ، فيجعل حكم واحدة لأخرى ، ولا وصف واحدة لأخرى .
إن النص الكريم ينطبق كل الانطباق على الذين يخرجون بقوة ، ويقطعون على السابلة الطريق وتكون لديهم القدرة على المنع ، ولا يكون للمعتدى عليه من يحميه من خطرهم ما داموا قد تعرضوا في طريقه ، فهم حينئذ يعدون قطاع طريق ، ويعد عملهم حرابة ولكن اختلف الفقهاء من بعد ذلك في أمور أربعة من حيث انطباق النص القرآني . . . هذه الأمور الأربعة ، هي:الأول المكان الذي يعدون باتخاذه مقاما لهم قطاع طريق ، والثاني في طريقة إجرامهم ، والثالث في عددهم وقوتهم ، والرابع في الجرائم التي اتفقوا على ارتكابها أو اعتزموا ارتكابها أهي القتل والسلب فقط أم تشمل كل المعاصي كالزنا وشرب الخمر وتناول ما يشبهها وغير ذلك .
أولا:المكان الذي يتخذه قطاع الطريق فإنه يجب أن يكون في داخل الدولة الإسلامية لأنهم من رعاياها ، ولأن قطع الطريق على جماعة المسلمين من غير المسلمين هو الحرب الحقيقية وليس هو الحرابة التي تتلاقى معها في الاشتقاق ، وتختلف عنها في حقيقتها فإن الحرب قد اختصت بمدافعة الأعداء من خارجها ، أما هذه فقد اختصت بمحاربة الفساد في داخلها ، والحرابة بهذا المعنى:الخروج على المارة لأخذ المال على سبيل المغالبة ولو بالقتل على وجه يمنع المرور ويقطع الطريق سواء أكان القطع بسلاح أم بغيره مثل العصا والحجر والخشب ونحوها ، لأن قطع الطريق يكون بكل ذلك .
واختلف الفقهاء في المكان الذي يتحقق به هذا أيمكن أن يكون في داخل المدينة أو القرية أم لا يتصور إلا في خارج الأمصار كالصحاري والجبال ، والبراري من المزارع الشاسعة لقد قال أبو حنيفة:إن قطع الطريق لا يتصور في داخل المصر ، إذ يمكن الإغاثة عند الاستغاثة ويد السلطان مبسوطة في داخل الأمصار والقرى .
ومالك والظاهرية لا يشترطون لقطع الطريق مكانا معينا ، فحيث تتحقق إخافة المارة فهي حرابة لا فرق بين أن يكون ذلك في الفيافي والقفار ، أو في القرى والأمصار ، فحيث لا يأمن السابلة الطريق ، ولا يجدون من يسعفهم بدفع الشر عنهم فإن الحرابة تتحقق .
وهناك رأي ثالث ، وهو أن الأمصار والقرى تصلح مكانا لقطاع الطريق ليلا ، ولا يصلح نهارا إلا الصحاري والحق الذي نراه متفقا مع مرمى النص الكريم وغايته أنه حيث تحقق الوصف وهو محاربة الله ورسوله بمحاربة الآمنين وحيث كانت القوة وحيث كان سلطان الشر ، فإن الحرابة تتحقق وأننا نراها عيانا بيانا في مدن أمريكا وأوربا فالعصابات المخربة التي تحارب الأمن هنالك ، وتغير على الآمنين تتخذ أوكارها في وسط الأمصار ، وإن خفيت عن الأنظار .
وننتقل بعد ذلك إلى الأمر الثاني:وهو عددهم ونوعهم ، وإنا نقول:إن الذي عليه كثرة الفقهاء أن العبرة في الأمر هو في قوة الإخافة لا في مقدار عدد المنفذين ، ولا في نوعهم أهم ذكور أم إناث ، فلو أن واحدا استقر في كهف ، ومعه سلاح مدمر وكل من يمر من الضعفاء ، أو من لا حول لهم ولا سلاح استلب ماله أو نفسه فإنه يعد قاطع طريق ، ولو أن جمعا فيهم ذكور وإناث تعاونوا على الإثم والعدوان وقطعوا الطريق على الآمنين وقاموا بالاستلاب غير مراعين حرمة مال ولا عصمة دم ، فإنهم قطاع طريق محاربون .
ثالثا:طريقة الإجرام أتكون بالمجاهرة والعصيان أم تكون ولو بالاختفاء ، قال جمهور الفقهاء:إنه لا بد من المجاهرة بالعصيان ، والظهور علنا حتى يتحقق معنى الحرابة وحتى يتحقق معنى التسليم وقال مالك:إنه تصح المحاربة بالاختفاء كالاتفاق على القتل غيلة ، والاستيلاء على الأموال بالهجوم على مكامنها خفية كالعصابات التي نسمع عنها ويراها شبابنا على شاشة الخيالة ( السينما ) ، والإذاعة المرئية ( التليفزيون ) ، وقد حرر القرطبي في تفسيره رأي الإمام مالك ، فقال:"والذي نختاره أن الحرابة عامة في المصر والقفر ، وإن كان بعضها أفحش من بعض ، ولكن اسم الحرابة يتناولها ومعناها موجود فيها ، ولو خرج بعصا في المصر يقتل بالسيف ، ويؤخذ فيه بأشد ذلك ، لا بأيسره ، فإنه سلب غيلة ، وقتل الغيلة أقبح من قتل المجاهرة ، ولذلك دخل العفو في فعل المجاهرة ، ولم يدخل في قتل الغيلة".
وإن الذي نميل إليه هو مذهب مالك بلا ريب ، لأن معنى المحاربة وهو إزعاج الآمنين ثابت في الاختفاء بل هو أمكن كما هو ثابت في المجاهرة بل أشد وأحكم .
رابعا:بالنسبة لجرائم المحاربة أهي مقصورة على الاعتداء على الأموال والأنفس ؟ قال جمهور الفقهاء ذلك ، وقال مالك رضي الله عنه ، كل اتفاق على ارتكاب المعاصي يعد من قبيل الحرابة ، فالاتفاق على الزنا أو فتح بيوت له يعد من الحرابة ، ويستحق عقابها ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
وقبل أن نترك الكلام في الجريمة لابد من الإشارة إلى أمرين:أولهما:أنه لا بد في اعتبار هذا الفعل جريمة أن يكون القائمون به مكلفين تكليفا شرعيا بأن يكونوا بالغين عقلاء ، لأن الفعل لا يوصف بأنه جريمة أو معصية إلا إذا كان الفاعل مكلفا تكليفا شرعيا فإذا قام بالعمل صغار لا يعدون قطاع الطريق ، وإذا كانوا مميزين ، فإنهم يؤدبون أو يعزرون على أن يكون تعزيزهم تأديبا ، ولا يكون عقابا على ما هو مقرر في باب التعزير ، وإذا كانوا مجانين ، فإنهم يحجزون في المصاح أو نحوهما ، ولا يعزرون لأن عقابهم يكون تعذيبا ، إذ لا تبعة يتحملونها ، ولا يصلحون للتأديب لفقد عقولهم .
ثانيهما:أيعدون محاربين ، ولو لم يرتكبوا جريمة من جرائم قطع الطريق ، فلم يسرقوا ولم يقتلوا ولكن اتخذوا مكانا قصيا لكي يرتكبوا الجرائم متفقين على الفعل وقصدوا الفعل ولم يفعلوا إما لأنهم لما يبدأوا ، وإما لأن الأحوال لم تواتهم .
وبذلك يكون مجرد الاتفاق والأهبة للتنفيذ يعد جريمة في ذاته ؟ الظاهر من أقوال الفقهاء ذلك ، وسيتبين وبذلك يكون الاتفاق الجنائي في الشريعة له مكانه من العقاب .
والآن نتصدى لبيان العقاب الذي ذكره الله سبحانه وتعالى ، فقد قال سبحانه:
{ أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض} هذه عقوبات أربع قد ذكرت كلها معطوفة بأو التي تفيد التخيير في الجملة ، ولنتكلم في كل واحد منها بتفسير معناه اللغوي:التقتيل هو القتل ، ولكنه ذكر بصيغة التضعيف ، وهي تدل على الشدة في القتل ، وذلك بعدم التجاوز عن الذين ارتكبوا ما يوجبه ، وتفيد التكرار ، أي أنه يقتل من يرتكبونها ، مهما يكن عددهم ، فمن استحق القتل قتل ولو كانوا مائة قد قتلوا واحدا ، ولأن التضعيف يفيد الاستمرار في التقتيل ما داموا قد استمروا في الجريمة ، فكلما كان منهم قتلوا ، ولإثبات أنه لا يقتل المقتول فقط ، بل يقتل هو ومن يعاونه ومن اتفق معه على جريمة من غير تفرقة بين مباشر ومحرض وراض قد اتفق معهم على جريمة الخروج ، و"التصليب"الصلب على مكان مرتفع يرى بعد القتل ، وصيغة التضعيف تفيد التشديد في العقوبة وإثبات أنه لا هوادة فيها ، ولا مناص منها ، وتكرارها واستمرارها ويصلب الشخص ثلاثة أيام عبرة وردعا ، وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف معناه أن لا تكون اليد والرجل المقطوعتان من جانب واحد ، بل تكونان من جانبين مختلفين ، فإذا قطعت اليد اليمنى تقطع الرجل اليسرى ، فمعنى من خلاف أي من جانب خلاف الجانب الآخر ومعنى قوله تعالى:{ أو ينفوا من الأرض} . قال بعض الفقهاء:المراد نفيهم من الأرض التي اتفقوا فيها على الإجرام إلى أرض أخرى ، ليتفرقوا ولا يجتمعوا على ذلك الشر الذي ارتكبوه أو هموا بارتكابه ، وفسر الإمام أبو حنيفة النفي بالحبس ، لأن فيه إبعادا وتفريقا وهو أمنع لتجمعهم ، وأوغل في تفرقهم .
ذلك هو عقاب الدنيا أما عقاب الآخرة فهو العذاب العظيم ولذلك قال تعالى:{ ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} .
أي أن ذلك العقاب الرادع الزاجر فيه كسر شوكتهم ، وإذلالهم وقهرهم ، وهو بذلك خزي لهم ، إذ إنه كشف جريمتهم وأذلهم وأخزاهم وجعلهم عبرة لغيرهم ، وأي خزي أشد من أن يروا مقطوعين من خلاف أو يراهم الناس مصلوبين أو يحبسوا أو يبعدوا في أقاصي الأرض فهو خزي نالهم ، وفيه عبرة لغيرهم .
هذا هو عقاب الدنيا أما عقاب الآخرة فهو عذاب عظيم شديد عظيم في شدته جزاء ما اقترفوا وإن ذلك العقاب ثابت لهم ما استمروا على غيهم فإن تابوا فهي تجب ما قبلها ، ولذا قال سبحانه:{ إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم} .