/م33
أما تفسير الآية فهو ما ترى:
{ إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} أي إن جزاء الذين يفعلون ما ذكر محصور فيما يذكر بعده من العقوبات على سبيل الترتيب والتوزيع على جناياتهم ومفاسدهم ، لكل منها ما يليق بها من العقوبة .والمحاربة مفاعلة من الحرب وهي ضد السلم .والسلم السلام أي السلامة من الأذى والضرر والآفات ، والأمن على النفس والمال .والأصل في معنى كلمة الحرب التعدي وسلب المال .لسان العرب:الحرب بالتحريك أن يسلب الرجل ماله ، حربه يحربه ( بوزن طلب .وكذا بوزن تعب ) إذا أخذ ماله ، فهو محروب وحريب ، من قوم حربى وحرباء .ثم قال حريبة الرجل ماله الذي يعيش به ، اه فأنت ترى أن الحرب والمحاربة ، ليس مرادفا للقتل والمقاتلة .وإنما الأصل فيها الاعتداء والسلب وإزالة الأمن .وقد يكون ذلك بقتل وقتال وبدونهما .وقد ذكر القتل والقتال في القرآن في أكثر من مئة آية .وأما المحاربة فلم تذكر إلا في هذه وفي قوله تعالى في بيان علة بناء المنافقين لمسجد الضرار{ وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل} [ التوبة:107] .قال رواة التفسير المأثور:أي وترقبا وانتظارا للذي حارب الله ورسوله من قبل بناء هذا المسجد ، وهو أبو عامر الراهب ، فإنه كان شديد العداوة للإسلام ووعد المنافقين بأن يذهب ويأتيهم بجنود من عند قيصر للإيقاع بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .فمحاربة هذا الراهب من قبل كانت باثارة الفتن لا بالقتال والنزال .وأما لفظ ( الحرب ) فقد ذكر في أربعة مواضع من أربع سور .منها إعلام المصرين على الربا بأنهم في حرب لله ورسوله بأكلهم أموال الناس بالباطل .والباقي بالمعنى المشهور ، وهو ضد السلم وكان أهل البوادي – ولا يزالون – يغزو بعضهم بعضا لأجل السلب والنهب .وقد جعل الفقهاء كتاب المحاربة – ويقولون الحرابة أيضا – غير كتاب الجهاد والقتال .وجعلوا الأصل فيها هاتين الآتين .وعرفوها بأنها إشهار السلاح وقطع السبيل ، واشترط بعضهم كالشافعي أن يكون ذلك من أهل الشوكة .( كالذين يؤلفون العصابات المسلحة للسلب والنهب وقتل من يعارضهم ، أو لمقاومة السلطة ابتغاء الفتنة والفساد ) واشترطوا فيها شروطا سنشير إلى المهم منها .
أما كون هذا النوع من العدوان محاربة لله ورسوله فلأنه اعتداء على شريعة السلام والأمان ، والحق والعدل الذي أنزله الله على رسوله ، فمحاربة الله ورسوله هي عدم الإذعان لدينه وشرعه في حفظ الحقوق ، كما قال تعالى في المصرين على أكل الربا{ فأذنوا بحرب من الله ورسوله} [ البقرة:279] وليس معناه محاربة المسلمين ، كما قال بعض المفسرين .فمن لم يذعنوا للشرع فيما يخاطبهم به في دار الإسلام{[748]} يعدون محاربين الله ورسوله عليه السلام ، فيجب على الإمام ، الذي يقيم العدل ويحفظ النظام ، أن يقتلهم على ذلك ( كما فعل الصديق رضي الله عنه بمانعي الزكاة ) حتى يفيئوا ويرجعوا إلى أمر الله ، ومن رجع منهم في أي وقت يقبل منه ويكف عنه .ولكن إذا امتنعوا على إمام العدل المقيم للشريعة ، وعثوا إفسادا في الأرض ، كان جزاؤهم ما بينه الله في هذه الآية .فقوله تعالى:{ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} متمم لما قبله ، أي يسعون فيها سعي فساد ، أو مفسدين في سعيهم لما صلح من أمور الناس ، في نظام الاجتماع وأسباب المعاش .
