( وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان ) .
في هذا النص توجيه النبي صلى الله عليه وسلم على ما عليه كثير من اليهود من مفاسق ومفاجر وعدوان ، وقد كانت عبارات التنبيه موجهة واضحة وموضوعها بين يرى بالعين أو بما يشبه العين لوضوحه ،فأنت ترى الكثيرين منهم يخوضون في الشر خوضا لا يرعوون ولا يجتنبون سواءا بل يقدمون على كل حرب وشر .
وحكم الله تعالى عدل دائم ، وينبه سبحانه إلى العدل في الأحكام فهو سبحانه لم ينبه النبي – عليه السلام – إلى أنهم جميعا فيهم الشر مستحكم ، بل في الكثير ، لا في الكل ، ولا في القليل ، ومعنى المسارعة في الإثم والعدوان ، المعاجلة وعدم التردد ، فهم لا يترددون في ارتكاب الإثم والعدوان ، وربما يترددون كل التردد في الخير ونفع الناس لذات النفع ، والتعدية بفي تشير إلى أنهم مغمورون في الآثام ينتقلون فيها مسارعين من حال إلى شر منه ،فهم يرتعون فيها دائما .
وقد تكلم العلماء في معنى الإثم والعدوان ، فقال بعضهم:الإثم هو الكذب والعدوان هو تعدي حدود الله تعالى ، والاعتداء على محارمه .
ولكن ابن جرير الطبري فسر الإثم بالمعاصي ، والعدوان بالتعدي ،أو ما يتجه نحو ذلك .
والذي نراه أن الإثم كما هو الأصل اللغوي له في الجملة هو ما يبطئ عن الخير ، والكذب إثم لأنه يبطئ عن فعل الخير ، فالإثم هو ما عند اليهود
من تباطؤ عن الخير ، وعصيان للأوامر التي يكون في أدائها نفع الناس ، والنص يبين أن هؤلاء يعملون أعمالا من شأنها أن تبطئ عن فعل الخير ، ويعوقونه ، وهم مع ذلك يعتدون على غيرهم ،فهم محرمون من الخير سلبا وإيجابا لا يفعلونه ويفعلون نقيضه ، والله تعالى من ورائهم محيط .
وإنهم لفساد نفوسهم ، واستيلاء الشر على قلوبهم فسدت مداركهم حتى أنهم يحسبون أن ما يفعلونه من آثام وعدوان هو خيرا ، وهو فساد في الأرض عظيم ، ولذلك عبر سبحانه عن عملهم السوء في عجلة وتسرع من غير مواناة بالمسارعة مع أن أكثر استعمال المسارعة في الخير ، كما قال تعالى:( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين133 ) ( آل عمران ) وكما قال تعالى:(. . .ويسارعون في الخيرات . . .114 ) ( آل عمران )وقوله:( نسارع لهم في الخيرات . . .56 ) ( المؤمنون ) وذلك لأنهم يحسبونه خيرا فعبر عنه باللفظ الذي يدل على الخير ، إذ إنهم لفساد قلوبهم يأثمون ويؤذون ويحسبون أنهم يحسنون صنعا ، وأوضح اعتداءاتهم على الناس أكلهم أموالهم بالباطل ولذلك قال سبحانه عاطفا على سوء عملهم:( وأكلهم السحت ) .
السحت:ما يستأصل من قشور الأشياء وسحته معناه استأصله ، والسحت والإسحات الاستئصال كما قال تعالى:(. . .فيسحتكم بعذاب . . .61 ) ( طه ) وقد أطلق السحت على كل محظور لأنه يستأصل أخذه كل علاقة اجتماعية تربط الناس بعضهم ببعض وتفسد أمورهم كالربا ، والرشوة ، واخذ الأموال بالغش والتزوير والنصب ، والاحتكار الآثم الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:( المحتكر خاطئ ) أي آثم .
وإن اليهود لانقطاعهم عن الاتصال الأدبي بالناس ، والتألم لآلامهم ، كانوا يعتبرون الناس وأموالهم نهبا مقسوما ما لهم دون غيرهم ،فكانوا يأكلون أموال الناس ، لأن من عداهم وهم المختارون فكانوا يقولون:ما علينا في الأميين .
وإن اليهود بسبب بغضهم الشديد الذي توارثوه جيلا بعد جيل ، قد انفصلوا عن الناس بقلوبهم وقد عاشوا مضطهدين في وسط النصارى أذاقوهم الويل والذل أكؤسا فكونوا الجماعات السرية ليفتكوا بالوحدات الاجتماعية ، وليفسدوا العلائق بينها وما من دعوة مخربة إلا كان اليهود دعامتها ، وأخذوا يكتنززن الأموال بالطرق المحرمة فهم الذين نشروا الربا في الأرض وهو من أخبث انواع السحت ، واتخذوا الرشوة سبيلا لبسط سلطانهم في الأرض ، واتخذوا الاحتكار ذريعة لتجويع الناس ، والناس جميعا في نظرهم أعداؤهم في الأرض ،واتخذوا النصب والاحتيال والغش والخديعة ذريعة لأكل أموال الناس بالباطل ، وإن تظاهروا بفضيلة مالية ، لكي يكتسبوا من هذا المظهر وبذلك أفسدوا الضمائر وهتكوا حمى الفضائل وأزالوا أو حاولوا أن يزيلوا كل المقومات الخلقية ليفسدوا المجتمعات ويزيلوا كل القيم ، وإن الذلة تلاحقهم إن شاء الله تعالى وقد حكم سبحانه على أعمالهم بقوله تعالت كلماته:( لبئس ما كانوا يعملون ) .
ذلك حكم صارم قاطع يذم أعمالهم والله سبحانه وتعالى حكم ذلك الحكم القاطع على أعمالهم باستحقاقها للمذمة؛لأنها مخالفة لأوامر الله تعالى ونواهيه ، وهي شر في ذاتها ، وهي مقوضة لكل مقوم للأخلاق والفضائل والعلاقات الإنسانية .
والحكم على ما كان منهم وما هم مستمرون فيه من عمل ، ولذلك عبر الماضي والحاضر ، فذكر كان بلفظ الماضي ، و ( يعلمون ) بلفظ المضارع الدال على الحال والمستقبل ومؤدى ذلك الجمع أي أن ذلك كان منهم في الماضي وهو مذموم واستمروا عليه في الحاضر والمستقبل ، وذلك أشد شرا ، وأوغل فسادا .
وقد أكد سبحانه ذلك الحكم بالقسم وباللام الموطئة للقسم ، وبكلمة بئس الدالة على شدة الذم .
والله سبحانه وتعالى يتولى الناس ويدفع عنهم شرهم ، ويرد عنهم كيدهم وإنهم منذ أخرجوا من مصر مستنقذين على يد كليم الله تعالى موسى عليه السلام ، ونفوسهم في الشر ، يبدو منهم وتتوالى مقاومة الناس لهم ، ولذلك قد تولد معه إحساس بالكمال دون الناس ، حتى توهموا انهم الشعب المختار في هذه الأرض ، ولكي يفرضوا سلطانهم لم يجدوا سبيلا إلا المال ،فأكلوه سحتا ، وأنفقوه سحتا وتوارثوا ذلك خلفا عن سلف ، حتى إن المستقرئ لتاريخ الأمم لا يجد جماعة من الناس تشابه حاضرها بماضيها ، تشابه حاضر اليهود بماضيهم ، حتى عن القرآن الكريم كان يخاطب الحاضرين منهم بأعمال الماضين ، لأنهم مثلهم تماما وعلى شاكلتهم وهم غير قابلين للتغير .