( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا ) النداء للمؤمنين بالوصف الذي ميزوا به ، واختصوا به دون الناس ، وهو مناط رفعتهم وجامع وحدتهم ، وإذا كان الدين هو الجامع لهم فالذين يسخرون منه ، ويستهزئون به يصيبونهم في صميم ما عليه يجتمعون و به يعملون ، وفي سبيله قدموا ويقدمون الفداء والمعنى:يا أيها الذين اتصفوا بالإيمان لا تتخذوا نصراء وأحبابا أولئك الذين يسخرون من دينكم بجعله لعبة يلعبون بها ، ومسلاة يتسلون في عبثهم بها ، ويستهزئون به مستخفين فهذا النص تحريض على عدم الانتماء إليهم بذكر ما هو سر اجتماعهم ، وفيه إشارة جلية إلى أنهم لا يمكن أن يكونوا نصراء يريدون العزة لهم ، لأن ما به عزتكم واجتماعكم يتخذونه سخرية يلهون به ويعبثون .
وهنا مباحث لفظية في بيانها تقريب لمعنى النص السامي .
أول هذه المباحث – التفرقة بين الهزء واللعب ، فهما في النص الكريم معطوف أحدهما على الآخر ، وبمقتضى هذا العطف هما متغايران ، وإن كانا ينتهيان إلى معنى واحد ، وهو السخرية بالاستهزاء ، والعبث فهم يسخرون من الدين ويسخرون من أهله ، ويستهزئون بأهله ، ويتعابثون به ويلعبون بحقائقه .
والهزء معناه المزح في الخفة ، أو المزح في مقام الجد للسخرية بموضوعه ، والعبث به ، وقد يكون بالقيام بظاهر بعض الأعمال ،وهو يخفى نقيضها ، كما قال سبحانه وتعالى عن المنافقين ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون14 ) ( البقرة ) .
وعلى هذا يكون معنى الاستهزاء أو الهزء مشتملا على معاني الاستخفاف والتهكم ، والمزح العائب .
واللعب أصل معناه من لعاب الطفل ، ويقال عن الطفل لعب بفتح العين إذا سال لعابه ، ومعناه – على العموم – العمل الذي لا يقصد به نفع ، ولا طلب ثمرة بل يقصد به مجرد إزجاء الفراغ والتسلية .
والمعنى الجملي للفظين:أنهم يسخرون من الدين باتخاذه موضع استهزاء ومزح ، وموضع لعب وعبث لا يقصدون نحوه بشيء إلا بما يقصد به اللاعب للعبته وهذا أبعد ما تكون عليه الاستهانة ،فهل يجوز لمؤمن أن يقبل موالاة هؤلاء ، وهو لا يزال على صفة الإيمان .
وقد وصف عملهم بأنهم اتخذوا الدين هزوا ، أي جعلوه هزوا ولعبا ، أي جعلوه مستهزئا يمزحون به ولعبة يلعبون بها ، وقد قدر بعض العلماء محذوفا ، وهو أن يكون موضع استهزاء ولعب .
المبحث الثاني من المباحث اللفظية
– قوله تعالى:( من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء ) و ( من ) هنا بيانية فيها بيان لأولئك الذي يستهزئون ويلعبون بدين الله دين الحق ، وهم اليهود والنصارى وعبر عنهم ب ( أوتوا الكتاب ) لأن أصل شرعهم ينتمي إلى كتاب منزل وإن حرفوا فيه الكلم عن مواضعه وغيروا وبدلوا ونسوا حظا مما ذكروا به ، وهم كفار وليس كفر أعظم من كفر ، إلا أن تكون بقية علم عندهم ، وهي لا تجعل لهم مقاما أدنى في الكفر ، ولو كانت في الإمكان التلاقي في بعض المعلومات الدينية التي لم يعبثوا بها .
وقد تكلم العلماء فقال الأكثرون:إن الكفار هم المشركون وأطلق عليهم الكفار دون إطلاقه على أهل الكتاب وقد علله بعضهم بأن كفرهم أشد ، وعندي أنهم جميعا كفار ، لقوله تعالى:( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة1 ) ( البينة ) . وليس كفرهم أعظم من كفر أهل الكتاب لأن كفرهم عن جهل وكفر المشركين عن علم ولا يمكن أن يكون الجهل عنصرا مشددا والعلم عنصرا مخففا ولكن ذكروا بوصف الكفار ، لأنه لا وصف لهم غيره إذا لم يؤتوا بكتاب .
على أننا نرى أن عطف الكفار على أهل الكتاب من باب عطف العام على الخاص ، فكلمة كفار تشمل كل كافر بمحمد صلى الله عليه وسلم ، على أنه خص أهل الكتاب بالذكر لانه الموضوع من الأصل في عدم موالاة المؤمنين لليهود والنصارى ، ثم عمم الحكم على الجميع ممن كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم .
المبحث الثالث- في قوله تعالى:( واتقوا الله إن كنتم مؤمنين ) .
وكان الأمر بالتقوى في هذا المقام ، للإشارة إلى أن ذلك هو الحصن الحصين الذي يغني عن طلب الأولياء لأن معنى التقوى اتخاذ الله سبحانه وتعالى وقاية دون شر الأشرار إذ إن النصرة لا تكون إلا منه ، وهو المعاذ والملجأ والناصر والولي ، ولأن اجتلاء النفس بتقوى الله تعالى وخشيته تجعل كل قوي مهما تكن سطوته لا يصل إلى إضعاف قلب مؤمن ، ولأن اتخاذ غير الله تعالى وليا ينافي تقوى الله ، واستشعار عظمته وجبروته سبحانه .
وقد بين سبحانه أن ذلك وصف أهل الإيمان ولذلك قال سبحانه:( إن كنتم مؤمنين ) . وقد أخذ سبحانه يبين بعض أوقات استهزائهم ، قال سبحانه: