مناسبة النزول
جاء في الدر المنثور عن ابن عباس: «قال رجل من اليهود يُقال له النباش بن قيس: إنَّ ربَّك بخيل لا يُنفق ،فأنزل الله:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} » .
والظاهر أنَّ هذا اليهوديإذا صحّت الرِّوايةيعبّر عن منطق يهوديّ شائع وكلام معروفٍ عندهم يتداولونه فيما بينهم ،وليس كلاماً فردياً ،وذلك من خلال ظاهر الآية في نسبة القول إلى اليهود لا إلى شخصٍ معين .
الله في التصوّر اليهودي
كيف يتصوّر اليهود الله ،وكيف يتحدثون عنه ؟!لا يجسد الله في تصوّر اليهود تلك الذات الجامعة لكل صفات الجلال والجمال والكمال والعلم والقوّة والقدرة اللامتناهية ،بحيث لا يكون ثمة مجال للحديث عنه إلاَّ بصفات التعظيم والتقديس ،لأنَّه الرّب العظيم الذي{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء} [ الشورى:1] في الأرض ولا في السماء ،ولكنَّهم يتصورونه كما يتصورون أي كائن آخر محدود ،وما يلزم عن المحدودية من نواقص وسلبيات ،الأمر الَّذي يفقد الصورة الإلهيّة حيويتها وبريقها في عيون الآخرين .وفي هذا الاتجاه جاء قولهم كما ذكر الله تعالى عنهم:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} وإغلال اليد يكنّى به عن العجز ،سواء في الحركة أو في العطاء ،لأنَّ من شأن تقييد اليد أن يعيق من حركتها وعطائها ،وهذه الرؤية منهم ،لأنَّهم ينظرون إلى فقر عباد الله ،فإذا كان الله قادراً على العطاء وعلى نصرة عباده ،فكيف يتركهم للفقر ينهش أجسادهم ،وللظلم يخنق حياتهم ؟!ويشعرون أمام ذلك بالعلو والرفعة بما يملكونه من مال وجاه وقوّة إزاء ما يفقده الآخرون من ذلك كله ،ولكنَّ الله يقابل منطقهم الأعوج هذا بالدعاء عليهم بأن تُغَلَّ أيديهم بالمرض الَّذي يمنعها من التحرك والقدرة ،أو بالحديث عن الإمكانات المستقبليّة الّتي قد توحي بشيء من هذا القبيل ،ليكون الجو أشبه شيء بالتهديد الخفي ،{غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} وشُلَّت ومُنعت من التحرك الَّذي يمليه عليها إرادتها ومعتقدها .
ثُمَّ يواجههم باللعنة{وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ} وذلك بسبب ما قالوه من كلامٍ ينطلق من جهل وسوء معرفة بالله الَّذي خلقهم ورزقهم وأفاض كلَّ نعمه عليهم وعلى جميع خلقه ،وبشكل دائم لا انقطاع له ،مما يكشف عن تمرّدهم وانحرافهم واستغراقهم في أجواء الضلال ،وابتعادهم عن الحقيقة الإلهيّة الّتي تفرض نفسها على الوجود كله{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} بالخير المتدفق في كل مجاري الحياة ومواردها كالينبوع المتدفق المتفجر بالعطاء المستمر والممتد ،وجاءت اليد هنا لتدل على النعمة والرزق والعطاء على سبيل الكناية ،وربَّما كانت التثنية سبيلاً من سبل التعبير عن الشمول في العطاء من خلال كل الوسائل الّتي ينزل فيها الخير على خلقه ،{يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} فليس لأحد من خلقه أن يحدد له المورد والطريقة والمقدار ،بل هي مشيئته الّتي تحدد للخلق أرزاقهم كما تحدد أعمارهم .