والفساد ضد الصلاح ، وكل ما يخرج عن وضعه الذي يكون به الصالح نافعا يقال إنه قد فسد .ومن عمل عملا كان سببا لفساد شيء من الأشياء يقال إنه أفسده ، فإزالة الأمن على الأنفس أو الأموال أو الأعراض ، ومعارضة تنفيذ الشريعة العادلة وإقامتها – كل ذلك إفساد في الأرض .روى عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد أن الفساد هنا الزنا والسرقة وقتل الناس وإهلاك الحرث والنسل .وكل هذه الأعمال من الفساد في الأرض ، واستشكل بعض الفقهاء قول مجاهد بأن هذه الذنوب والمفاسد لها عقوبة في الشريعة غير ما في الآية ، فللزنا والسرقة والقتل حدود ، وإهلاك الحرث والنسل يقدر بقدره ويضمنه الفاعل ، ويعزره الحاكم بما يؤديه إليه اجتهاده .وفات هؤلاء المعترضين أن العقاب المنصوص في الآية خاص بالمحاربين من المفسدين ، الذين يكاثرون أولي الأمر ، ولا يذعنون لحكم الشرع ، وتلك الحدود إنما هي للسارقين الزناة أفرادا ، الخاضعين لحكم الشرع فعلا ، وقد ذكر حكمهم في الكتاب العزيز بصيغة اسم فاعل مفرد كقوله:{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} [ المائدة:38]{ والزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [ النور:2] وهم يستخفون بأفعالهم ، ولا يجهرون بالفساد حتى ينتشر بسوء القدوة بهم ، ولا يؤلفون له العصائب ليمنعوا أنفسهم من الشرع بالقوة .فلهذا لا يصدق عليهم أنهم محاربون الله ورسوله ومفسدون ، والحكم هنا منوط بالوصفين معا .وإذا أطلق الفقهاء لفظ المحاربين فإنما يعنون به المحاربين المفسدين .لأن الوصفين متلازمان .
ولا تتحقق محاربة الله ورسوله ، بمحاربة الشرع ومقاومة تنفيذه ، وإفساد النظام على أهله ، إلا في دار الإسلام ، وللكفار في دار الحرب أحكام أخرى كما قال الفقهاء ، وأحكامهم تذكر في كتاب المحاربة أو الحرابة كما تقدم .وقد فطن لهذا المعنى بعضهم ولم يتضح له تمام الاتضاح ، فاشترط أن يكون إفسادهم في دار الإسلام ، ولا فصل حينئذ فيهم بين أن يكونوا مسلمين أو ذميين أو معاهدين أو حربيين كل من قدرنا عليه منهم نحكم بينهم بهذه الآية .
وقد اختلف الفقهاء في تعريف المحاربين فروى ابن جرير وغيره عن مالك بن أنس أنه قال:المحارب عندنا من حمل السلاح على المسلمين في مصر أو خلاء ، فكان ذلك منه على غير ثائرة كانت بينهم ولا دخل ولا عداوة ، قاطعا للسبيل والطريق والديار ، مختفيا لهم بسلاحه .وذكر أن من قتل منهم قتله الإمام ، ليس لولي المقتول فيه عفو ولا قود .
وقال ابن المنذر:اختلفت الرواية في مسألة إثبات المحاربة في المصر عن مالك فأثبتها مرة ونفاها أخرى .نقول:والصواب الإثبات لأنه المعروف في كتب مذهبه ، وإنما اشترط انتفاء العداوة وغيرها من الأسباب ليتحقق كون ذلك محاربة للشرع ، ومقاومة للسلطة التي تنفذه .وفي حاشية المقنع من كتب الحنابلة تلخيص لمذاهب الفقهاء في ذلك هذا نصه:
( يشترط في المحاربين ثلاثة شروط:
1- أن يكون معهم سلاح ، فإن لم يكن معهم سلاح فليسوا محاربين لأنهم لا يمنعون من يقصدهم .ولا نعلم في هذا خلافا .فإن عرضوا بالعصي والحجارة فهم محاربون ، وهو المذهب ، وبه قال الشافعي وأبو ثور .وقال أبو حنيفة ليسوا محاربين .
