ثم بين استهزاءهم بحكم خاص من أحكام الدين ،بعد استهزائهم بالدين على الإطلاق ،إظهارا لكمال شقاوتهم ،بقوله سبحانه:
[ 58]{ وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ( 25 )} .
{ وإذا ناديتم إلى الصلاة} أي:دعوتم إليها بالآذان{ اتخذوها} أي:الصلاة أو المناداة{ هزوا ولعبا} بأن يستهزئوا بها ويتضاحكوا{ ذلك} أي الاتخاذ{ بأنهم} أي بسبب أنهم{ قوم لا يعقلون} أي:معاني عبادة الله ،فإن السفه يؤدي إلى الجهل بمحاسن الحق والهزء به ،ولو كان لهم عقل في الجملة لما اجترأوا على تلك العظيمة .فإن الصلاة أكمل القربات ،وفي النداء معان شريفة من تعظيم الله باعتبار ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله .ومن ذكر توحيده باعتبار ذاته ،وباعتبار عدم مغايرة أسمائه وصفاته ،ومن تعظيم رسوله باعتبار قيامه بمصالح المعاش والمعاد ،ومن الصلاة من حيث هي وصلة ما بين العبد وبين الله ،ومن حيث إفادتها معالي الدرجات ،ومن تعظيم مقصده وهو الفلاح في الظاهر والباطن ،وما هو غاية مقصده من القرب من الله باعتبار عظمة ظاهره وباطنه ،ومن الوصول إلى توحيده الحقيقي .أفاده المهايمي .
/ تنبيهات:
الأول:في آثار رويت في هذه الآية:
روى أبو الشيخ ابن حبان عن ابن عباس قال: "كان رفاعة بن زيد بن التابوت ،وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ونافقا ،وكان رجل من المسلمين يوادهما ،فأنزل الله{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا ...} الآية ".
وروى ابن جرير{[3103]} وابن أبي حاتم عن السدي: "في قوله تعالى:{ وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا} قال:كان رجل من النصارى بالمدينة ،إذا سمع المنادي ينادي:أشهد أن محمدا رسول الله .قال:حرق الكاذب .فدخل خادمه من الليالي بنار ،وهو نائم وأهله نيام ،فسقطت شرارة فأحرقت البيت ،فاحترق هو وأهله ".
وذكر محمد{[3104]} بن إسحاق بن يسار في ( السيرة ): "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة عام الفتح ومعه بلال فأمره أن يؤذن .وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحرث بن هشام جلوس بفناء الكعبة .فقال عتاب بن أسيد:لقد أكرم الله أسيدا أن لا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه .لو تكلمت لأخبت عني هذه الحصى .فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال:قد علمت الذي قلتم .ثم ذكر ذلك لهم .فقال الحرث وعتاب:نشهد أنك رسول الله .والله! ما أطلع على هذا أحد كان معنا ،فنقول أخبرك ".
وروى الإمام أحمد{[3105]} عن عبد الله بن محيريز- وكان يتيما في حجر أبي محذورة- قال:/"قلت لأبي محذورة:يا عم! إني خارج إلى الشام .وأخشى أن أسال عن تأذينك .فأخبرني ؛ أن أبا محذورة قال له:نعم! خرجت في نفر فكنا ببعض طريق حنين ،فقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق .فأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فسمعنا صوت المؤذن ونحن متنكبون .فصرخنا نحكيه ونستهزئ به فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصوت فأرسل إلينا ،إلى أن وقفنا بين يديه .فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع ؟ فأشار القوم كلهم إلي ،وصدقوا .فأرسل كلهم وحبسني فقال:قم فأذن .فقمت ولا شيء أكره إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مما يأمرني به ،فقمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .فألقى إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين هو نفسه فقال:قل:الله أكبر ،الله أكبر .أشهد أن لا إله إلا الله ،أشهد أن لا إله إلا الله .أشهد أن محمدا رسول الله ،أشهد أن محمدا رسول الله .حي على الصلاة ،حي على الصلاة .حي على الفلاح ،حي على الفلاح .الله أكبر ،الله أكبر ،لا إله إلا الله .ثم دعاني حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شيء من فضة .ثم وضع يده على ناصية أبي محذورة .ثم أمرها على وجهه مرتين .ثم مرتين على يديه .ثم على كبده .ثم بلغت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم سرة أبي محذورة .ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:بارك الله فيك .فقلت:يا رسول الله! مرني بالتأذين بمكة .فقال:قد أمرتك به .وذهب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهية ،وعاد ذلك كله محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقدمت على عتاب بن أسيد ،عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فأذنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
الثاني:دلت الآية على وجوب موالاة المؤمنين ومعاداة الكفار .والمراد به في أمر الدين ،كما تقدم .
الثالث:دلت الآية على أن الهزء بالدين كفر ،وأن هزله كجده .
قال في ( الإكليل ):الآية أصل في تكفير المستهزئ بشيء من الشريعة .
الرابع:دلت على أن للصلاة نداء وهو الآذان ،فهي أصل فيه .
قال الزمخشري:قيل:فيه دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب ،لا بالمنام وحده .
ولما نهى تعالى عن تولي المستهزئين ،أمر أن يخاطبوا بأن الدين منزه عما يصحح صدور ما صدر عنهم من الاستهزاء ،ويظهر لهم سبب ما ارتكبوا ويلقموا الحجر ،بقوله تعالى: