وكان لهم ربانيون ،يتخذون لأنفسهم مواقع النَّاس المخلصين لله ،وأحبار يملكون من العلم ما يرتفع بمنزلتهم إلى الدرجات العليا ،ولكنَّهم كانوا يسكتون عنهم ،ولا ينهونهم عن قولهم الإثم وأكلهم السُّحت ،خوفاً ومجاملةً وغير ذلك من النوازع الذاتية الّتي تمنع المصلحين من الجهر بكلمة الإصلاح{لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الربَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} .فما قيمة الربانية في داخل الإنسان إذا لم تتحول إلى ممارسةٍ عمليّةٍ ضاغطة ،ضد كل الَّذين يعملون بعيداً عن الله ؟!وما دور العلم الَّذي يحمله صاحبه إذا لم يتحرك في خط التوعية الفكرية والعملية الّتي ترفع مستوى النَّاس وتقربهم إلى الله وتبعدهم عن خط الشيطان في الضلال والفساد ؟!
ماذا نستوحي من هذه الآيات ؟
ماذا يوحي لنا ذلك كله ؟وهل هذه قصة اليهود في ملامحهم الذاتية في التاريخ ؟أم هي قصة كل هؤلاء المنحرفين عن خط الله ،الَّذين يتلونون في كل يوم بألف لونٍ انطلاقاً من مطامعهم وشهواتهم ،ويسارعون في الإثم والعدوان في كل عصر وكل مكان ،ويأكلون الحرام بمختلف الأساليب والحجج القانونيّة الّتي يلعبون فيها على الشرائع والقوانين ،ويتعقّدون من النَّاس الَّذين يؤمنون بالله وبرسالاته ،وينقمون عليهم هذا الإيمان لأنَّه يكشف خداعهم وزيفهم وفسقهم وفجورهم ؟عندما يتطلع النَّاس إلى الفوارق الكبيرة الّتي تحكم ساحة الموازنة بين الفريقين اللذين ينتسبان معاً إلى الوحي وإلى الرسل ،يجدون المؤمنين الحقيقيين هم الَّذي يعتبرونها التزاماً وعملاً وصدقاً في الكلمة والموقف ،أمَّا الَّذين يواجهون القضيّة على أساس اللاّمبالاة واللعب على الحبالكما يقولونوالكذب في الكلام والممارسة ،فإنَّهم الفاسقون الَّذين لا تقترب شخصياتهم من أجواء الإيمان ،بل تظل سادرةً في خط الضلال البعيد .
وهكذا تمتد هذه الآيات إلى جميع العلماء الَّذين يملكون العلم الَّذي يُمكن له أن يفتح عقول النَّاس على الحقّ ويتحرك ليواجه تحديات الباطل وانحرافات الواقع ،ولكنَّهم يتقاعسون عن ذلك ويتثاقلون خوفاً على بعض دنياهم ،أو رغبةً في الحصول على بعض دنيا المنحرفين الَّذين قد يملكون المال أو الجاه أو السلطة ،أو حبّاً بالراحة الّتي يبتعدون بها عن التعب والجهد الَّذي يُثقل حياتهم ويرهق أوضاعهم ،فإنَّ مسؤوليّة الساكتين عن الحقّ كمسؤوليّة الناطقين بالباطل ،لأنَّ النتيجة معهما سواء في إفساح المجال للضلال في زيادة النمو والامتداد في الحياة العامّة والخاصة ،وقد ورد في الحديث المأثور عن النبيّ محمَّد( ص ): «إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه ،فمن لم يفعل فعليه لعنة الله » .
وجاء في الحديث عن الإمام عليّ( ع ) في نهج البلاغة في خطبته ( 192 ) قوله( ع ): «فإن الله سُبحانهُ لم يَلعنِ القرن الماضي بين أيديكُم إلاَّ لِتركِهمُ الأمرَ بالمعروفِ والنَّهيَ عن المنكرِ .فلعنَ الله السُّفهاء لِركوبِ المعاصي والحُلماء لِتركِ التَّنَاهي » .
ولعلَّ هذا إشارة إلى قوله تعالى:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْرَائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} [ المائدة: 78] .
التمايز بين العمل والصنع
وقد لاحظ بعض المفسرين الفرق بين كلمة{يَعْمَلُونَ} في الحديث عن سواء النَّاس ،وكلمة{يَصْنَعُونَ} في الحديث عن العلماء ،وذلك من خلال أنَّ الصنع هو كل عملٍ استخدمت فيه الدقة والمهارة ،بينما العمل يطلق على جميع الأفعال حتَّى لو كانت خاليةً من الدقة ،تأكيداً على أنَّ النَّاس العاديين يذنبون من موقع الجهل ،بينما العلماء يرتكبون الذنب عن درايةٍ وعلمٍ وتفكير .
وهذه ملاحظةٌ طريفة ،ولكنَّنا لا نتصور أنَّ هذه النكتة ملحوظةٌ في الآية ،لأنَّ المطروح في عمل الجاهلين المعصية ،أمَّا في عمل العلماء فهو ترك النهي عن المنكر ،وهما سيّان في الخلفيات الكامنة وراء العمل من حيث الرغبة في الحصول على المنفعة أو الاجتناب عن المضرّة ،من دون أن يكون لنوعيّة الممارسة للعمل دورٌ في ذلك .وبعبارة أخرى ،لو كانت القضيّة قضيّة عملٍ يقوم به العلماء لكان لهذا الكلام مجالٌ سلبيّ أمام هذا العمل من قِبل العلماء ،فلا وحدة في الموضوع ليكون الفارق في الخصوصيّة .والله العالم .
وفي ضوء ذلك ،قد يكون من الضروري للرساليين أن يدققوا في النماذج المحيطة بهم من المنحرفين عن خط الله ،ومن أهل الكتاب الَّذين يكيدون للإسلام ولأهله المكائد ،ليتعرّفوا ملامح الآيات في ملامحهم ،ليبتعدوا عن جو الخديعة الَّذي يُراد لهم أن يعيشوا فيه ،وليكونوا على حذرٍ في ما يأخذون ويدعون ويقتربون ويبتعدون ،في نطاق العلاقات الإنسانيّة المتحركة في أكثر من صعيد ،وبذلك يُمكن لهم أن يستلهموا الوعي القرآني في تركيز الوعي الحياتي الإنساني .