2- أن يكون ذلك في الصحراء ، فإن فعلوا ذلك في البنيان لم يكونوا محاربين في قول الخرقي ، وجزم به في الوجيز ، وبه قال أبو حنيفة والثوري وإسحاق ، لأن الواجب يسمى حد قطاع الطريق ، وقطع الطريق إنما هو في الصحراء ، ولأن في المصر يلحق الغوث غالبا فتذهب شوكة المعتدين ويكونون مختلسين .والمختلس ليس بقاطع ولا حد عليه .وقال أبو بكر:حكمهم في المصر والصحراء واحد .وهو المذهب .وبه قال الأوزاعي والليث والشافعي وأبو ثور:لتناول الآية بعمومها كل محارب ، ولأنه في المصر أعظم ضررا فكان أولى .
3- أن يأتوا مجاهرة ويأخذوا المال قهرا ، فأما إن أخذوا مختفين فهم سراق ، وإن اختطفوه وهربوا فهم منتهبون لا قطع عليهم ، وكذلك إن خرج الواحد والاثنان على آخر قافلة فاستلبوا منها شيئا ، لأنهم لا يرجعون إلى منعة وقوة .وإن خرجوا على عدد يسير فقهروهم فهم قطاع طريق )اه .
قال بعض المفسرين المستقلين بالفهم:إن أكثر الشروط التي اشترطها الفقهاء في هذا الباب لا يوجد لها أصل في الكتاب ولا في السنة .ونحن نقول:إن الآية تدل دلالة صريحة على أن هذا العقاب خاص بمن يفسدون الأرض ، بالسلب والنهب أو القتل ، أو إهلاك الحرث والنسل ، ومثل ذلك أو منه الاعتداء على الأعراض ، إذا كانوا محاربين لله ورسوله ، بقوة يمتنعون بها من الإذعان والخضوع لشرعه ، ولا يتأتي ذلك إلا حيث يقام شرعه العادل من دار الإسلام .فمن اشترط حملهم السلاح أخذ شرطه من كون القوة السلاح .وهو لو قيل له أنه يوجد أو سيوجد مواد تفعل في الإفساد والإعدام وتخريب الدور ، وكذا في الحماية والمقاومة أشد مما يفعل السلاح ( كالدينامت المعروف الآن ) ألا تراه في حكم السلاح ؟ يقول:بلى .ومن اشترط خارج المصر ، راعى الأغلب ، أو أخذ من حال زمنه أن المصر لا يكون فيه ذلك .وما اشترط أحد شرطا غير صحيح أو غير مطرد إلا وله وجه انتزعه منه .
أما ذلك الجزاء الذي يعاقب به أمثال هؤلاء المفسدين بالقوة فهو{ أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ} التقتيل هو التكثير أو التكرير أو المبالغة في القتل ، فأما معنى التكرار أو التكثير فلا يظهر إلا باعتبار الأفراد ، كأنه يقول:كلما ظفرتم بمن يستحق القتل منهم فاقتلوه .وأما المبالغة فتظهر بكون القتل حتما لا هوادة فيه ولا عفو من ولي الدم ، وقد صرح بعض الفقهاء بأن المحاربين المفسدين إذا قدرنا على القاتل منهم نقتله إن عفا ولي الدم أو رضي بالدية .والتصليب التكرار أو المبالغة في الصلب ، فيقال فيه ما قيل في التقتيل .ويمكن تكرار صلب الواحد على قول من قال:إن الصلب يكون بعد القتل لأجل العبرة ، فيصلب المجرم في النهار وتحتفظ جثته ليلا ، ثم يصلب في النهار قال الشافعي يصلب بعد القتل ثلاثة أيام .والظاهر أنهم يصلبون أحياء ليموتوا بالصلب كما قال الجمهور ، وإلا لم يكن الصلب عقوبة ثانية .وأصل معنى الصلب ( بالتحريك ) والصليب في اللغة الودك ( الدهن ) أو ودك العظام التي يعد صلب الظهر جذع شجرتها ، والصديد الذي يخرج من بدن الميت .قال في اللسان:والصلب مصدر يصلبه ( بكسر اللام ) صلبا ، وأصله من الصليب وهو الودك أو الصديد .....والصلب هذه القتلة المعروفة مشتق من ذلك ، وقد صلبه يصلبه صلبا ، شدد للتكثير ...والصليب المصلوب اه ويعني بالقتلة المعروفة أن يربط الشخص على خشبة أو نحوها منتصب القامة ممدود اليدين حتى يموت .وكانوا يطعنون المصلوب ليعجلوا موته .والشكل الذي يشبه المصلوب يسمى صليبا .
وأما تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف ، فمعناه إذا قطعت اليد اليمنى تقطع الرجل اليسرى .وفي هذا نوع من التكرار فصيغة التفعيل فيه أظهر مما قبله .وما قطع من يد أو رجل يحسم في الحال كما جرى عليه العمل .والحسم كي العضو المقطوع بالنار أو بالزيت وهو يغلي ليكيلا يستنزف الدم ويموت صاحبه .وفي معنى الحسم كل علاج يحصل به المراد ، وربما كان الأفضل ما كان أسرع تأثيرا وأقل إيلاما وأسلم عاقبة ، عملا بحديث ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء .فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحد أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته ){[749]} رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة عن شداد بن أوس .
وأما النفي من الأرض فيحتمل لفظ الآية فيه أن يكون عقوبة معطوفة على ما قبلها .وأن يكون ( أو ) بمعنى ( إلا أن ) أي جزاؤهم ما ذكر قبل إلا أن ينفوا من الأرض بالمطاردة ويخرجوا من دار الإسلام إلى الحرب التي لا حكم ولا سلطان للإسلام فيها .وهذا قول ابن عباس رواه ابن جرير عنه وعن السدي .وعن الليث بن سعد ومالك بن أنس أنهم يطلبون حتى يؤخذوا أو يضطرهم الطلب إلى دار الكفر والحرب إذا كانوا مرتدين .وأن المسلم لا يضطر إلى الدخول في دار الكفر .والمعنى على القول الأول المختار أن ينفى المحاربون من بلدهم أو قطرهم الذي أفسدوا فيه إلى غيره من بلاد الكفر ، لأن لفظ الأرض في الآية يحتمل أن يكون التعريف فيه لبلاد الإسلام ، وأن يكون لما وقع فيه الفساد منها .
وحكمة نفيهم إلى غير تلك الأرض وراء كون النفي عقابا ظاهرة ، وهي أن بقاءهم في الأرض التي أفسدوا فيها يذكرهم ويذكر أهلها دائما بما كان منهم ، وهي ذكرى سيئة قد تعقب ما لا خير فيه .وروى ابن جرير هذا التفسير للنفي عن سعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز .وقيل:ينفى إلى بلد آخر فيسجن فيه إلى أن يظهر توبته ، وهو رواية ابن القاسم عن مالك .وقيل:إن النفي هو السجن وهو مذهب أبي حنيفة ، وهو أغرب الأقوال .فالحبس عقوبة غير عقوبة النفي والإخراج من الأرض تحتاج إلى دليل .والمقام مقام بيان حدود الله لا التعزير المفوض إلى أولي الأمر .وقد ورد ذكر العقوبتين في بيان الله تعالى لنبيه ما كان يكيد له المشركون بمكة ، وذلك قوله تعالى في الأنفال:{ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك} [ الأنفال:30] روى أصحاب التفسير المأثور أن عمه أبا طالب سأله:هل تدري ما ائتمروا بك ؟ قال صلى الله عليه آله وسلم:( يريدون أن يسجنوني أو يقتلوني أو يخرجوني ) .
