( وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ) هذا تصوير لبعض مواضع استهزائهم ،ولعبهم بالدين ، وقد صور الله حالهم في أمر واقع ، وهو عند النداء للصلاة ، أي نداء المسلمين بالصلاة ، وهو الأذان ، وليس مجرد النداء ، وكان موضع استهزائهم الصلاة ، والدعوة إليها بالأذان ، فالضمير في قوله تعالى:( اتخذوها هزوا ) يعود إلى الصلاة ومقدمة الصلاة وهو الدعوة إليها ، وقد روي أنهم اتخذوها هزوا ولعبا ، فمنهم من كان يتخذ النداء أداة استخفاف بمحاكاة صوت المؤذن واللعب بتقليده تهكما وتعابثا ، ومنهم من اتخذ شكل الصلاة الإسلامية موضع تعابث وسخرية واستهزاء .
فقد روى الإمام أحمد – رضي الله تعالى عنه – في مسنده أن عبد الله ابن محيريز وكان يتيما في حجر أبي محذورة ، وقد كان أبو محذورة من مؤذنى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ساله ابن محيريز عن تأذينه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:سمعنا صوت المؤذن ونحن متنكبون فصرخنا نحكية ، ونستهزئ به فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:( أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع ، فاشار القوم كلهم إلي ، وصدقوا ، فارسلهم ، وحبسني اليه ، وقال:( قم فأذن ) ثم علمه الرسول عليه السلام الأذان وقال له:( بارك الله فيك ، وبارك عليه ) فهداه الله تعالى ، وصار مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، وهكذا ابتدأ كافرا مستهزئا بالأذان ساخرا منه ، وانتهى مؤمنا صادقا مؤذنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم{[957]} .
وروى أن اليهود كانوا إذا قامت الصلاة صلوا مع المسلمين استهزاء ونفاقا ومنهم من كان يقول للرسول عندما يرى الركوع والسجود:يا محمد لقد ابتدعت شيئا لم يسمع فيما مضى ، فإن كنت نبيا فلم خالفت فيما أحدثت جميع الأنبياء ، وكانوا مع ذلك يتحاكون ويتخذون من شكل الصلاة الإسلامية موضوعا لسخرياتهم وعبثهم ، ولقد علل الله تعالى ذلك بقوله سبحانه:
( ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ) الإشارة هنا إلى ما كان منهم من استهزاء وسخرية واتخاذ الأعمال الإسلامية لعبة يتلاعبون بها ، والمعنى:أن هذا الذي كان منهم سببه أن أحلامهم قد سفهت ، وصاروا لا يدركون الأمور على وجهها فلا يفكرون في الأمور تفكير العقلاء الذين يتدبرون بعقولهم ، وقد قام لديهم البرهان العقلي القاطع ، والدليل الساطع على أن ما جاء به محمد لا يقبل الإنكار لمن يفكر بعقله ، ويتدبر في مبادئ الأمور وعواقبها .
ولماذا كان اليهود وبعض النصارى على هذه الشاكلة يتصرفون تصرف من عقل لاعنده ، إذ يطمسون الحقائق ، ويسخرون مما لا سخرية فيه ؟ الجواب عن ذلك أنه قد طمس على قلوبهم ، والحقد قد ران على مداركهم ، فأصبحوا لا يدركون ما يوجبه العقل السليم ،والفكر المستقيم ، ولا شيء يذهب بلب اللبيب وإدراك العقل السليم أكثر من الحقد ذلك بأن تمنى الشر ، وحسد غيره على ما في يده من نعمة ، وما آتاه الله تعالى من خير يلقى حجابا على عقله فلا يدرك ، وعلى قلبه فلا يؤمن ولذا قال سبحانه من بعده:( قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله )