قوله تعالى:{مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إسرائيل أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ في الأرض} الآية .
صرح في هذه الآية الكريمة أنه كتَب على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ،ولم يتعرض هنا لحكم من قتل نفساً بنفس ،أو بفساد في الأرض ،ولكنه بين ذلك في مواضع أخر ،فبين أن قتل النفس بالنفس جائز ،في قوله:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ،وفي قوله:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ،وقوله:{وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} .
واعلم أن آيات القصاص في النفس فيها إجمال بيَّنته السنة ،وحاصل تحرير المقام فيها أن الذكر الحر المسلم يقتل بالذكر الحر المسلم إجماعاً ،وأن المرأة كذلك تقتل بالمرأة كذلك إجماعاً ،وأن العبد يقتل كذلك بالعبد إجماعاً ،وإنما لم نعتبر قول عطاء باشتراط تساوي قيمة العبدين ،وهو رواية عن أحمد ،ولا قول ابن عباس: ليس بين العبيد قصاص ،لأنهم أموال .
لأن ذلك كله يرده صريح قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} ،وأن المرأة تقتل بالرجل ،لأنها إذا قتلت بالمرأة ،فقتلها بالرجل أولى ،وأن الرجل يقتل بالمرأة عند جمهور العلماء فيهما .
وروي عن جماعة منهم علي ،والحسن ،وعثمان البتي ،وأحمد في رواية عنه أنه لا يقتل بها حتى يلتزم أولياؤها قدر ما تزيد به ديته على ديتها .فإن لم يلتزموه أخذوا ديتها .
وروي عن علي والحسن أنها إن قَتلت رجلاً قتلت به ،وأخذ أولياؤه أيضاً زيادة ديته على ديتها ،أو أخذوا دية المقتول واستحيوها .
قال القرطبي بعد أن ذكر هذا الكلام عن علي رضي الله عنه ،والحسن البصري ،وقد أنكر ذلك عنهم أيضاً: روى هذا الشعبي عن علي ،ولا يصح لأن الشعبي لم يلق علياً .وقد روى الحكم عن علي ،وعبد الله أنهما قالا: إذا قتل الرجل المرأة متعمداً فهو بها قود ،وهذا يعارض رواية الشعبي عن علي ؛وقال ابن حجر في [ فتح الباري] في باب سؤال القاتل حتى يقر ،والإقرار في الحدود بعد أن ذكر القول المذكور عن علي والحسن: ولا يثبت عن علي ،ولكن هو قول عثمان البتي أحد فقهاء البصرة ويدل على بطلان هذا القول أنه ذكر فيه أن أولياء الرجل إذا قتلته امرأة يجمع لهم بين القصاص نصف الدية ،وهذا قول يدل الكتاب والسنة على بطلانه ،وأنه إما القصاص فقط ،وإما الدية فقط ،لأنه تعالى قال:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [ البقرة: 178]ثم قال:{فَمَنْ عُفِي لَهُ مِنْ أَخِيهِ شيء فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [ البقرة: 178] الآية ،فرتب الاتباع بالدية على العفو دون القصاص .
وقال صلى الله عليه وسلم: «مَن قُتِل لَه قَتِيل فهُو بِخَيْر النظرين » الحديث ،وهو صريح في عدم الجمع بينهما ،كما هو واضح عند عامة العلماء ؛وحكي عن أحمد في رواية عنه ،وعثمان البتي ،وعطاء أن الرجل لا يقتل بالمرأة ،بل تجب الدية ،قاله ابن كثير ،وروي عن الليث والزهري أنها إن كانت زوجته لم يقتل بها ،وإن كانت غير زوجته قتل بها .
والتحقيق قتله بها مطلقاً ؛كما سترى أدلته ،فمن الأدلة على قتل الرجل بالمرأة إجماع العلماء على أن الصحيح السليم الأعضاء إذا قتل أعور أو أشل ،أو نحو ذلك عمداً وجب عليه القصاص ،ولا يجب لأوليائه شيء في مقابلة ما زاد به من الأعضاء السليمة على المقتول .
ومن الأدلة على قتل الرجل بالمرأة ما ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أنس «أنه صلى الله عليه وسلم رض رأس يهودي بالحجارة قصاصاً بجارية فعل بها كذلك » ،وهذا الحديث استدل به العلماء على قتل الذكر بالأنثى ،وعلى وجوب القصاص في القتل بغير المحدد ،والسلاح .
وقال البيهقي في [ السنن الكبرى] ،في باب [ قتل الرجل بالمرأة]: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ،ثنا أبو زكريا يحيى بن محمد العنبري ،ثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم العبدي ،ثنا الحكم بن موسى القنطري ،ثنا يحيى بن حمزة ،عن سليمان بن داود ،عن الزهري ،عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ،عن أبيه ،عن جده ،عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض ،والسنن ،والديات ،وبعث به مع عمرو بن حزم ،وكان فيه ،وإن الرجل يقتل بالمرأة » .
وروى هذا الحديث موصولاً أيضاً النسائي ،وابن حبان ،والحاكم ،وفي تفسير ابن كثير ما نصه: وفي الحديث الذي رواه النسائي ،وغيره «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في كتابه عمرو بن حزم أن الرجل يقتل بالمرأة ،وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا لعمرو بن حزم الذي فيه أن الرجل يقتل بالمرأة ،رواه مالك ،والشافعي ،ورواه أيضاً الدارقطني ،وأبو داود ،وابن حبان ،والحاكم ،والدارمي وكلام علماء الحديث في كتاب عمرو بن حزم هذا مشهور بين مصحح له ،ومضعف وممن صححه ابن حبان ،والحاكم والبيهقي ،وعن أحمد أنه قال: أرجو أن يكون صحيحاً .وصححه أيضاً من حيث الشهرة لا من حيث الإسناد ،جماعة منهم الشافعي فإنه قال: لم يقبلوا هذا الحديث حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال ابن عبد البر: هو كتاب مشهور عند أهل السير ،معروف ما فيه عند أهل العلم يستغني بشهرته عن الإسناد .لأنه أشبه المتواتر لتلقي الناس له بالقبول ،قال: ويدل على شهرته ما روى ابن وهب عن مالك عن الليث بن سعيد ،عن يحيى بن سعد عن سعيد بن المسيب قال: وجد كتاب عند آل حزم يذكرون أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وقال العقيلي: هذا حديث ثابت محفوظ ،وقال يعقوب بن سفيان: لا أعلم في جميع الكتب المنقولة كتاباً أصح من كتاب عمرو بن حزم هذا ،فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين يرجعون إليه ،ويدعون رأيهم .
وقال الحاكم: قد شهد عمر بن عبد العزيز وإمام عصره الزهري بالصحة لهذا الكتاب ،ثم ساق ذلك بسنده إليهما وضعف كتاب ابن حزم هذا جماعة ،وانتصر لتضعيفه أبو محمد بن حزم في مُحلاّه .
والتحقيق صحة الاحتجاج به ،لأنه ثبت أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ،كتبه ليبين به أحكام الديات ،والزكوات وغيرها ،ونسخته معروفة في كتب الفقه .والحديث ،ولاسيما عند من يحتج بالمرسل كمالك ،وأبي حنيفة ،وأحمد في أشهر الروايات .
ومن أدلة قتله بها عموم حديث «المسلمون تتكافؤ دماؤهم » الحديث ،وسيأتي البحث فيه إن شاء الله ،ومن أوضح الأدلة في قتل الرجل بالمرأة قوله تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [ المائدة: 35] الآية ،وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحلُّ دم امرىءٍ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله ،وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيّب الزاني ،والنفس بالنفس » الحديث ،أخرجه الشيخان ،وباقي الجماعة من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .
فعموم هذه الآية الكريمة ،وهذا الحديث الصحيح يقتضي قتل الرجل بالمرأة ،لأنه نفس بنفس ،ولا يخرج عن هذا العموم ،إلا ما أخرجه دليل صالح لتخصيص النَّصر به ؛نعم يتوجه على هذا الاستدلال سؤالان:
الأول: ما وجه الاستدلال بقوله تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية ،مع أنه حكاية عن قوم موسى ،والله تعالى يقول:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [ المائدة: 48] .
السؤال الثاني: لم لا يخصص عموم قتل النفس بالنفس في الآية والحديث المذكورين بقوله تعالى:{الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ والأنثى بالأنثى} [ البقرة: 178] ،لأن هذه الآية أخص من تلك ،لأنها فصَّلت ما أجمل في الأُولى ،ولأن هذه الأمة مخاطبة بها صريحاً في قوله تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [ البقرة: 178] الآية .
الجواب عن السؤال الأول: أن التحقيق الذي عليه الجمهور ،ودلّت عليه نصوص الشرع ،أن كل ما ذكر لنا في كتابنا ،وسنة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم ،مما كان شرعاً لمن قبلنا أنه يكون شرعاً لنا ،من حيث إنه وارد في كتابنا ،أو سُنُة نبِّينا صلى الله عليه وسلم ،لا من حيث إنه كان شرعاً لمن قبلنا ،لأنه ما قص علينا في شرعنا إلا لنعتبر بِه ،ونعمل بما تضمن .
والنصوص الدالة على هذا كثيرة جداً ،ولأجل هذا أمر الله في القرآن العظيمِ في غير ما آية بالاعتبار بأحوالهم ،ووبَّخ من لم يعقل ذلك ،كما في قوله تعالى في قوم لوط:{وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وبالليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [ الصافات: 137- 138] .
ففي قوله:{أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} توبيخ لمن مرَّ بديارِهم ،ولم يعتبر بما وقع لهم ،ويعقل ذلك ليجتنب الوقوع في مثله ،وكقوله تعالى:{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ في الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [ محمد: 10] ،ثم هدد الكفار بمثل ذلك ،فقال:{وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [ محمد: 10] .
وقال في حجارة قوم لوط التي أهلكوا بها ،أو ديارهم التي أهلكوا فيها:{وَمَا هي مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [ هود: 83] ،وهو تهديد عظيم منه تعالى لمن لم يعتبر بحالهم ،فيجتنب ارتكاب ما هلكوا بسببه ،وأمثال ذلك كثير في القرآن .
وقال تعالى:{لَقَدْ كَانَ في قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأولى الأَلْبَابِ} [ يوسف: 111] فصرح بأنه يقص قصصهم في القرآن للعبرة ،وهو دليل واضح لما ذكرنا ،ولما ذكر الله تعالى من ذكر من الأنبياء في سورة الأنعام ،قال لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم:{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [ الأنعام: 95] ،وأمره صلى الله عليه وسلم أمر لنا ،لأنه قدوتنا ،ولأن الله تعالى يقول:{لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [ الأحزاب: 21] ،ويقول:{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتبعوني} [ آل عمران: 31] الآية ،ويقول:{وَمَآ ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [ الحشر: 7] الآية .
ويقول:{مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [ النساء: 80] ،ومن طاعته اتباعه فيما أمر به كله ،إلا ما قام فيه دليل على الخصوص به صلى الله عليه وسلم ،وكون شرع من قبلنا الثابت بشرعنا شرعاً لنا ،إلا بدليل على النسخ هو مذهب الجمهور ،منهم مالك ،وأبو حنيفة ،وأحمد في أشهر الروايتين ،وخالف الإمام الشافعي رحمه الله في أصح الروايات عنه ،فقال: إن شرع من قبلنا الثابت بشرعنا ليس شرعاً لنا إلا بنص من شرعنا على أنه مشروع لنا ،وخالف أيضاً في الصحيح عنه في أن الخطاب الخاص بالرسول صلى الله عليه وسلم يشمل حكمه الأمة ؛واستدل للأول بقوله تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [ المائدة: 48] وللثاني: بأن الصيغة الخاصة بالرسول لا تشمل الأمة وضعاً ،فإدخالها فيها صرف للفظ عن ظاهره ،فيحتاج إلى دليل منفصل ،وحمل الهدى في قوله:{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [ الأنعام: 90] ،والدين في قوله:{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الِدِينِ} [ الشورى: 13] الآية على خصوص الأصول التي هي التوحيد دون الفروع العملية ،لأنه تعالى قال في العقائد:{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ} [ يوسف: 25] ،وقال:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا في كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ} [ النحل: 36] ،وقال:{وَسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَانِ ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ} [ الزخرف: 45] .
وقال في الفروع العملية:{لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} ،فدل ذلك على اتفاقهم في الأصول ،واختلافهم في الفروع ،كما قال صلى الله عليه وسلم: «إنا معشر الأنبياء إخوة لعلات ديننا واحد » ،أخرجه البخاري في صحيحه ،من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
قال مقّيده عفا الله عنه وغفر له: أما خمل الهدى في آية{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} والدِّين في آية{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الِدِينِ} [ الشورى: 13] على خصوص التوحيد دون الفروع العملية ،فهو غير مسلم ،أما الأول فلما أخرجه البخاري في صحيحه ،في تفسير سورة ص ،عن مجاهد «أنه سأل ابن عبَّاس: مِن أين أخذت السجدة في ص فقال: أو ما تقرأ:{وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ}{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [ الأنعام: 84 – 90] ،فسجدها داود ،فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فهذا نص صحيح صريح عن ابن عباس ،أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أدخل سجود التلاوة في الهدى في قوله:{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ،ومعلوم أن سجود التلاوة فرع من الفروع لا أصل من الأصول .
وأما الثاني: فلأن النَّبي صلى الله عليه وسلم صرح في حديث جبريل الصحيح المشهور أن اسم «الدين » يتناول الإسلام ،والإيمان ،والإحسان ،حيث قال: «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم » ،وقال تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ} [ آل عمران: 19] ،وقال:{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا} [ آل عمران: 85] ،الآية .
وصرح صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور بأن الإسلام يشمل الأمور العملية ،كالصلاة ،والزكاة ،والصوم ،والحج ،وفي حديث ابن عمر المتفق عليه ،«بني الإسلام على خمس » الحديث ،ولم يقل أحد إن الإسلام هو خصوص العقائد ،دون الأمور العملية ،فدل على أن الدين لا يختص بذلك في قوله:{*شَرَعَ لَكُم مِّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} [ الشورى: 13] الآية ،وهو ظاهر جداً ،لأن خير ما يفسر به القرآن هو كتاب الله ،وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
وأما الخطاب الخاص بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم في نحو قوله:{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [ الأنعام: 90] ،فقد دلت النصوص على شمول حكمه للأمة ،كما في قوله تعالى:{لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [ الأحزاب: 21] ،الآية إلى غيرها مما تقدم من الآيات ،وقد علمنا ذلك من استقراء القرآن العظيم حيث يعبر فيه دائماً بالصيغة الخاصة به صلى الله عليه وسلم ،ثم يشير إلى أن المراد عموم حكم الخطاب للأمة ،كقوله في أول سورة الطلاق:{يا أيُّهَا النبي} [ الطلاق: 1] ،ثم قال:{إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ} [ الطلاق: 1] الآية ،فدل على دخول الكل حكماً تحت قوله:{مُّنتَظِرُونَ يا أَيُّهَا النبي} ،وقال في سورة التحريم:{يا أَيُّهَا النبي لِمَ تُحَرِّمُ} [ التحريم: 1] ،ثم قال:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [ التحريم: 2] ،فدل على عموم حكم الخطاب بقوله:{مُّنتَظِرُونَ يا أَيُّهَا النبي} ،ونظير ذلك أيضاً في سورة الأحزاب في قوله تعالى:{يا أَيُّهَا النبي اتَّقِ اللَّهَ} [ الأحزاب: 1] ،ثم قال:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [ الأحزاب: 2] ،فقوله{بِمَا تَعْمَلُونَ} يدل على عموم الخطاب بقوله:{مُّنتَظِرُونَ يا أَيُّهَا النبي} ،وكقوله{وَمَا تَكُونُ في شَأْنٍ} [ يونس: 61] ،ثم قال:{وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا} [ يونس: 61] الآية .
ومن أصرح الأدلة في ذلك آية الروم ،وآية الأحزاب ،أما آية الروم فقوله تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} [ الروم: 30] ،ثم قال:{*مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} [ الروم: 31] ،وهو حال من ضمير الفاعل المستتر ،المخاطب به النَّبي صلى الله عليه وسلم في قوله:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ} ،الآية .
وتقرير المعنى: فأقم وجهك يا نبيّ الله ،في حال كونكم منيبين ،فلو لم تدخل الأمة حكماً في الخطاب الخاصِّ به صلى الله عليه وسلم لقال: منيباً إليه ،بالإفراد ،لإجماع أهل اللسان العربي على أن الحال الحقيقية أعني التي لم تكن سببية تلزم مطابقتها لصاحبها إفراداً وجمعاً وثنية ،وتأنيثاً وتذكيراً ،فلا يجوز أن تقول: جاء زيد ضاحكين ،ولا جاءت هند ضاحكات ،وأما آية الأحزاب ،فقوله تعالى في قصة زَينب بنت جَحْش الأسدية رضي الله عنها:{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} [ الأحزاب: 37] ،الآية ،فإن هذا الخطاب خاصّ بالنَّبي صلى الله عليه وسلم .
وقد صرح تعالى بشمول حكمته لجميع المؤمنين في قوله:{لكي لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} [ الأحزاب: 37] ،وأشار إلى هذا أيضاً في الأحزاب بقوله:{خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [ الأحزاب: 50] ،لأن الخطاب الخاص به صلى الله عليه وسلم في قوله:{وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا للنبي} [ الأحزاب: 50] ،الآية ،لو كان حكمه خاصاً به صلى الله عليه وسلم لأغنى ذلك عن قوله:{لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ} ،كما هو ظاهر .
وقد ردت عائشة رضي الله عنها على من زعم أن تخيير الزوجة طلاق ،بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير نساءه فاخترنه ،فلم يعده طلاقاً مع أن الخطاب في ذلك خاص به صلى الله عليه وسلم ،في قوله تعالى:{يا أَيُّهَا النبي قُل لأزواجك إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ} [ الأحزاب: 28] ،الآيتين .
وأخذ مالك رحمه الله بينونة الزوجة بالردة من قوله:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [ الزمر: 65] ،وهو خطاب خاص به صلى الله عليه وسلم .
وحاصل تحرير المقام في مسألة «شرع من قبلنا » أن لها واسطة وطرفين ،طرف يكون فيه شرعاً لنا إجماعاً ،وهو ما ثبت بشرعنا أنه كان شرعاً لمن قبلنا ،ثم بين لنا في شرعنا أنه شرع لنا ،كالقصاص ،فإنه ثَبت بشرعنا أنه كان شرعاً لمن قبلنا ،في قوله تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [ المائدة: 45] الآية ،وبين لنا في شرعنا أنه مشروع لنا في قوله:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [ البقرة: 178] ،وطرف يكون فيه غير شرعٍ لنا إجماعاً وهو أمران:
أحدهما: ما لم يثبت بشرعنا أصلاً أنه كان شرعاً لمن قبلنا ،كالمتلقي من الإسرائيليّات ،لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن تصديقهم ،وتكذيبهم فيها ،وما نهانا صلى الله عليه وسلم عن تصديقه لا يكون مشروعاً لنا إجماعاً .
والثاني: ما ثبتَ في شرعنا أنه كان شرعاً لمن قبلنا ،وبين لنا في شرعنا أنه غير مشروع لنا كالآصار ،والأغلال التي كانت على مَن قبلنا ،لأنَّ الله وضعها هنا ،كما قال تعالى:{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [ الأعراف: 157] وقد ثبت في صحيح مسلم: «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ{رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} أن الله قال: نعم قد فعلت » .
ومن تلك الآصار التي وضعها الله عنا ،على لسان نبيِّنا صلى الله عليه وسلم ما وقع لعبدة العجل ،حيث لم تقبل توبتهم إلا بتقديم أنفسهم للقتل ،كما قال تعالى:{فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [ البقرة: 54] .
والواسطة هي محل الخلاف بين العلماء ،وهي ما ثبت بشرعنا أنه كان شرعاً لمن قبلنا ،ولمن يبيِّن لنا في شرعنا أنه مشروع لنا ،ولا غير مشروع لنا ،وهو الذي قدمنا أن التحقيق كونه شرعاً لنا ،وهو مذهب الجمهور ،وقد رأيت أدلتهم عليه ،وبه تعلم أن آية:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [ المائدة: 45] ،الآية ،يلزمنا الأخذ بما تَضَمَّنته مِنَ الأحكام .
مع أن القرآن صرح بذلك في الجملة في قوله:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [ البقرة: 178] ،وقوله:{وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [ الإسراء: 33] ،وفي حديث ابن مسعود المتفق عليه المتقدم التصريح بأن ما فيها من قتل النفس بالنفس مشروع لنا ،حيث قال صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلاَّ الله وأني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني ،والنفس بالنفس » ،الحديث .
وإلى هذا أشار البخاري في صحيحه ،حيث قال: باب قول الله تعالى:{أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ،إلى قوله:{فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [ المائدة: 45] ،ثم ذكر حديث ابن مسعود المتقدم ،وقال ابن حجر: والغرض من ذكر هذه الآية مطابقتها للفظ الحديث ،ولعله أراد أن يبين أنها وإن وردت في أهل الكتاب ،فالحكم الذي دلت عليه مستمر في شريعة الإسلام فهو أصل في القصاص في قتل العمد ،ويدل لهذا قوله صلى الله عليه وسلم: «كتاب الله القصاص » أخرجه الشيخان من حديث أنس ،بناء على أن المراد بكتاب الله قوله تعالى{وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [ المائدة: 45] في هذه الآية التي نحن بصددها ،وعلى بقية الأقوال فلا دليل في الحديث ،ولم يزل العلماء يأخذون الأحكام من قصص الأمم الماضية ،كما أوضحنا دليله .
فمن ذلك قول المالكية وغيرهم: إن القرينة الجازمة ربما قامت مقام البيِّنة مستدلين على ذلك بجعل شاهد يوسف شق قميصه من دبر قرينة على صِدقه ،وكذب المرأة ،في قوله تعالى:{قَالَ هي راودتني عَن نفسي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أهلها إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [ يوسف: 26- 28] ،فذكره تعالى لهذا مقرراً له يدل على جواز العمل به ،ومن هنا أوجب مالك حد الخمر على من أستنكه فشم في فيه ريح الخمر ،لأن ريحها في فيه قرينة على شربه إياها .
وأجاز العلماء للرجل يتزوج المرأة من غير أن يراها فتزفها إليه ولائد ،لا يثبت بقولهن أمرأن يجامعها من غير بينة على عينها أنها فلانة بنت فلان التي وقع عليها العقد اعتماداً على القرينة ،وتنزيلاً لها منزلة البينة .
وكذلك الضَّيف ينزل بساحة قوم فيأتيه الصبيّ ،أو الوليدة بطعام فيباح له أكله من غير بينة تشهد على إذن أهل الطعام له في الأكل ،اعتماداً على القرينة .
وأخذا المالكيّة وغيرهم إبطال القرينة بقرينة أقوَى منها من أن أولاد يعقوب لما جعلوا يوسف في غيابة الجب ،جعلوا على قميصه دم سخلة ،ليكون الدم على قميصه قرينة على صدقهم في أنه أكله الذئب ،فأبطلها يعقوب بقرينة أقوى منها ،وهي عدم شق القميص فقال: سبحان الله متى كان الذئب حليماً كيساً يقتل يوسف ،ولا يشقُّ قميصه ؟كما بينه تعالى بقوله:{وَجَآءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [ يوسف: 18] ،وأخذ المالكيّة ضمان الغرم من قوله تعالى في قصّة يوسف وإخوته:{وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} ،وأخذ بعض الشافعية ضمان لوجه المعروف بالكفالة من قوله تعالى في قِصَّة يعقوب وبنيه{لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِى بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} [ يوسف: 66] .
وأخذ المالكية تلوُّم القاضي للخصوم ثلاثة أيام بعد انقضاء الآجال من قوله تعالى في قصة صالح:{فَقَالَ تَمَتَّعُواْ في دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} [ هود: 65] .
وأخذوا وجوب الإعذار إلى الخصم الذي توجه إليه الحكم ب «أبقيت لك حجة ؟» ،ونحو ذلك من قوله تعالى في قصة سليمان مع الهدهد:{لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّى بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [ النمل: 21] ،وأخذ الحنابلة جواز طول مدة الإجارة من قوله تعالى في قصة موسى ،وصهره شعيب أو غيره:{إني أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ عَلَى أَن تأجرني ثماني حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} [ القصص: 27] الآية ،وأمثال هذا كثيرة جداً ،وقوله تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [ المائدة: 48] ،لا يخالف ما ذكرنا ،لأن المراد به أن بعض الشرائع تنسخ فيها أحكام كانت مشروعة قبل ذلك ،ويجدد فيها تشريع أحكام لم تكن مشروعة قبل ذلك .
وبهذا الاعتبار يكون لكل شِرعة منهاج من غير مخالفة لما ذكرنا ،وهذا ظاهر ،فبهذا يتضح لك الجواب عن السؤال الأول ،وتعلم أن ما تضمنته آية{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [ المائدة: 45] ،الآية مشروع لهذه الأمة ،وأن الرجل يقتل بالمرأة كالعكس على التحقيق الذي لا شك فيه ،وكأن القائل بعدم القصاص بينهما يتشبث بمفهوم قوله:{والأنثى بالأنثى} [ البقرة: 178] ،وسترى تحقيق المقام فيه إن شاء الله قريباً .
والجواب عن السؤال الثانيالذي هو لم لا يخصص عموم النفس بالنفس بالتفصيل المذكور في قوله تعالى:{الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ والأنثى بالأنثى} [ البقرة: 178] ؟ هو ما تقرّر في الأُصول من أن مفهوم المخالفة إذا كان محتملاً لمعنى آخر غير مخالفته لحكم المنطوق يمنعه ذلك من الاعتبار .
قال صاحب [ جمع الجوامع] في الكلام على مفهوم المخالفة: وشرطه ألا يكون المسكوت ترك لخوف ونحوه ،إلى أن قال: أو غيره مما يقتضي التخصيص بالذكر ،فإذا علمت ذلك ،فاعلم أن قوله تعالى:{بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ والأنثى بالأنثى فَمَنْ} يدل على قتل الحر بالحر ،والعبد بالعبد ،والأنثى بالأنثى ،ولم يتعرض لقتل الأنثى بالذكر ،أو العبد بالحر ،ولا لعكسه بالمنطوق .
ومفهوم مخالفته هنا غير معتبر ؛لأن سبب نزول الآية ،أن قبيلتين من العرب اقتتلتا ،فقالت إحداهما: نقتل بعبدنا فلان ابن فلان ،وبأَمتنا فلانة بنت فلان تطاولا منهم عليهم ،وزعماً أن العبد منهم بمنزلة الحر من أولئك ،وأن أُنثاهم أيضاً بمنزلة الرجل من الآخرين تطاولاً عليهم ،وإظهاراً لشرفهم عليهم ،ذكر معنى هذا القرطبي ،عن الشعبي ،وقتادة .
وروى ابن أبي حاتم نحوه عن سعيد بن جبير ،نقله عنه ابن كثير في تفسيره ،والسيوطي في أسباب النزول ،وذكر ابن كثير أنها نزلت في قريظة والنضير ،لأنهم كان بينهم قتال ،وبنو النضير يتطاولون على بني قُرَيظة .
فالجميع متفق على أن سبب نزولها أن قوماً يتطاولون على قوم ،ويقولون: إن العبد منا لا يساويه العبد منكم ،وإنما يساويه الحر منكم ،والمرأة منا لا تساويها المرأة منكم ،وإنما يساويها الرجل منكم ،فنزل القرآن مبيناً أنهم سواء ،وليس المتطاول منهم على صاحبه بأشرف منه ،ولهذا لم يعتبر مفهوم المخالفة هنا .
وأما قتل الحر بالعبد ،فقد اختلف فيه ،وجمهور العلماء على أنه لا يقتل حر بعبد ،منهم مالك ،وإسحاق ،وأبو ثور ،والشافعي ،وأحمد .
وممن قال بهذا أبو بكر ،وعمر ،وعلي ،وزيد ،وابن الزبيررضي الله عنهموعمر بن عبد العزيز ،وعطاء ،والحسن ،وعكرمة ،وعمرو بن دينار ،كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني ،وغيره .
وقال أبو حنيفة: يقتل الحر بالعبد: وهو مروي عن سعيد بن المسيب ،والنخعي ،وقتادة ،والثوري ،واحتج هؤلاء على قتل الحر بالعبد ،بقوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمنون تتكافؤ دماؤهم ،وهم يد على من سواهم ،ويسعى بذمتهم أدناهم » الحديث .أخرجه أحمد ،والنسائي ،وأبو داود ،والحاكم وصححه .
فعموم المؤمنين يدخل فيه العبيد ،وكذلك عموم النفس في قوله تعالى:{أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [ المائدة: 45] ،الآية ،وقوله صلى الله عليه وسلم: «والنفس بالنفس » في الحديث المتقدم ،واستدلوا أيضاً بما رواه قتادة ،عن الحسن ،عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل عبده قتلناه ،ومن جدع عبده جدعناه » ،رواه الإمام أحمد ،وأصحاب السنن الأربعة ،وقال الترمذي: حسن غريب ،وفي رواية لأبي داود ،والنسائي: «ومن خصي عبده خصيناه » ،هذه هي أدلة من قال بقتل الحر بالعبد .
وأُجيب عنها من جهة الجمهور بما ستراه الآن إن شاء الله تعالى ،أما دخول قتل الحر بالعبد في عموم المؤمنين في حديث «المؤمنون تتكافؤ دماؤهم »:
وعموم النفس بالنفس في الآية .والحديث المذكورين ،فاعلم أولاً أنّ دخول العبيد في عمومات نصوص الكتاب والسنة اختلف فيه علماء الأصول على ثلاثة أقوال:
الأول: وعلَيه أكثر العلماء: أن العبيد داخلون في عمومات النصوص ،لأنهم من جملة المخاطبين بها .
الثاني: وذهب إليه بعض العلماء من المالكية ،والشافعية ،وغيرهم أنهم لا يدخلون فيها إلا بدليل منفصل ،واستدل لهذا القول بكثرة عدم دخولهم ،كعدم دخولهم في خطاب الجهاد ،والحج ،وكقوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [ البقرة: 228] الآية ،فالإماء لا يدخلن فيه .
الثالث: وذهب إليه الرازي من الحنفية أن النص العام إن كان من العبادات ،فهم داخلون فيه ،وإن كان من المعاملات لم يدخلوا فيه ،وأشار في [ مراقي السّعود] إلى أن دخولهم في الخطاب العام هو الصحيح الذي يقتضيه الدليل بقوله:
والعبد والموجود والذي كفر *** مشمولة له لدى ذَوي النظر
وينبني على الخلاف في دخولهم في عمومات النصوص ،وجوب صلاة الجمعة على المملوكين ،فعلى أنهم داخلون في العموم فهي واجبة عليهم ،وعلى أنهم لا يدخلون فيه إلا بدليل منفصل ،فهي غير واجبة عليهم ،وكذلك إقرار العبد بالعقوبة ببدنه ينبني أيضاً على الخلاف المذكور ،قاله صاحب [ نشر البنود شرح مراقي السعود] في شرح البيت المذكور آنفاً ،فإذا علمت هذا ،فاعلم أنه على القول بعدم دخول العبيد في عموم نصوص الكتاب والسنة ،فلا إشكال .
وعلى القول بدخولهم فيه ،فالجواب عن عدم إدخالهم في عموم النصوص التي ذكرناها يعلم من أدلة الجمهور الآتية إن شاء الله على عدم قتل الحر بالعبد ،وأما حديث سمرة فيجاب عنه من أوجه:
الأول: أن أكثر العلماء بالحديث تركوا رواية الحسن عن سمرة ،لأنه لم يسمع منه ،وقال قوم: لم يسمع منه إلا حديث العقيقة ،وأثبت علي بن المدينيّ ،والبخاري سماعه عنه .
قال البيهقي في [ السنن الكبرى] في كتاب «الجنايات » ما نصه: وأكثر أهل العلم بالحديث رغبوا عن رواية الحسن عن سمرة ،وذهب بعضهم إلى أنه لم يسمع منه غير حديث العقيقة .وقال أيضاً في باب «النهي عن بيع الحيوان بالحيوان »: إن أكثر الحفّاظ لا يثبتون سَماع الحسن من سمرة في غير حديث العقيقة .
الثاني: أن الحسن كان يفتي بأن الحر لا يقتل بالعبد ،ومخالفته لما روى تدل على ضعفه عنده ،قال البيهقي أيضاً ما نصّه: قال قتادة: ثم إن الحسن نسي هذا الحديث ،قال: لا يقتل حر بعبد ،قال الشيخ: يشبه أن يكون الحسن لم ينس الحديث ،لكن رغب عنه لضعفه .
الثالث: ما ذكره صاحب [ منتقى الأخبار] من أن أكثر العلماء قال بعدم قتل الحر بالعبد ،وتأولوا الخبر على أنه أراد من كان عبده ،لئلا يتوهم تقدم الملك مانعاً من القِصاص .
الرابع: أنه معارض بالأدلة التي تمسك بها الجمهور في عدم قتل الحر بالعبد ،وستأتي إن شاء الله تعالى مفصلة ،وهي تدل على النهي عن قتل الحر بالعبد ،والنهي مقدم على الأمر ،كما تقرر في الأصول .
الخامس: ما ادعى ابن العربي دلالته على بطلان هذا القول من قوله تعالى:{وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [ الإسراء: 33] ،وولي العبد سيده ،قال القرطبي في تفسير قوله تعالى:{الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [ البقرة: 178] الآية ما نصّه .قال ابن العربي: ولقد بلغت الجهالة بأقوام إلى أن قالوا: يقتل الحر بعبد نفسه .ورووا في ذلك حديثاً عن الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل عبده قتلناه » وهو حديث ضعيف .
ودليلنا قوله تعالى:{وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف في الْقَتْلِ} [ الإسراء: 33] ،والولي ها هنا: السيد ،فكيف يجعل له سلطان على نفسه ،وقد اتفق الجميع على أن السيد إذا قتل عبده خطأ أنه لا تؤخذ منه قيمته لبيت المال اه .
وتعقب القرطبي تضعيف ابن العربي لحديث الحسن هذا عن سمرة ،بأن البخاري ،وابن المديني صححا سماعه منه ،وقد علمت تضعيف الأكثر لرواية الحسن عن سمرة فيما تقدم ؛ويدل على ضعفه مخالفة الحسن نفسه له .
السادس: أن الحديث خارج مخرج التحذير ،والمبالغة في الزجر .
السابع: ما قيل من أنه منسوخ .
قال الشوكاني: ويؤيد دعوى النسخ فتوى الحسن بخلافه .
الثامن: مفهوم قوله تعالى:{وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [ البقرة: 178] ،ولكنا قد قدمنا عدم اعتبار هذا المفهوم ،كما يدل عليه سبب النزول .
واحتج القائلون بأن الحر لا يقتل بالعبد ،وهم الجمهور بأدلة منها ما رواه الدارقطني ،بإسناده عن إسماعيل بن عياش ،عن الأوزاعي ،عن عمرو بن شعيب ،عن أبيه ،عن جده «أن رجلاً قتل عبده متعمداً ،فجلده النَّبي صلى الله عليه وسلم ونفاه سنة ،ومحا اسمه من المسلمين ،ولم يقده به ،وأمره أن يعتق رقبة » ورواية إسماعيل بن عياش ،عن الشاميين: قوية صحيحة .
ومعلوم أن الأوزاعي شامي دمشقي ،قال في [ نيل الأوطار]: ولكن دونه في إسناد هذا الحديث محمد بن عبد العزيز الشامي ،قال فيه ابن أبي حاتم: لم يكن عندهم بالمحمود ،وعنده غرائب .
وأسند البيهقي هذا الحديث ،فقال: أخبرنا أبو بكر بن الحارث الفقيه ،أنبأ علي بن عمر الحافظ ،ثنا الحسين بن الحسين الصابونيّ الأنطاكي ،قاضي الثغور ،ثنا محمد بن الحكم الرمليّ ،ثنا محمد بن عبد العزيز الرمليّ ،ثنا إسماعيل بن عيَّاش عن الأوزاعي إلى آخر السند المتقدم بلفظ المتن ،ومُحمَّد بن عبد العزيز الرمليّ من رجال البخاري ،وقال فيه ابن حجر في [ التقريب]: صدوق يهم ،فتضعيف هذا الحديث به لا يخلو من نظر .
والظاهر أن تضعيف البيهقي له من جهة إسماعيل بن عياش ،وقد عرفتَ أن الحق كونه قوياً في الشاميين ،دون الحجازيين ،كما صرَّح به أئمة الحديث كالإمام أحمد والبخاري ،ولحديث عمرو بن شعيب هذا شاهد من حديث علي عند البيهقي وغيره من طريق إسماعيل بن عياش ،عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة ،عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين عن أبيه ،عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ،قال: أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قتل عبده متعمداً فجلده رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة ،ونفاه سنة ،ومحا اسمه من المسلمين ،ولم يقده به .ولكن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة متروك .
ومن أدلتهم على أن الحر لا يقتل بعبد ما رواه البيهقي ،وغيره عن عمر بن الخطاب ،«أنه جاءته جارية اتهِمها سيِّدها فأقعدها في النَّار فاحترق فرجها ،فقال رضي الله عنه: والذي نفسي بيده لو لم أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يقاد مملوك من مالكه ،ولا ولد من والده » ،لأَقدناها منك فبرزه ،وضربه مائة سوط ،وقال للجارية: اذهبي فأنتِ حرة لوجه الله ،وأنت مولاة الله ورسوله » .قال أبو صالح ،وقال الليث: وهذا القول معمول به .وفي إسناد هذا الحديث عمر بن عيسى القرشي الأسدي .ذكر البيهقي عن أبي أحمد أنه سمع ابن حماد يذكر عن البخاري أنه منكر الحديث .
وقال فيه الشوكاني: هو منكر الحديث ،كما قال البخاريّ: ومن أدلتهم على أن الحر لا يقتل بعبد ،ما رواه الدارقطني ،والبيهقي عن ابن عبّاس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقتل حرٌّ بعبدٍ » قال البيهقي بعد أن ساق هذا الحديث: وفي هذا الإسناد ضعف ،وإسناده المذكور فيه جٌوَيْبِر ،وهو ضعيف جداً .
وقال الشوكاني في إسناد هذا الحديث: فيه جٌوَيْبِر وغيره من المتروكين ،ومن أدلتهم على أن الحر لا يقتل بعبد ما رواه البيهقي وغيره من طريق جابر بن زيد الجعفيّ ،عن علي رضي الله عنه أنه قال: «من السُّنة ألاَّ يقتل حرٌّ بعبد » تفرد بهذا الحديث جابر المذكور ،وقد ضعّفه الأكثر ،وقال فيه ابن حجر في التقريب: ضعيف رافضيّ .
وقال فيه النسائي: متروك ،ووثقه قوم منهم الثوري ،وذكر البيهقي في السنن الكبرى في باب «النهي عن الإمامة جالساً » عن الدارقطني: أنه متروك .
ومن أدلتهم أيضاً ما رواه البيهقي في السنن الكبرى من طريق المثنى بن الصباح ،عن عمرو بن شعيب ،عن أبيه ،عن جدِّه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: كان لِزنباع عبد يسمَّى سندرا ،أو ابن سندر ،فوجده يقبل جارية له فأخذه فجبّه ،وجدع أذنيه وأنفه ،فأتى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال «من مثَّل بعبده أو حرقه بالنار فهو حر ،وهو مولى الله ورسوله » فأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ولم يقده منه ،فقال: يا رسول الله أوص بي ،فقال: «أوصي بك كل مسلم » .
فقال البيهقي بعد أن ساق هذا الحديث: المثنى بن الصباح ضعيف لا يحتج به ،وقد روي عن الحجاج بن أرطاة عن عمرو مختصراً ،ولا يحتج به ،وقد قدمنا في آية التيمم تضعيف حجاج بن أرطاة .
وروي عن سوار بن أبي حمزة ،وليس بالقويّ ،والله أعلم ،هكذا قال البيهقي .
قال مقيّده عفا الله عنه: سوار بن أبي حمزة من رجال مسلم ،وقال فيه ابن حجر في [ التقريب]: صدوق له أوهام ،ومن أدلتهم أيضاً ما أخرجه أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه قال: جاء رجل مستصرخ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ،فقال: حادثة له يا رسول الله ،فقال: «ويحك ما لك » ؟فقال: شر ،أبصر لسيِّده جارية فغار فجب مذاكيره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «علي بالرجل » ،فطلب فلم يقدر عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذهب فأنت حر » ،فقال: يا رسول الله على مَن نُصرتي ؟قال: «على كلِّ مؤمن » ،أو قال: «على كلِّ مسلم » ،ومن أدلتهم ،ما أخرجه البيهقي في السنن الكبرى عن أبي جعفر عن بكير أنه قال: مضت السنة بألا يقتل الحر المسلم بالعبد ،وإن قتله عمداً ،وعليه العقل .
ومن أدلتهم أيضاً ما أخرجه البيهقي أيضاً عن الحسن ،وعطاء ،والزهري وغيرهم من قولهم: «إنه لا يقْتل حر بعبد » وأخرج أحمد وابن أبي شيبة والبيهقي عن عمرو بن شعيب ،عن أبيه ،عن جدِّه «أن أبا بكر وعمر كانا لا يقتلان الحر بالعبد » وهذه الروايات الكثيرة ،وإن كانت لا يخلو شيء منها من مقال ،فإن بعضها يشد بعضاً ،ويقويه حتى يصلح المجموع للاحتجاج .
قال الشوكاني في [ نيل الأوطار] ما نصُّه: وثانياً بالأحاديث القاضية ،بأنه لا يقتل حر بعبد ،
فإنها قد رويت من طرق متعددة يقوي بعضها بعضاً فتصلح للاحتجاج .
قال مقيده عفا الله عنه: وتعتضد هذه الأدلة على ألا يقتل حر بعبد بإطباقهم على عدم القصاص للعبد من الحر فيما دون النفس ،فإذا لم يقتص له منه في الأطراف ،فعدم القصاص في النفس من باب أولى ولم يخالف في أنه لا قصاص للعبد من الحر فيما دون النفس إلا داود ،وابن أبي ليلى ،وتعتضد أيضاً بإطباق الحجة من العلماء على أنه إن قتل خطأ ففيه القيمة ،لا الدية .
وقيده جماعة بما إذا لم تزد قيمته عن دية الحر ،وتعتضد أيضاً بأن شبه العبد بالمال أقوى من شبهه بالحر ،من حيث إنه يجري فيه ما يجري في المال من بيع وشراء ،وإرث وهدية ،وصدقه إلى غير ذلك من أنواع التصرف ،وبأنه لو قذفه حر ما وجب عليه الحد عند عامة العلماء ،إلا ما روي عن ابن عمر والحسن ،وأهل الظاهر من وجوبه في قذف أم الولد خاصة .