هذه أربع عقوبات للمحاربين المفسدين في الأرض ، اختلف علماء السلف في كيفية تنفيذها فقال بعضهم:هي للتخيير ، فللإمام أن يحكم على من شاء من المحاربين المفسدين عند التمكن منهم بما شاء منها ، وقال الجمهور:إنها لتفصيل أنواع العقاب لا للتخيير ، جعل الله لهذا الإفساد درجات من العقاب لأن إفسادهم متفاوت ، منه القتل ومنه السلب ومنه هتك الأعراض ، ومنه إهلاك الحرث والنسل – أي قطع الشجر وقلع الزرع وقتل المواشي والدواب – ومنهم من يجمع بين جريمتين أو أكثر من هذه المفاسد .فليس الإمام مخيرا في معاقبة من شاء منهم بما شاء منها ، بل عليه أن يعاقب كلا بقدر جرمه ودرجة إفساده .ثم اختلفوا في تقدير هذه العقوبات بقدر الجرائم اختلافا كثيرا ، وجاءوا فيه بفروع كثيرة ترجع إلى الرأي والاجتهاد في التقدير ومراعاة ما ورد من الحدود على بعض هذه الأعمال ، كقتل القاتل ، وقطع آخذ المال لأنه كالسارق ، والجمع بين القتل والصلب ، لمن جمع بين القتل والسلب ، والنفي لمن أخاف السبيل ولم يقتل ولا أخذ مالا .وقد روي هذا عن ابن عباس وبعض علماء التابعين .
وأنت ترى أن الآية لا تدل عليه ولا تنفيه ، فهو اجتهاد حسن في كيفية العمل بها ، ولكنه غير كاف لأن للمفسدين في الأرض بالقوة أعمالا أخرى أشرنا إلى أمهاتها آنفا .فإذا قامت عصبة مسلحة من الأشقياء بخطف العذارى أو المحصنات لأجل الفجور بهن ، أو بخطف الأولاد لأجل بيعهم أو فديتهم ، فلا شك أنها تعد من المحاربين المفسدين ، فما حكم الله فيهم ؟
إن الآية حددت لعقاب المفسدين بقوة السلاح والعصبية أربعة أنواع من العقوبة وتركت لأولي الأمر الاجتهاد في تقديرها بقدر جرائمهم ، فلا هي خيرت الإمام بأن يحكم بما شاء منها على من شاء بحسب هواه ، ولا هي جعلت لكل مفسدة عقوبة معينة منها .والحكمة في عدم تعيين الآية وتفصيلها للفروع والجزئيات هي أن هذه المفاسد كثيرة وتختلف باختلاف الزمان والمكان ، وضررها يختلف كذلك .والفروع تكثر فيها ، حتى أن تفصيلها لا يمكن إلا في صحف كثيرة .ومن خصائص القرآن أنه كتاب هداية روحية ، ليس لأحكام المعاملات الدنيوية منه إلا الحظ القليل ، إذ وكل أكثرها إلى أولي الأمر من المؤمنين ، وبين – بإيجازه المعجز – الضروري منها بعبارة يؤخذ من كل آية منها ما يملأ عدة صحف ، كهذه الآية وآيات المواريث .والقاعدة في الإسلام أن ما لا نص فيه بخصوصه يستنبط أولو الأمر حكمه من النصوص والقواعد العامة في دفع المفاسد وحفظ المصالح والعلماء المستقلون من أولي الأمر ، فلهذا بينوا ما وصل إليه اجتهادهم ، ليسهلوا على الحكام من أولي الأمر فهم النصوص ، ويمهدوا لهم طرق الاجتهاد .ليسهلوا على الحكام من أولي الأمر النصوص ، ويمهدوا لهم طرق الاجتهاد .ولهذا اختلفت الأقوال .ولو كان مسلمو هذا العصر كمسلمي السلف لفعل أئمتهم كما يفعل عمر بن الخطاب في خلافته من جمع أولي الأمر ( أهل الحل والعقد من العلماء وكبراء الصحابة ) للتشاور في كل ما لا نص فيه ولا سنة متبعة .ولاستشاروهم في تقدير هذه العقوبات بقدر تأثير المفاسد وضررها .وأنفذوا ما يتقرر بعد الشورى في كل ما حدث من فروع هذه المفاسد ( راجع تفسير ( 4:58{ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم} [ النساء:58] ج5 ) .
وعلم بهذا الذي قررناه أن كل قول قاله علماء السلف له وجه ، وإن رد بعضهم قول بعض .فمن قال إن الإمام مخير فوجهه ما يدل عليه العطف بأو ، لا يعني بالتخيير أن له الحكم بالهوى والشهوة ، بل بالاجتهاد ومراعاة ما تدرأ به المفسدة ، وتقوم المصلحة ، ولا ينافي ذلك المشاورة في الأمر ، كيف وهي القاعدة السياسية للحكم ؟ ومن وضع كل عقوبة بإزاء عمل من أعمال المفسدين فإنما بين رأيه واجتهاده في الحكم الذي يدرأ المفسدة وتقوم به المصلحة ، كما يبينون فهمهم واجتهادهم في غير ذلك من المسائل ، ولا يوجبون بل لا يجيزون لأحد من حاكم أو غيره أن يتخذ فهمهم أو رأيهم دينا يتبع ، وإنما هو إعانة للباحث والناظر على العلم ، فإن المستقل في طلب العلم إذا نظر في مسألة لم يعرف لغيره رأيا فيها ، يكون مجال نظره أضيق من مجال من عرف أقوال الناس وآراءهم ، وكم من عالم مجتهد قال في مسألة قولا ثم رجع عنه بعد وقوفه على قول غيره من العلماء ، إما إلى رأيهم وإما إلى رأي جديد ؟ وعلى هذه القاعدة كان للشافعي مذهب قديم ومذهب جديد .فلا يغرنك قول بعض العلماء المستقلين إن أكثر ما قالوه ليس له أصل من كتاب ولا سنة{[750]} .
إذا عملت هذا فهاك أشهر أقوال الفقهاء في المسألة:قال صاحب ( المقنع ) من كتب الحنابلة في باب قطاع الطريق:وإذا قدر عليهم فمن كان منهم قد قتل من يكافئه وأخذ المال قتل حتما وصلب حتى يشتهر ، وقال أبو بكر ( من فقهائهم ) يصلب قدر ما يقع عليه اسم الصلب .وعن أحمد أنه يقطع مع ذلك .وإن قتل من يكافئه فهل يقتل ؟ على روايتين الخ ما ذكره وهو مثل الذي عزوناه إلى ابن عباس مع تفصيل وذكر روايات مختلفة في المذاهب .وقال محشيه ما نصه:
"قوله وإذا قدر عليهم الخ هذا هو المذهب وروي نحوه عن ابن عباس .وبه قال قتادة وأبو مجلز وحماد والليث والشافعي .وذهبت طائفة إلى أن الإمام مخير فيهم بين القتل والصلب والقطع والنفي ، لأن ( أو ) تقتضي التخيير .وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء والحسن والضحاك والنخعي وأبو الزناد وأبو ثور وداود .وقال مالك إذا قطع الطريق فرآه الإمام جلدا ذا رأي قتله ، وإن كان جلدا لا رأي له قطعه ، ولم يعتبر فعله "اه .أي أن مالكا يعتبر حال قاطع الطريق في العقاب لا عمله وحده .والجلد القوي صاحب الثبات ، فإذا اجتمعت القوة مع الرأي والتدبير كان الفساد أقوى والعاقبة شرا .وذكر الشوكاني في نيل الأوطار أقوالا كثيرة للعلماء في ذلك منها أقوال أئمة الزيدية فليراجعها من شاء .
قال تعالى:{ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي ذك الذي ذكر من العقاب خزي لأولئك المحاربين المفسدين أي ذل وفضيحة – لهم – في الدنيا ، ليكونوا عبرة لغيرهم من المفسدين .وقال ( لهم خزي ) ولم يقل ( خزي لهم ) ليفيد أنه خاص بهم دون الأفراد الذين يعملون مثل عملهم من غير أن يكونوا محاربين ومعتزين بالقوة والعصبية .ثم إن عذابهم في الآخرة يكون عظيما بقدر تأثير إفسادهم في تدنيس أرواحهم وتدسية أنفسهم ، ويا له من تأثير !
/خ34