القصة ..كمنطلق لتشريع القصاص
لقد كانت قصة ابْنَيْ آدم ،الّتي انتهت بقتل الأخ أخاه بسبب حالة الحسد الّتي سوّلت له فيها نفسه الاعتداء على حياته ،أول حادثة في تاريخ الإنسان من نوعها .وقد لاحظ التشريع كيف يمكن للنوازع الذاتيّة المنحرفة أن تكون خطراً على الحياة ،من خلال استهانتها بالقيمة الكبيرة الّتي تمثلها في ميزان القيم الإنسانيّة الروحيّة ،الّتي تفرض على كل إنسان احترام حياة الآخرين على مستوى الفرد والجماعة ،وذلك على أساس احترام الحياة في ذاتها من حيث هي سر ربانيّ يرجع فيه الأمر إلى الله الَّذي يمنح الحياة ويملك أمرها .
هذا من جانب ،ومن جانب آخر ،بما أنَّ أفراد الإنسان يجسدون حقيقة واحدة هي حقيقة هذا النوع الإنساني الَّذي أوجده الله سبحانه وتعالى لغرضٍ معين هو استخلافه في الأرض ،فإنَّ الاعتداء على حياة أيِّ فرد من أفراد هذه الحقيقة ،إنَّما هو اعتداء على هذه الحقيقة ،وإبطالٌ ضمنيٌّ لغرض الخلقة الّتي تتوسل طريقها بتكثير الأفراد عن طريق الاستخلاف .وهذا ما أشار إليه هابيل بقوله الَّذي خاطب به أخاه:{مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} ،فأشار إلى أنَّ القتل بغير الحقّ منازعة للربوبية .
بناءً على هذا كلّه ،لا يجوز لأحد أن يعتدي بالموت على حياة أي فردٍ من الأفراد إلاَّ بأمره تعالى ،كما في الحالات الّتي أباح الله فيها قتل القاتل قصاصاً ،أو المفسد في الأرض من أجل تخليص النَّاس من فساده ،أمَّا في غير هذه الموارد ،كما لو لم يصدر من الإنسان أي سبب يشكل خطراً على الحياة ،بل كل ما هناك أنَّه أخطأ في كلمة أو حركة أو علاقة عادية ،فإنَّ الله لم يبح دمه لأحد .ولأجل ما تقدم ،ولأجل ما كشفته حادثة هابيل وقابيل ،{مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائيلَ} الَّذين بدأت معهم الشّريعة التّفصيليّة بما أنزله على موسى( ع ) ،وذلك لأنَّ الجو الَّذي يُراد إثارته ،ليس هو الحديث عن الكم ،بل الحديث عن الكيف والنوع والأساس .فإذا كنت تبرّر لنفسك أن تقتل إنساناً بسبب النوازع الذاتيّة المنحرفة ،فإنَّ ذلك يبرر لك التصرف بالأسلوب نفسه في جميع الحالات الأخرى المماثلة ،وذلك لعدم الفرق بين حالة وحالة ،أو لأنَّ الاعتداء على الفرد هو اعتداءٌ على النوع في الحقيقة لاشتراك عموم الأفراد في هذه الحقيقة وغرضها في الحياة .{وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} لأنَّ الشخص الَّذي يحترم الحياة فينقذها من نفسه ،بما تدفعه إليه نوازعه الشخصيَّة ،أو يخلصها من غرق أو من حرق أو من غير ذلك ،هو إنسان يؤمن بالحياة كقيمةٍ إنسانيّةٍ كبيرة ،ويؤمن بمسؤوليته عن حمايتها من الهلاك .
وتلك هي قصة التشريع الَّذي لا يستهدف التأكيد على الحالة الفرديّة في نطاقها المحدود ،بل يهدف إلى أن تكون الحالة تعبيراً عن فكرةٍ في الفكر ،وقيمةٍ في الروح ،وإحساسٍ في الشعور ،وبالتالي أن تكون حالة إنسانيّة في عمق المعنى الإنساني الَّذي يطبع الشخصيّة بطابعه الأصيل الممتدّ .وفي ضوء ذلك ،تبطل الإشكالات الّتي تتساءل عن السر في تهوين قتل النَّاس جميعاً بتشبيهه بقتل شخص واحد ،إذ إنَّ هذا التساؤل يوحي بعدم الفهم للآية ،لأنَّها تدلّ على المعنى الَّذي يختفي وراء قتل الفرد ،وتؤكّد أنَّه يلتقي مع المعنى الَّذي يختفي وراء قتل الجميع ،من حيث التقائهما عند معنى الاستهانة بالحياة كمبدأ ،مع الالتزامطبعاًبأنَّ تكرير المبدأ في عدة حالات وأفراد يثير مشاكل أكبر مما يثيره وقوفه على حالةٍ واحدة في معرض بحث التفاصيل .
وجاء في الحديث عن الإمام الباقر( ع ) في ما رواه الكافي ،مرفوعاً إلى محمَّد بن مسلم ،قال: «سألت أبا جعفر )ع( عن قول الله عزَّ وجلّ:{مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} ؟قال: له في النَّار مقعد لو قتل النَّاس جميعاً لم يرد إلاَّ إلى ذلك المقعد » .
وفي هذه الرِّواية دلالة على أنَّ الإنسان يعذب على القتلمن حيث المبدأباعتباره الجريمة الّتي تقتل الحياة ،فيعاقب على ذلك بقطع النظر عن عدد الَّذين يقتلهم .ولا مانع من أن يضاعف عليه العذاب من جهة أخرى ،ولكن في المكان نفسه ،كما جاء في رواية أخرى: عن حمران ،قال: «قلت لأبي جعفر( ع ): ما معنى قول الله عزَّ وجلَّ:{مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} ؟قال: قلت: وكيف فكأنَّما قتل النَّاس جميعاً فإنَّما قتل واحداً ؟فقال: يوضع في موضع من جهنم إليه ينتهي شدة عذاب أهلها ،لو قتل النَّاس جميعاً إنَّما كان يدخل ذلك المكان ،قلت: فإن قتل آخر ؟قال يضاعف عليه » .
وهكذا ،ختمت الآية بالحديث عن التاريخ الَّذي عاشه هؤلاء الَّذين كتب الله عليهم هذه الشريعة ،{وَلَقَدْ جاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالّبَيِّنَاتِ} الّتي تفصِّل لهم الخطط الكبيرة الّتي تنظم لهم حياتهم وتحفظها من كل عدوان ،{ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} قد تجاوزوا تلك الحدود وأسرفوا في عصيانهم ،ولم يقفوا عند حدود الله في ما أمرهم به أو نهاهم عنه .
كيف نستوحي الآية ؟
تحمل هذه الآية قضيّة مهمة ،ألا وهي قضيّة الحياة والموت الّتي قد تتمثل في حياة الجسد وموته ،أو في حياة الروح وموتها في المشاعر الروحيّة ،الّتي قد تستيقظ في داخل النفس على المعاني الإنسانيّة لتبعثها أو لتجمّدها ،أو في حياة الفكر وموته في ما يتعلق بضلاله وهداه ،أو بجهله وعلمه ،باعتبار أنَّ الضلال موتٌ والهدى حياة ،لما قد يعطيه الضلال من جمود ،في مقابل ما يعطيه الهدى من حيويّة وانطلاق ،كما أنَّ الجهل موتٌ لما يخلقه في النفس من معاني التخلُّف والجمود في مقابل العلم الَّذي يحقّق لها الانطلاق والحركة في آفاق الحياة .ومن هنا ،فإنَّه من الممكن استيحاء الآية من خلال معانيها القريبة والبعيدة .
أولاً: جاء عن الإمام الباقر( ع ) في ما رواه عنه الفضيل بن يسار قال: «قلت لأبي جعفر( ع ) قول الله عزَّ وجلّ في كتابه:{أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} قال: من حرق أو غَرق ،قلت: فمن أخرجها من ضلال إلى هدى ؟فقال: ذلك تأويلها الأعظم » .
ثانياً: عن عثمان بن عيسى ،عن سماعة ،عن أبي عبد الله ( ع ) قال: «قلت له: قول الله تبارك وتعالى:{وَمَنْ أَحْيَهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} ؟فقال: من أخرجها من ضلال إلى هدى فقد أحياها ومن أخرجها من هدى إلى ضلال فقد قتلها » .
ثالثاً: عن محمَّد بن يحيى ،عن أحمد بن محمَّد بن خالد ،عن النضر بن سويد ،عن يحيى بن عمران الحلبي ،عن أبي خالد القماط ،عن حمران ،قال: «قلت لأبي عبد الله( ع ): أسألكأصلحك الله؟فقال: نعم ،فقلت: كنت على حال ،وأنا اليوم على حال أخرى ،كنت أدخل الأرض فأدعو الرّجل والاثنين والمرأة فينقذ الله من شاء ،وأنا اليوم لا أدعو أحداً .فقال: وما عليك أن تخلّي بين النَّاس وبين ربِّهم ،فمن أراد الله أن يخرجه من ظلمةٍ إلى نور أخرجه .ثُمَّ قال: ولا عليك إن آنست من أحدٍ خيراً أن تنبذ إليه الشيء نبذاً ،قلت: أخبرني عن قول الله عزَّ وجلّ:{وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} قال: من حرق أو غرق ،ثُمَّ سكت ،ثُمَّ قال: تأويلها الأعظم إن دعاها فاستجابت له » .
معنى التأويل
ويمكن لنا من خلال الرِّوايات فهم «التأويل » بمعناه الحقيقي ،لا الباطني كما يحاول البعض تفسيره ،فالقرآن قد أنزل على طريقة العرب في التعبير ،ليفهمه الجميع بشكل طبيعي ،من دون أن تكون فيه أيّة إشارات رمزية ،في ما تعارف عليه الأسلوب الرمزي الَّذي يحمِّل الكلمة غير معناها ،ويجري بها في غير مجالها ،من دون أساس للاستعارة والكناية والمجاز ،لذا فإنَّ التأويل ليس إلاَّ عمليّة اسيتحاء للمعنى من خلال التقاء المعاني ببعضها البعض في الأهداف الّتي يستهدفها القرآن في القضايا الّتي يثيرها أمام النّاس ،والمفاهيم الّتي يوحيها إليهم ،كما في هذه الآية الّتي تحدثت عن الحياة والموت ،وعن النّاس الَّذي يعتدون على الحياة ،وعن أولئك الَّذين ينقذونها .فقد يستوحي منها الإنسان الفكرة فيمن ينقلون النَّاس من الضلال إلى الهدى ،أو بالعكس ،أو فيمن ينقلونهم من الجهل إلى العلم أو بالعكس ،وذلك لأنَّ الله قد أشار إلى ذلك بقوله تعالى:{يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [ الأنفال: 24] ،كما عبّر عن الَّذين يعيشون الضلال في واقعهم بالموتى في قوله تعالى:{إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ} [ النمل: 80] .وهكذا يمكن لعمليّة الاستيحاء هذه أن تأخذ من الحياة والموت كل الأجواء الّتي تشارك هذين المعنيين في تحويل الإنسان من حالة الجمود والهمود ،إلى حالة اليقظة والحركة على مستوى الفكر والعمل والحياة ...