ويدل على عدم حد الحر بقذفه العبد ما رواه البخاري في صحيحه ،عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: «من قذف مملوكهوهو بريء مما يقولجلد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال » ،وهو يدل على عدم جلده في الدنيا ،كما هو ظاهر .
هذا ملخص كلام العلماء في حكم قتل الحر بالعبد .
وأما قتل المسلم بالكافر فجمهور العلماء على منعه ،منهم مالك ،والشافعي ،وأحمد ،وروي ذلك عن عمر ،وعثمان ،وعلي ،وزيد بن ثابت ،ومعاوية رضي الله عنهم ،وبه قال عمر بن عبد العزيز ،وعطاء ،وعكرمة ،والحسن ،والزهري ،وابن شبرمة ،والثوري والأوزاعي ،وإسحاق ،وأبو عبيد ،وأبو ثور ،وابن المنذر ،كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني وغيره ،ورواه البيهقي عن عمر ،وعلي ،وعثمان وغيرهم .
وذهب أبو حنيفة ،والنخعي ،والشعبي إلى أن المسلم يقتل بالذمي ،واستدلوا بعموم النفس بالنفس في الآية والحديث المتقدمين ،وبالحديث الذي رواه ربيعة بن أبي عبد الرحمان ،عن ابن البيلمانيّ ،عن ابن عمر «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلماً بمعاهد » ،وهو مرسل من رواية ضعيف ،فابن البيلمانيّ لا يحتج به لو وصل ،فكيف وقد أرسل ،وترجم البيهقي في [ السنن الكبرى] لهذا الحديث بقوله باب بيان ضعف الخبر الذي روي في قتل المؤمن بالكافر ،وما جاء عن الصحابة في ذلك ،وذكر طرقه ،وبين ضعفها كلها .ومن جملة ما قال: أخبرنا أبو بكر بن الحارث الفقيه ،قال: قال أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني الحافظ ابن البيلمانيّ: ضعيف لا تقوم به حجَّة إذا وصل الحديث ،فكيف بما يرسله ،والله أعلم .
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى:{الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [ البقرة: 178] الآية ما نصه ،ولا يصح لهم ما رَوَوْه من حديث ربيعة «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قتل يوم خيبر مسلماً بكافر » لأنه منقطع ،ومن حديث ابن البيلمانيّ ،وهو ضعيف عن ابن عمر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً ،قال الدارقطني: لم يسنده غير إبراهيم بن أبي يحيى ،وهو متروك الحديث .والصواب عن ربيعة ،عن ابن البيلمانيّ مرسل عن النَّبي صلى الله عليه وسلم ،وابن البيلمانيّ ضعيف الحديث ،لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث ،فكيف بما يرسله » فإذا عرفت ضعف الاستدلال على قتل المسلم بالكافر ،فاعلم أن كونه لا يقتل به ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبوتاً لا مطعن فيه مبيناً بطلان تلك الأدلة التي لا يعول عليها .
فقد أخرج البخاري في صحيحه في باب «كتابة العلم » ،وفي باب «لا يقتل المسلم بالكافر » أن أبا جُحَيْفَة سأل علياً رضي الله عنه: هل عندكم شيء مما ليس في القرآن ؟فقال: لا ،والذي فلق الحبة ،وبرأ النسمة إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في كتابه ،وما في هذه الصَّحيفة قلت: وما في الصحيفة ؟قال: العقل ،وفكاك الأسير ،وألا يقتل مسلم بكافر .
فهذا نص صحيح قاطع للنزاع مخصص لعموم النفس بالنفس ،مبيّن عدم صحة الأخبار المرويّة بخلافه ،ولم يصحّ في الباب شيء يخالفه ،قال ابن كثير في تفسيره بعد أن ساق حديث علي هذا: ولا يصح حديث ،ولا تأويل يخالف هذا ،وقال القرطبيّ في تفسيره: قلت: فلا يصح في الباب إلا حديث البخاري ،وهو يخصص وعموم قوله تعالى:{أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [ المائدة: 45] ،الآية .وعموم قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [ البقرة: 178] .فهذا الذي ذكرنا في هذا المبحث هو تحقيق المقام في حكم القصاص في الأنفس بين الذكور والإناث ،والأحرار والعبيد ،والمسلمين والكفار .
وأما حكم القصاص بينهم في الأطراف ،فجمهور العلماء على أنه تابع للقصاص في الأنفس ،فكل شخصين يجري بينهما القصاص في النفس ،فإنه يجري بينهما في الأطراف ،فيقطع الحر المسلم بالحر المسلم ،والعبد بالعبد ،والذِّميّ بالذِّميّ ،والذكر بالأنثى ،والأنثى بالذكر ،ويقطع الناقص بالكامل ،كالعبد بالحر ،والكافر بالمسلم .
ومشهور مذهب مالك أن الناقص لا يقتص منه للكامل في الجراح ،فلا يقتص من عبد جرح حراً ،ولا من كافر جرح مسلماً ،وهو مراد خليل بن إسحاق المالكي بقوله في مختصره: والجرح كالنفس في الفعل ،والفاعل والمفعول ،إلا ناقصاً جرح كاملاً ،يعني فلا يقتص منه له ،ورواية ابن القصار عن مالك وجوب القصاص وفاقاً للأكثر ،ومن لا يقتل بقتله ،لا يقطع طرفه بطرفه ،فلا يقطع مسلم بكافر ،ولا حر بعبد ،وممن قال بهذا مالك ،والشافعي ،وأحمد ،والثوري ،وأبو ثور ،وإسحاق ،وابن المنذر ،كما نقله عنهم صاحب المغني ،وغيره .
وقال أبو حنيفة: لا قصاص في الأطراف بين مختلفي البدل ،فلا يقطع الكامل بالناقص ،ولا الناقص بالكامل ،ولا الرجل بالمرأة ،ولا المرأة بالرجل ،ولا الحر بالعبد ،ولا العبد بالحر .
ويقطع المسلم بالكافر ،والكافر بالمسلم .لأن التكافؤ معتبر في الأطراف بدليل أن الصحيحة لا تؤخذ بالشلاء ،ولا الكاملة بالناقصة ،فكذلك لا يؤخذ طرف الرجل بطرف المرأة ،ولا يؤخذ طرفها بطرفه ،كما لا تؤخذ اليسرى باليمنى .
وأُجيب من قبل الجمهور ،بأن من يجري بينهما القصاص في النفس ،يجرى في الطرف بينهما ،كالحرَّين ،وما ذكره المخالف يبطل بالقصاص في النفس ،فإن التكافؤ فيه معتبر بدليل أن المسلم لا يقتل بمستأمن ،ثم يلزمه أن يأخذ الناقصة بالكاملة ،لأن المماثلة قد وجدت ،ومعها زيادة ،فوجب أخذها بها إذا رضي المستحق ،كما تؤخذ ناقصة الأصابع بكاملة الأصابع .
وأما اليسار واليمين ،فيجريان مجرى النفس لاختلاف محلّيهما ،ولهذا استوى بدلهما ،فعلم أنها ليست ناقصة عنها شرعاً ،وأن العلة فيهما ليست ،كما ذكر المخالف ،قاله ابن قُدامة في المغني .
ومن الدليل على جريان القصاص في الأطراف ،بين من جرى بينهم في الأنفس ،قوله تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنفَ بالأنف والأذن بالأذن وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [ المائدة: 45] .
وما روي عن الإمام أحمد من أنه لا قصاص بين العبيد ،فيما دون النفس ،وهو قول الشعبي ،والثوري ،والنخعي ،وفاقاً لأبي حنيفة ،معللين بأن أطراف العبيد مال كالبهائم يرد عليه بدليل الجمهور الذي ذكرنا آنفاً ،وبأن أنفس العبيد مال أيضاً كالبهائم ،مع تصريح الله تعالى بالقصاص فيها في قوله تعالى:{وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [ البقرة: 178] .
واعلم أنه يشترط للقصاص فيما دون النفس ثلاثة شروط:
الأوّل: كونه عمداً ،وهذا يشترط في قتل النفس بالنفس أيضاً .
الثاني: كونهما يجري بينهما القصاص في النفس .
الثالث: إمكان الاستيفاء من غير حيف ،ولا زيادة ،لأن الله تعالى يقول:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [ النحل: 126] الآية ،،ويقول:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [ البقرة: 194] ،فإن لم يمكن استيفاؤه من غير زيادة سقط القصاص ،ووجبت الدية ،ولأجل هذا أجمع العلماء على أن ما يمكن استيفاؤه من غير حيف ،ولا زيادة ،فيه القصاص المذكور في الآية ،في قوله تعالى:{وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ والأنف بالأنف والأذن بالأذن وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [ المائدة: 45] ،وكالجراح التي تكون في مفصل ،كقطع اليد ،والرجل من مفصليهما .
واختلفوا في قطع العضو من غير مفصل ،بل من نفس العظم ،فمنهم من أوجب فيه القصاص نظراً إلى أنه يمكن من غير زيادة ،وممَّن قال بهذا مالك ،فأوجب القصاص في قطع العظم من غير المفصل ،إلا فيما يخشى منه الموت ،كقطع الفخذ ،ونحوها .
وقال الشافعي: لا يجب القصاص في شَيء من العظام مطلقاً ،وهو مروي عن عمر بن الخطاب ،وابن عباس ،وبه يقول عطاء ،والشعبي ،والحسن البصري ،والزهري ،وإبراهيم النخعي ،وعمر بن عبد العزيز ،وإليه ذهب سفيان الثوري ،والليث بن سعد ،وهو مشهور مذهب الإمام أحمد ،كما نقله عنهم ابن كثير ،وغيره .
وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يجب القصاص في شيء من العظام ،إلا في السِّن .
واستدل من قال بأنه لا قصاص في قطع العظم من غير المفصل ،بما رواه ابن ماجه من طريق أبي بكر بن عياش ،عن دهثم بن قران ،عن نمران بن جارية ،عن أبيه جارية بن ظفر الحنفي ،أن رجلاً ضرب رجلاً على ساعده بالسَّيف من غير المفصل فقطعها ،فاستعدى النَّبي صلى الله عليه وسلم ،فأمر له بالدية .فقال: يا رسول الله أريد القصاص ،فقال: «خذ الدية بارك الله لك فيها » ولم يقض له بالقصاص .
قال ابن عبد البر: ليس لهذا الحديث غير هذا الإسناد ،ودهثم بن قران العُكْلِيّ ضعيف أعرابي ليس حديثه مما يحتج به ،ونمران بن جارية ضعيف أعرابي أيضاً ،وأبوه جارية بن ظفر مذكور في الصحابة ،اه .من ابن كثير .
وقال ابن حجر في [ التقريب] في دهثم المذكور: متروك ،وفي نمران المذكور: مجهول ،واختلاف العلماء في ذلك ،إنما هو من اختلافهم في تحقيق مناط المسألة ،فالذين يقولون بالقصاص: يقولون: إنه يمكن من غير حيف ،والذين يقولون: بعدمه ،يقولون: لا يمكن إلا بزيادة ،أو نقص ،وهم الأكثر .
ومن هنا منع العلماء القصاص ،فيما يظن به الموت ،كما بعد الموضحة من منقلة أطارت بعض عظام الرأس ،أو مأمومة وصلت إلى أم الدماغ ،أو دامغة خرقت خريطته ،كالجائفة ،وهي التّي نفذت إلى الجوف ،ونحو ذلك للخوف من الهلاك .
وأنكر الناس على ابن الزّبير القصاص في المأمومة .وقالوا: ما سمعنا بأحد قاله قبله ،واعلم أن العين الصحيحة لا تؤخذ بالعوراء ،واليد الصحيحة لا تؤخذ بالشلاّء ،ونحو ذلك ،كما هو ظاهر .
تنبيه
إذا اقتصّ المجني عليه من الجاني ،فيما دون النفس ،فمات من القصاص ،فلا شيء على الذي اقتص منه ،عند مالك ،والشافعي ،وأحمد بن حنبل ،وهو قول الجمهور من الصحابة ،والتابعين ،وغيرهم .
وقال أبو حنيفة: تجب الدية في مال المقتص ،وقال الشعبي ،وعطاء ،وطاوس ،وعمرو بن دينار ،والحارث العُكْلٍيّ ،وابن أبي ليلى ،وحماد بن أبي سليمان ،والزهري ،والثوري ،تجب الدية على عاقلة المقتص له .
وقال ابن مسعود ،وإبراهيم النخعي ،والحكم بن عتيبة ،وعثمان البتي ،يسقط عن المقتص له قدر تلك الجراحة ،ويجب الباقي في ماله ،قاله ابن كثير .
والحقّ أن سراية القود غير مضمونة ،لأن من قتله القود ،قتله الحق ،كما روي عن أبي بكر ،وعمر ،وغيرها ،بخلاف سراية الجناية ،فهي مضمونة ،والفرق بينهما ظاهر جداً .
واعلم أنه لا تؤخذ عين ،ولا أذن ،ولا يد يسرى بيمنى ،ولا عكس ذلك ،لوجوب اتحاد المحل في القصاص ،وحكي عن ابن سيرين ،وشريك أنهما قالا بأن إحداهما تؤخذ بالأخرى ،والأول قول أكثر أهل العلم .
واعلم أنه يجب تأخير القصاص في الجراح حتى تندمل جراحة المجني عليه ،فإن اقتص منه قبل الاندمال ،ثم زاد جرحه ،فلا شيء له .
والدليل على ذلك ،ما رواه الإمام أحمد ،عن عمرو بن شعيب ،عن أبيه عن جده ،أن رجلاً طعن رجلاً بقرن في ركبته ،فجاء إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم ،فقال: «أقدني ،فقال: «حتى تبرأ » ،ثم جاء إليه ،فقال: أقدني ،فأقاده ،فقال: يا رسول الله عرجت ،فقال: «قد نهيتك فعصيتني ،فأبعدك الله وبطل عرجك » ،ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتص من جرح قبل أن يبرأ صاحبه ،تفرَّد به أحمد ،قاله ابن كثير .
وقال بعض العلماء بجواز تعجيل القصاص قبل البرء ،وقد عرفت من حديث عمرو بن شعيب المذكور آنفاً ،أن سراية الجناية بعد القصاص هدر ،وقال أبو حنيفة ،والشافعي: ليست هدراً ،بل هي مضمونة ،والحديث حجة عليهما ،رحمهما الله تعالى ،ووجهه ظاهر ،لأنه استعجل ما لم يكن له استعجاله ،فأبطل الشارع حقه .