/م57
والآية الثّانية من الآيتين الأخيرتين تتابع البحث في النهي عن التودد إلى المنافقين وجماعة من أهل الكتاب الذين كانوا يستهزئون بأحكام الإِسلام ،وتشير إلى واحد من ممارساتهم الاستهزائية دليلا وشاهداً على هذا الأمر ،فتقول: ( إِذا ناديتم إلى الصّلاة اتّخذوها هزواً ولعباً ...){[1077]} .
بعد ذلك تبيّن الآية الكريمة دوافع هذا الاستهزاء ،فتذكر أنّ هذه الجماعة إِنّما تفعل ذلك لجهلها وابتعادها عن الحقائق ،فتقول: ( ذلك بأنّهم قوم لا يعقلون ) .
الأذان شعار إسلامي كبير:
إِنّ لكل أُمّةفي أي عصر أو زمان كانتشعارا خاصا بها تنادي به أفرادها وتستحث به همهم للقيام بواجباتهم الفردية والاجتماعية ،ويشاهد هذا الأمر في عالمنا الحاضر بصورة أوسع .
قالمسيحيون ينادون قومهم ويدعونهم لحضور الصّلاة في الكنائس بدق الناقوس وهذه هي طريقتهم وشعارهم سابقاً وحاضراً .
والإِسلام جاء بالأذان شعاراً لدعوة المسلمين ،حيث يعتبر هذا الشعار أكثر تأثيراً وجاذبية في نفوس الناس قياساً بشعارات الديانات والأُمم الأُخرى ،فقد ذكر صاحب تفسير ( المنار ) أنّ بعض المسيحيين المتطرفين حين يستمعون إلى أذان المسلمين لا يجدون بدا من أن يعترفوا بتأثيره المعنوي العظيم في نفوس سامعيه ،وينقل صاحب المنارأيضاًأنّ بعضهم في إِحدى مدن مصر شاهد جماعة من النصارى كانوا قد اجتمعوا أثناء أذان المسلمين للاستماع إلى هذا اللحن السماوي .
فأي شعار أقرب إلى الذوق وآنس إلى الأسماع من شعار يبدأ بذكر اسم الله ويشهد بتوحيده ووحدانيته وبنبوة رسول الإِسلام( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،ويدعو إلى الفلاح والعمل الصالح ،وينتهيكذلكبذكر الله !!فبدايته اسم «الله » وختامه اسم ( الله ) في جمل موزونة متناغمة ،ذات عبارات قصيرة واضحة المعنى وذات محتوى تربوي بنّاء .
ولذلك أكّدت الرّوايات الإِسلامية كثيراً على ضرورة أداء الأذان ،فقد ورد عن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) حديث معروف في هذا المجال ،أنّه قال: «المؤذنون أطول النّاس أعناقاً يوم القيامة »{[1078]} وهذا العلو هو نفس علو منزلة القيادة التي تدعو الناس إلى الله وإلى عبادة كالصّلاة .
إِنّ صوت الأذان الذي ينطلق في أوقات الصّلاة من مآذن المدن الإِسلامية بمثابة نداء الحرية والنسيم الذي يهب الحياة لروح الاستقلال والمجد ،ويدغدغ أذان المسلمين الأبرار ويثير الرعب والخوف في نفوس الأعداء الحاقدين ،ويعتبر رمزاً من رموز بقاء الإِسلام ،والدليل على هذا الأمر اعتراف أحد رجالات انجلترا المعروفين الذي قال أمام جمع من المسيحيين: مادام اسم النّبي محمّد( صلى الله عليه وآله وسلم )يرفع على المآذن ،وما دامت الكعبة باقية ومادام القرآن يهدي ويوجه المسلمين ،فلا يمكن أن تترسخ قواعد سياسة الإِنجليز في الأراضي الإِسلامية{[1079]} .
وبالرّغم من ذلك فانّ بعض المسلمين البؤساء أزاحوا مؤخراً هذا الشعار الإِسلامي العظيمالذي هو سند ومستمسك حيّ على صمود ومقاومة دينهم وثقافتهم على مر العصورمن إذاعاتهم ووضعوا مكانه برامج رخيصة ،نسأل الله أن يهدي هؤلاء للعودة إلى صفوف المسلمين .
ومن الطبيعي أنّ الأذانلفحواه ومحتواه الجميل البديعيحتاج أداءه إلى صوت مقبول ،لكي لا يشوّه الأداء غير المستساغ هذا المحتوى الجميل الجذاب .
نزول الأذان وحياً على النّبي:
وردت في بعض الرّوايات المنقولة من طرق أهل السنة قصص غريبة حول تشريع الأذان لا تتناسب ولا تتلاءم مع المنطق الإِسلامي ،وممّا نقلوا في هذا الباب أن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد أن سأله أصحابه عن ايجاد طريقة لمعرفة أوقات الصّلاة ،استشار الصحابة ،فقدم كل منهم اقتراحاً ،ومن ذلك رفع علم خاص في أوقات الصّلاة أو اشعال نار ،أو دق ناقوس ،لكن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يوافق على أي من هذه الاقتراحات ،ثمّ أن عبد الله بن زيد وعمر بن الخطابرأيا في المنامشخصاً يأمرهما بأداء الأذان لإِعلان وقت الصّلاة ،وعلمهما كيفية هذا الأذان ،فقبل النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ذلك{[1080]} .
إِنّ هذه الرواية المختلقة تعتبر اهانة لمنزلة النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) الرفعية ،حيث تدّعي أن النّبيبدلا من أن يعتمد على الوحياستند على حلم رآه أفراد من أصحابه في تشريع الأذان .
والصحيح في هذا الباب ما ورد في روايات أهل البيت( عليهم السلام ) من أن الأذان نزل وحياً على النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،يحدثنا الإِمام الصّادق( عليه السلام ) أنّ النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان واضعاً رأسه في حجر علي( عليه السلام ) حين نزل جبرائيل بالأذان والإِقامة ،فعلّمهما للنبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثمّ رفع النّبي رأسه وسأل عليّاً إن كان قد سمع صوت أذان جبرائيل ،فردّ علي( عليه السلام )بالإِيجاب ،فسأله النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) مرّة ثانية إِن كان قد حفظ ذلك ،فردّ علي( عليه السلام )بالإِيجاب أيضاًثمّ طلب النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) من علي( عليه السلام ) أن ينادي بلالاالذي كان يتمتع بصوت جيدويعلمه الأذان والإِقامة ،فاستدعى علي( عليه السلام ) بلالا وعلمه الأذان والإِقامة{[1081]} .
وللاستزادة من التفاصيل في هذا الباب يمكن مراجعة كتاب ( النص والإِجتهاد ) للسيد عبد الحسين شرف الدينص 128 .