وما عندهم من بقية من التوراة كتابهم لا يغير طباعهم ، فلا يتكون عندهم رأى عام إلا من تعاليم السابقين ، وعلماؤهم يجارونهم ، ولا يبينون لهم ، فكان رأيهم العام فاسدا لشيوع الفساد فيه ، وعدم وجود من يرشدهم إلى الصواب ولذا قال تعالى:( لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم ) الربانيون هنا هم العلماء الذين يحاولون أن يكون علمهم لله ، ويتصلون بربهم حتى ينسبوا إليه ولا يكون لهم وصف إلا نسبهتهم إليه سبحانه يزعمون ذلك في أقوالهم ويظهرونه في أعمالهم والأحبار هم الفقهاء أو العلماء الذين يفسرون أحكام الكتاب ، ويعرفون الناس بشؤون دينهم ،وقد يكون من يجمع بين الوصفين ، ولكن لكل وصف جانب من العمل .
و ( لولا ) هنا للحض على الفعل في المستقبل والتوبيخ في الماضي على عدم فعله ، وهو هنا للتوبيخ على تقصيرهم في الماضي وتخاذلهم عن أدائه ، وإلا ما كان ذم حالهم ، واستنكار أمرهم ،والمعنى:هلا كان من هؤلاء الذين كان يتبعهم اليهود ويستمعون إليهم ، ويستجيبون لهم من يرشدهم إلى الحق ليتبعوه وينهاهم عن الظلم ليجتنبوه وقد اتخذوا أولئك الأحبار والربانيين وسطاء بينهم وبين الله ليتعرفوا عن طريقهم ، ولكنهم لم يفعلوا .
ولقد كان الموضع الذي كان ينبغي أن ينبهوا عنه هو قولهم الإثم وأكلهم السحت ، فالنهي الواجب منصب على أمرين:أحدهما – قول الإثم أي القول المبطئ المانع من الخير ، والثاني:أكل السحت ، والأمران جماع الرذائل فإن الذي يدفع إلى الشر قول ذميم يحرض على الفساد ويدفع إليه ، ويجرئ الناس عليه ، ويتضمن ذلك ارتكاب الشهوات بكل أجزائها ، لأن أول الشر استحسانه ، واستحسانه يكون غالبا بالقول المشجع عليه والدافع له ، ثم استمرءوا من بعد ذلك بقوله يزينه ويزكيه ويكون من بعد ذلك ممن زين له سوء عمله فرآه حسنا .
والأمر الثاني:طمع لما في أيدي الناس وحسد على ماا تاهم الله من فضله ووراء أكل المال الناس بالباطل ، وشره لما في أيديهم ، واتخاذ المال ذريعة لإفساد ذات البين بينهم ، والتحريض على الشر ، والتحكم المرذول .
ولعل ذكر نهى الأحبار للعامة عن السحت تعريض بهم ، لأنهم كانوا لا يتعففون عن الرشا بكل أنواعها كما أن ذكر النهى عن القول الإثم تعريض آخر بأحوالهم فإن من قول الزور تحريف الكلم عن مواضعه ، والنطق بالزور في الشرع ، وكان يقع منهم ، ولذلك ذم سبحانه صنيعهم وهو لا يخلو من فساد حكمهم وتغيير حكم الشرع لهوى الأقوياء منهم ، فقال تعالت كلماته( لبئس ما كانوا يصنعون ) ذمالله تعالى صنيعهم وهو علمهم الشر بدقة وإحكام ، لا بمقتضى الغرائز الحيوانية من غير تفكير ، وفي الماضي ، وما هم عليه في الحاضر ، وما يكون منهم في المستقبل .
وهنا يتكلم المفسرون في التفرقة بين ذم أعمال اليهود عامة من دهماء وغيرهم بقوله تعالى:( لبئس ما كانوا يعملون ) وذم أعمال الربانيين والأحبار بقوله تعالى:( لبئس ما كانوا يصنعون ) .
وخلاصة هذه التفرقة أن العمل يكون عادة بانبعاث شهوة من طمع مال ، أو لذة جسد ، أما الصنيع فإنه يكون بمهارة وتدبير وتعرف للغايات والنتائج ولو كانت آثمة ، وأن الصنيع يكون بالعمل وغيره ، ومن أحسن من قال في التفرقة فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير ، فقد قال موضحا ما ذكره الزمخشري وغيره ، والمعنى أن الله تعالى استبعد من علماء أهل الكتاب أنهم ما نهوا سفلتهم وعامتهم عن المعاصي ، وذلك يدل ان تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه لأنه تعالى ذم الفريقين في هذه الآية على لفظ واحد ، بل نقول:إن ذم تارك النهي عن المنكر أقوى لأنه تعالى قال في المقدمين على الإثم والعدوان وأكل السحت:لبئس ما كانوا يعملون وقال في العلماء التاركين للنهي عن المنكر لبئس ما كانوا يصنعون والصنع أقوى من العمل لأن العمل إنما يسمى صناعة إذا صار مستقرا راسخا متمكنا فجعل جرم العاملين ذنبا غير راسخ وذنب التاركين للنهى ذنبا راسخا ، والأمر في الحقيقة كذلك لأن ا لمعصية مرض الروح وعلاجه العلم بالله وبصفاته وبأحكامه فإذا حصل هذا العلم وما زالت المعصية كان مثل المرض الذي شرب صاحبه الدواء فما زال ) .
وإن هؤلاء الرابنيين والأحبار لم يكن ما أخذ عليهم هو السكوت عن النهي فقط ، بل إنهم رتعوا فيما رتع فيه غيرهم ، وبذلك ضلوا وكانوا سببا في فساد الجمع كله ولعنهم وطردهم كما قال الله تعالى:( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون78 كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون79 ) ( المائدة ) .
ولقد قال ابن عباس في هذه الآية:( لولا ينهاهم الربانيون والأحبار ) إنها أصعب آية في كتاب ؛ لأنها إثم الذين يقصرون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهما عصام الأمر ، ومانعاالا ثم ، وبهما صلاح الجماعة الإنسانية روى الامام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي وهم أعز منه وأمنع ، ولم يغيروا إلا أصابهم الله بعذاب من عنده ) .
وروى يحي ابن معمر أن الإمام على ابن أبي طالب خطب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:( أيها الناس إنما هلك من كان قبلكم بركوبكم المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار فلما تمادوا في المعاصي أخذتهم العقوبات فأمروا بالمعروف انهوا عن المنكر قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقا ولا يقرب أجلا ) .
وإن ما توقعه إمام االهدى علي- كرم الله وجهه- قد وقع ،فإن الذين يتخذون من المؤمنين مكان الأحبار باسم الإسلام ، قد سكتوا عن النهي عن قول الإثم ، بل منهم من أيد المنكر ، بعد أن ارتضاه ومنهم من مالأ في دينه ،يحسب أن قول الحق قد يقطع رزقا ، أو يضيع أملا ، وبذلك وقعت معاص من غير استنكار ، وترك الواجب في استهتار ، ولا منادى بالحق ، اللهم وفقنا لقول الحق واعف عنا واغفر لنا وأنت خير الراحمين .