وإذا عرفت مما ذكرنا تفصيل مفهوم .قوله تعالى:{أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ} .
فاعلم أن مفهوم قوله:{أَوْ فَسَادٍ في الأرض} ،هو المذكور في قوله تعالى:{إِنَّمَا جزاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الأرض فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض} .
قال ابن كثير في تفسيره: المحاربة هي المخالفة والمضادة ،وهي صادقة على الكفر ،وعلى قطع الطريق ،وإخافة السبيل ،وكذا الإفساد في الأرض ،يطلق على أنواع من الشر ،وقد قال الله تعالى:{وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد} [ البقرة: 205] .
فإذا علمت ذلك ،فاعلم أن المحارب الذي يقطع الطريق ،ويخيف السبيل ،ذكر الله أن جزاءه واحدة من أربع خلالٍ هي: أن يقتَّلوا ،أو يصلَّبوا ،أو تقطع أيديهم ،وأرجلهم من خلاف ،أو ينفوا من الأرض ،وظاهر هذه الآية الكريمة: أن الإمام مخير فيها ،يفعل ما شاء منها بالمحارب ،كما هو مدلول ،أو لأنها تدل على التخيير .
ونظيره في القرآن قوله تعالى:{فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [ البقرة: 196] ،وقوله تعالى:{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [ المائدة: 89] ،وقوله تعالى:{فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذلِكَ صِيَاماً} [ المائدة: 95] .
وكون الإمام مخيراً بينهما مطلقاً من غير تفصيل ،هو مذهب مالك ،وبه قال سعيد بن المسيب ،ومجاهد ،وعطاء ،والحسن البصري ،وإبراهيم النخعي ،والضحاك ،كما نقله عنهم ابن جرير ،وغيره ،وهو رواية ابن أبي طلحة ،عن ابن عباس ،ونقله القرطبي ،عن أبي ثور ،وسعيد بن المسيب ،وعمر بن عبد العزيز ،ومجاهد ،والضحاك ،والنخعي ،ومالك ،وقال: وهو مروي عن ابن عباس .
ورجّح المالكية هذا القول بأن اللَّفظ فيه مستقل غير محتاج إلى تقدير محذوف ،لأن اللفظ إذا دار بين الاستقلال ،والافتقار إلى تقدير محذوف ،فالاستقلال مقدم ،لأنه هو الأصل ،إلا بدليل منفصل على لزوم تقدير المحذوف ،وإلى هذا أشار في [ مراقي السعود] بقوله:
كذاك ما قابل ذا اعتلال *** من التأصل والاستقلال
إلى قوله:
كذاك ترتيب لإيجاب العمل ***بما لهُ الرجحان مما يحتمل
والرواية المشهورة عن ابن عباس ،أن هذه الآية منزلة على أحوال ،وفيها قيود مقدرة ،وإيضاحه: أن المعنى أن يقتّلوا إذا قتلوا ،ولم يأخذوا المال ،أو يصلبوا إذا قتلوا وأخذوا المال ،أو تقطع أيديهم ،وأرجلهم من خلاف إذا أخذوا المال ولم يقتلوا أحداً ،أو ينفوا من الأرض ،إذا أخافوا السبيل ،ولم يقتلوا أحداً ،ولم يأخذوا مالاً ،وبهذا قال الشافعي ،وأحمد ،وأبو مجلز ،وسعيد بن جبير ،وإبراهيم النخعي ،والحسن ،وقتادة ،والسدي ،وعطاء الخراساني ،وغير واحد من السلف والأئمة .
قاله ابن كثير ،ونقله القرطبي ،وابن جرير ،عن ابن عباس ،وأبي مجلز ،وعطاء الخراساني ،وغيرهم .
ونقل القرطبي ،عن أبي حنيفة ،إذا قتل قتل ،وإذا أخذ المال ولم يقتل ،قطعت يده ورجله من خلاف ،وإذا أخذ المال وقتل ،فالسلطان مخير فيه إن شاء قطع يده ورجله ،وإن شاء لم يقطع وقتله وصلبه ،ولا يخفى أن الظاهر المتبادر من الآية ،هو القول الأول .لأن الزيادة على ظاهر القرآن بقيود تحتاج إلى نص من كتاب ،أو سنة ،وتفسير الصحابي لهذا بذلك ،ليس له حكم الرفع ،لإمكان أن يكون عن اجتهاد منه ،ولا نعلم أحداً روى في تفسير هذه الآية بالقيود المذكورة ،خبراً مرفوعاً ،إلا ما رواه ابن جرير في تفسيره عن أنس ،حدثنا علي بن سهل قال: حدثنا الوليد بن مسلم ،عن ابن لهيعة ،عن يزيد ابن أبي حبيب: أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية ،فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين إلى أن قال .قال أنس: «فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عن القضاء فيمن حارب ،فقال: من سرق ،وأخاف السبيل ،فاقطع يده بِسرقته ،ورجله بإخافته ،ومن قتل فاقتله ،ومن قتل وأخاف السبيل ،واستحل الفرج الحرام ،فاصلبه » ،وهذا الحديث لو كان ثابتاً لكان قاطعاً للنزاع ،ولكن فيه ابن لهيعة ،ومعلوم أنه خلط بعد احتراق كتبه ،ولا يحتج به ،وهذا الحديث ليس راويه عنه ابن المبارك ،ولا ابن وهب ؛لأن روايتهما عنه أعدل من رواية غيرهما ،وابن جرير نفسه يرى عدم صحة هذا الحديث الذي ساقه ،لأنه قال في سوقه للحديث المذكور: وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،بتصحيح ما قلنا في ذلك بما في إسناده نظر ،وذلك ما حدثنا به علي بن سهل ،حدثنا الوليد بن مسلم ،إلى آخر الإسناد الذي قدمنا آنفاً ،وذكرنا معه محل الغرض من المتن ،ولكن هذا الحديث ،وإن كان ضعيفاً ،فإنه يقوي هذا القول الذي عليه أكثر أهل العلم ،ونسبه ابن كثير للجمهور .
واعلم أن الصَّلب المذكور في قوله{أَوْ يُصَلَّبُواْ} ،اختلف فيه العلماء .فقيل: يصلب حياً ،ويمنع من الشراب ،والطعام ،حتى يموت ،وقيل: يصلب حياً ،ثم يقتل برمح ،ونحوه ،مصلوباً ،وقيل: يقتل أولاً ،ثم يصلب بعد القتل ،وقيل: ينزل بعد ثلاثة أيام ،وقيل: يترك حتى يسيل صديده ،والظاهر أنه يصلب بعد القتل زمناً يحصل فيه اشتهار ذلك .لأن صلبه ردع لغيره .
وكذلك قوله:{أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض} ،اختلف العلماء في المراد بالنفي فيه أيضاً ،فقال بعضهم: معناه أن يطلبوا حتى يقدر عليهم ،فيقام عليهم الحد ،أو يهربوا من دار الإسلام ،وهذا القول رواه ابن جرير ،عن ابن عباس ،وأنس بن مالك ،وسعيد بن جبير ،والضحاك ،والربيع بن أنس ،والزهري ،والليث بن سعد ،ومالك بن أنس .
وقال آخرون: هو أن ينفوا من بلدهم إلى بلد آخر ،أو يخرجهم السلطان ،أو نائبه ،من عمالته بالكلية ،وقال عطاء الخراساني ،وسعيد بن جبير ،وأبو الشعثاء ،والحسن ،والزُّهري ،والضحاك ،ومقاتل بن حيان ،إنهم ينفون ،ولا يخرجون من أرض الإسلام .
وذهب جماعة إلى أن المراد بالنفي في الآية السجن ،لأنه نفي من سعة الدنيا إلى ضيق السجن ،فصار المسجون كأنه منفي من الأرض ،إلا من موضع استقراره ،واحتجوا بقول بعض المسجونين في ذلك:
خرجنا من الدُّنيا ونحن من أهْلها *** فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا
إذا جاءنا السجان يوماً لحاجة *** عجبنا وقلنا جاء هذا من الدُّنيا
وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه ،ولا يخفى عدم ظهوره .
واختار ابن جرير ،أن المراد بالنفي في هذه الآية ،أن يخرج من بلده إلى بلد آخر ،فيسجن فيه ،وروي نحوه عن مالك أيضاً ،وله اتجاه .لأن التغريب عن الأوطان نوع من العقوبة ،كما يفعل بالزاني البكر ،وهذا أقرب الأقوال ،لظاهر الآية ؛لأنه من المعلوم إنه لا يراد نفيهم من جميع الأرض إلى السماء ،فعلم أن المراد بالأرضِ أوطانهم التي تشقّ عليهم مفارقتها ،والله تعالى أعلم .
مسائل من أحكام المحاربين
المسألة الأولى: اعلم أن جمهور العلماء يثبتون حكم المحاربة في الأمصار والطرق على السواء ،لعموم قوله تعالى:{وَيَسْعَوْنَ في الأرض فَسَاداً} ،وممن قال بهذا الأوزاعيّ ،والليث بن سعد ،وهو مذهب الشافعي ،ومالك ،حتى قال مالك في الذي يغتال الرجل فيخدعه ،حتى يدخله بيتاً ،فيقتله ويأخذ ما معه ،إن هذه محاربة ،ودمه إلى السلطان ،لا إلى ولي المقتول ،فلا اعتبار بعفوه عنه في إسقاط القتل .
وقال القاضي ابن العربي المالكي: كنت أيام حكمي بين الناس ،إذا جاءني أحد بسارق ،وقد دخل الدار بسكين يحبسه على قلب صاحب الدار ،وهو نائم ،وأصحابه يأخذون مال الرجل ،حكمت فيهم بحكم المحاربين ،وتوقف الإمام أحمد في ذلك ،وظاهر كلام الخرقي أنه لا محاربة إلا في الطرق ،فلا يكون محارباً في المصر .لأنه يلحقه الغوث .
وذهب كثير من الحنابلة إلى أنه يكون محارباً في المصر أيضاً ،لعموم الدَّليل .
وقال أبو حنيفة: وأصحابه: لا تكون المحاربة إلا في الطرق ،وأما في الأمصار فلا ،لأنه يلحقه الغوث إذا استغاث ،بخلاف الطريق لبعده ممن يغيثه ،ويعينه ،قاله ابن كثير ولا يثبت لهم حكم المحاربة ،إلا إذا كان عندهم سلاح .ومن جملة السلاح: العصي ،والحجارة عند الأكثر ؛لأنها تتلف بها الأنفس والأطراف كالسلاح ،خلافاً لأبي حنيفة .
* * *
المسألة الثانية: إذا كان المال الذي أتلفه المحارب ،أقل من نصاب السرقة الذي يجب فيه القطع ،أو كانت النفس التي قتلها غير مكافئة له ،كأن يقْتل عبداً ،أو كافراً ،وهو حر مسلم ،فهل يقطع في أقل من النِّصاب ؟ويقتل بغير الكفؤ أو لا ؟
اختلف العلماء في ذلك ،فقال بعضهم: لا يقطع إلا إذا أخذ ربع دينار ،وبهذا قال الشافعي ،وأبو حنيفة ،وأحمد ،وقال مالك: يقطع ولو لم يأخذ نصاباً: لأنه يحكم عليه بحكم المحارب .
قال ابن العربي: وهو الصحيح ؛لأن الله تعالى ،حدد على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ،ربع دينار لوجوب القطع في السرقة ،ولم يحدد في قطع الحرابة شيئاً ،ذكر جزاء المحارب ،فاقتضى ذلك توفية جزائهم على المحاربة عن حبة ،ثم إن هذا قياس أصل على أصل ،وهو مختلف فيه ،وقياس الأعلى بالأدنى ،وذلك عكس القياس ،وكيف يصح أن يقاس المحارب على السارق ،وهو يطلب خطف المال ؟فإن شعر به فر ،حتى إن السارق إذا دخل بالسلاح يطلب المال ،فإن منع منه ،أو صِيح عليه حارب عليه ،فهو محارب يحكم عليه بحكم المحاربين ،اه كلام ابن العربي .
ويشهد لهذا القول ،عدم اشتراط الإخراج من حرز فيما يأخذه المحارب في قطعه ،وأما قتل المحارب بغير الكفؤ ،فهو قول أكثر العلماء ،وعن الشافعي ،وأحمد فيه روايتان ،والتحقيق عدم اشتراط المكافأة في قتل الحرابة ؛لأن القتل فيها ليس على مجرد القتل ،وإنما هو على الفساد العام من إخافة السبيل ،وسلب المال .
قال الله تعالى:{إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الأرض فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ} [ 33] .
فأمر بإقامة الحدود على المحارب إذا جمع بين شيئين ،وهما المحاربة ،والسعي في الأرض بالفساد ،ولم يخص شريفاً من وضيع ،ولا رفيعاً من دنيء ،اه من القرطبي .
قال مقيّده ،عفا الله عنه: ومما يدل على عدم اعتبار المكافأة في قتل الحرابة ،إجماع العلماء على أن عفو ولي المقتول في الحرابة لغو لا أثر له ،وعلى الحاكم قتل المحارب القاتل ،فهو دليل على أنها ليست مسألة قصاص خالص ،بل هناك تغليظ زائد من جهة المحاربة .
* * *
المسألة الثالثة: إذا حمل المحاربون على قافلة مثلاً ،فقتل بعضهم بعض القافلة ،وبعض المحاربين لم يباشر قتل أحد ،فهل يقتل الجميع ،أو لا يقتل إلا من باشر القتل ،فيه خلاف ،والتحقيق قتل الجميع ،لأن المحاربة مبنية على حُصول المنعة والمعاضدة والمناصرة ،فلا يتمكّن المباشر من فعله ،إلا بقوة الآخر الذي هو ردء له ومعين على حرابته ،ولو قتل بعضهم ،وأخذ بعضهم المال جاز قتلهم كلهم ،وصلبهم كلهم ؛لأنهم شركاء في كل ذلك ،وخالف في هذا الشافعي رحمه الله فقال: لا يجب الحد إلا على من ارتكب المعصية ،ولا يتعلق بمن أعانه عليها كسائر الحدود ،وإنما عليه التعزير .
* * *
المسألة الرابعة: إذا كان في المحاربين صبي ،أو مجنون ،أو أب المقطوع عليه ،فهل يسقط الحد عن كلَّهم ؟ويصير القتل للأولياء إن شاؤوا قتلوا ،وإن شاؤوا عفوا نظراً إلى أن حكم الجميع واحد ،فالشبهة في فعل واحد شبهة في الجميع ،وهو قول أبي حنيفة ،أو لا يسقط الحد عن غير المذكور من صبي ،أو مجنون ،أو أب ،وهو قول أكثر العلماء ،وهو الظاهر .
* * *
المسألة الخامسة: إذا تاب المحاربون بعد القدرة عليهم ،فتوبتهم حينئذ لا تغير شيئاً من إقامة الحدود المذكورة عليهم ،وأما إن جاءوا تائبين قبل القدرة عليهم ،فليس للإمام عليهم حينئذ سبيل .لأنهم تسقط عنهم حدود الله ،وتبقى عليهم حقوق الآدميين ،فيقتص منهم في الأنفس والجراح ،ويلزمهم غرم ما أتلفوه من الأموال ،ولولي الدم حينئذ العفو إن شاء ،ولصاحب المال إسقاطه عنهم .
وهذا قول أكثر العلماء مع الإجماع على سقوط حدود الله عنهم بتوبتهم قبل القدرة عليهم ،كما هو صريح قوله تعالى:{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} [ المائدة: 34] الآية ،وإنما لزم أخذ ما بأيديهم من الأموال ،وتضمينهم ما استهلكوا .لأن ذلك غصب ،فلا يجوز لهم تملكه ،وقال قوم من الصحابة والتابعين: لا يطلب المحارب الذي جاء تائباً قبل القدرة عليه إلا بما وجد معه من المال ،وأما ما استهلكه ،فلا يطلب به ،وذكر الطبري هذا عن مالك من رواية الوليد بن مسلم عنه .
قال القرطبي: وهو الظاهر من فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ،بحارثة بن بدر الغداني ،فإنه كان محارباً ،ثم تاب قبل القدرة عليه ،فكتب له سقوط الأموال والدم عنه كتاباً منشوراً ،ونحوه ذكره ابن جرير .
قال ابن خويز منداد: واختلفت الرواية عن مالك في المحارب إذا أقيم عليه الحد ،ولم يوجد له مال ،هل يتبع ديناً بما أخذ ،أو يسقط عنه ،كما يسقط عن السارق ؟يعني عند مالك ،والمسلم ،والذمي في ذلك سواء ومعنى قوله:{فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} اختلف فيه العلماء ،فروي عن ابن عباس أنه قال: معناها أن من قتل نبياً ،أو إمام عدل ،فكأنما قتل الناس جميعاً ،ومن أحياه ،بأن شد عضده ونصره ،فكأنما أحيا الناس جميعاً ،نقله القرطبي ،وابن جرير وغيرهما ،ولا يخفى بعده عن ظاهر القرآن .
وعن ابن عباس أيضاً أنه قال: المعنى ،أن من انتهك حرمة نفس واحدة بقتلها ،فهو كمن قتل الناس جميعاً .لأن انتهاك حرمة الأنفس ،سواء في الحرمة والإثم ،ومن ترك قتل نفس واحدة واستحياها خوفاً من الله ،فهو كمن أحْيا الناس جميعاً ،لاستواء الأنفس في ذلك .
وعن ابن عباس:{فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} ،أيّ عند المقتول إذ لا غرض له في حياة أحد بعد موته هو ،ومن أحياها واستنقذها من هلكة ،فكأنما أحيا الناس جميعاً عند المستنقذ ،وقال مجاهد: المعنى أن الذي يقتل النفس المؤمنة متعمداً جعل الله: جزاءه جهنم ،وغضب عليه ولعنه ،وأعد له عذاباً عظيماً ،ولو قتل الناس جميعاً لم يزد على ذلك ،ومن لم يقتل فقد حيي الناس منه .
واختار هذا القول ابن جرير ،وقال ابن زيد: المعنى أن من قتل نفساً يلزمه من القصاص ما يلزم من قتل الناس جميعاً ،قال: ومن أحياها ،أي عفا عمن وجب له قتله ،وقال الحسن أيضاً: هو العفو بعد المقدرة ،وقيل: المعنى أن من قتل نفساً فالمؤمنون كلهم خصماؤه ،لأنه قد وتر الجميع ،ومن أحياها وجب على الكّل شكره ،وقيل: كان هذا مختصاً ببني إسرائيل ،وقيل: المعنى أن من استحل قتل واحد ،فقد استحل الجميع ،لأنه أنكر الشرع ،ومن حرم دم مسلم ،فكأنما حرم دماء الناس جميعاً ،ذكر هذه الأقوال القرطبي ،وابن كثير ،وابن جرير وغيرهم ،واستظهر ابن كثير هذا القول الأخير ،وعزاه لسعيد بن جبير .
وقال البخاري في [ صحيحه] باب قول الله تعالى:{وَمَنْ أَحْيَاهَا} .قال ابن عباس: من حرم قتلها إلا بحق حَيِيَ الناس منه جميعاً .
وقال القرطبي: إحياؤه عبارة عن الترك ،والإنقاذ من هلكة ،وإلا فالإحياء حقيقة الذي هو الاختراع ،إنما هو لله تعالى ،وهذا الإحياء ،كقول نمروذ لعنه الله:{أَنَا أحي وَأُمِيتُ} [ البقرة: 258] ،فسمّى الترك إحياء .
وكذلك قال ابن جرير ،قوله تعالى:{إِنَّمَا جزاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الأرض فَسَاداً} الآية ،اعلم أن هذه الآية اختلف في سبب نزولها ،فقيل: نزلت في قوم من المشركين ،وقيل: نزلت في قوم من أهل الكتاب ،وقيل: نزلت في الحروريّة .
وأشهر الأقوال هو ما تضافرت به الروايات في الصحاح ،وغيرها ،أنها نزلت في قوم «عُرَيْنَة » ،و «عُكْل » ،الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة ،فأمر لهم صلى الله عليه وسلم بلقاح ،وأمرهم أن يشربوا من أبوالها ،وألبانها فانطلقوا ،فلما صحوا وسمنوا ،قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم ،واستاقوا اللقاح ،فبلغه صلى الله عليه وسلم خبرهم ،فأرسل في أثرهم سرية فجاءوا بهم ،فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم ،وسُمِلت أعينهم ،وألقوا في الحرة يستسقون ،فلا يسقون حتى ماتوا .
وعلى هذا القول ،فهي نازلة في قوم سرقوا ،وقتلوا ،وكفروا بعد إيمانهم ،هذه هي أقوال العلماء في سبب نزولها ،والذي يدل عليه ظاهر القرآن أنها في قطَّاع الطريق من المسلمين ،كما قاله جماعة من الفقهاء بدليل قوله تعالى:{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} [ المائدة: 34] ،فإنها ليست في الكافرين قطعاً ؛لأن الكافر تقبل توبته بعد القدرة عليه ،كما تقبل قبلها إجماعاً لقوله تعالى:{قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [ الأنفال: 38] ،وليست في المرتدين ،لأن المرتد يقتل بردته وكفره ،ولا يقطع لقوله صلى الله عليه وسلم عاطفاً على ما يوجب القتل: «والتارك لدينه المفارق للجماعة » ،وقوله: «من بدل دينه فاقتلوه » ،فيتعين أنها في المحاربين من المسلمين ،فإن قيل: وهل يصح أن يطلق على المسلم أنه محارب لله ورسوله ؟فالجواب: نعم .
والدليل قوله تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِين َفَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [ البقرة: 278 -279] .
تنبيه
استشكل بعض العلماء تمثيله صلى الله عليه وسلم بالعرنيِّين ،لأنه سَمَل أعينهم مع قطع الأيدي والأرجل ،مع أن المرتدّ يُقتل ولا يمثّل به .
واختلف في الجواب فقيل فيه ما حكاه الطبريّ عن بعض أهل العلم أن هذه الآية نسخت فعل النبي صلى الله عليه وسلم بهم ،وقال محمد بن سيرين: كان ذلك قبل نزول الحدود ،وقال أبو الزناد: إن هذه الآية مُعاتبة له صلى الله عليه وسلم على ما فعل بهم ،وبعد العتاب على ذلك لم يعد ،قاله أبو داود .
والتحقيق في الجواب هو أنه صلى الله عليه وسلم فعل بهم ذلك قِصاصاً ،وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم إنما سَمَلَ أعينهم قصاصاً ،لأنهم سَملوا أعين رعاة اللِّقاح ،وعقده البدوي الشنقيطي في مغازيه بقوله:
وبعدها أنتهبها الأُلى انتهوا *** لغاية الجهد وطيبة اجتووا
فخرجوا فشربوا ألبانها *** ونبذوا إذ سمنوا أمانها
فاقتص منهم النبي أن مثلوا *** بعبده ومقلتيه سَملوا
واعترض على الناظم شارح النظم حماد لفظة: بعبده ،لأن الثابت أنهم مثَّلوا بالرعاء ،والعلم عند الله تعالى .