حقد اليهود المستعصي
{وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} وهذا يمثل حركة العقدة المستعصية في النفس ،فنحن نلاحظ أنَّ كثيراً من النَّاس المعقّدين بالحقد والحسد ضد أُناسٍ آخرين يزدادون حقداً وحسداً كلما ازداد هؤلاء إحساناً ولطفاً وعملاً صالحاً ،لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الأشياء بعين مفتوحةٍ بالنور لتبصر الأمور على حقيقتها ،كما هي في الحياة ،بل ينظرون إليها من موقع حقدهم وحسدهم الَّذي يحوِّل الحسنات إلى سيئات والفضائل إلى عيوب ،وهكذا كان هؤلاء اليهود الَّذين لم ينظروا إلى الإسلام من موقع الفكر الباحث عن الحقيقة ،بل من موقع الحقد الَّذي يعمل على إخفائها وتغطيتها وتشويهها ،وعلى إبعاد النَّاس عنها بمختلف أساليب التشويه ،ولهذا فإنَّهم يعيشون في حالة استنفارٍ دائمٍ أمام كل انتصار للإسلام ،وكل انطلاٍق لآياته ،وكل حركة لمفاهيمه ،فإذا انتصر الإسلام في معاركه ،أو تنزلت آيات الله على نبيه من أجل إيضاح الخط والهدف ،فإنَّ هناك عقدةً جديدةً تولد ،وحقداً أسود يصعد ،ويبدأ هذا وذاك ليدفعهم إلى زيادة طغيانٍ حاقدٍ في مشاعرهم وتصرفاتهم ،وليزيدهم كفراً على كفر في ما يريدون السير على أساسه من التمرّد على الله ورسالاته !وبهذا نعرف أنَّ نسبة زيادة الطغيان والكفر إلى الآيات المنزلة من الله ،من خلال إثارتها لتفاعلات العقد النفسيّة الكامنة في الداخل ،في ما يريد الإنسان إثارته في عمق ذاته .وفي ضوء ذلك ،لا نجد هناك مجالاً للحديث عن موضوع الجبر في ما يستفيده البعض من سببية الآيات المنزلة في زيادة طغيانهم وكفرهم ،ما يجعل الموضوع مرتبطاً بالله بشكلٍ مباشر ،لأنَّ القضيّة لا تخرج عن نطاقها الطبيعي من ارتباطها بالأسلوب الأدبي في الفن التعبيري القرآني الَّذي يسند الأشياء إلى أسبابها العادية الّتي تُمثِّل سبباً للإثارة أو لخلق جوٍ معين ،أو لإيجاد مشاعر معينةٍ في جانب الإيجاب والسلب في علاقة الأشياء بالأشياء .
اليهود محكومون بالعداوة فيما بينهم إلى يوم القيامة
{وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وذلك من خلال الأسس الّتي ارتكز عليها بنيانهم الذاتي ،والمفاهيم الّتي تحكم طريقتهم في التفكير والعمل والعلاقات ،لانطلاقها من جذورٍ ماديةٍ لا تتحرك فيها أيّة نبضةٍ روحيةٍ للمشاعر ،ولا تنساب في أعماقها أيّة عاطفةٍ إنسانيّةٍ للقلوب ،حتَّى العلاقات الحميمة الّتي قد تنشأ فيما بينهم ،لا ترتكز على المعنى الحميم ،بل تنطلق من الحسابات المادية القائمة على الربح من جهة ،وعلى العصبيّة من جهة أخرى ،وإذا كانت المسألة تعيش في هذا الجو المادي الخانق ،فإنَّ النتائج ستكون مزيداً من الصراع على النفوذ والأرباح والمطامع والامتيازات ،ما يولّد المزيد من العداوة والبغضاء اللتين تمتدان إلى يوم القيامة تبعاً لامتداد الأجواء المعقدة الّتي تدفع إليهما ،بما يتعمّق في داخل شخصياتهم من عقدٍ حاقدةٍ ضد بعضهم البعض .
حروب اليهود لن تحقق أغراضها
ويظلون ينتقلون من حرب إلى حرب ،ولكنَّهم لا يحققون الانتصار النهائي الأخير الَّذي يريدون فيه السيطرة على مقدرات الأمور في الحياة ،فإنَّ الله يبطل كل مقاصدهم ومخططاتهم ،بما يثيره حولهم من بوادر وظروف وأسباب تطفىء ما أوقدوه ،وتهدم ما بنوه .
وتلك هي قصّة حروبهم الّتي تتجدد ولكنَّها لا تصل إلى النتائج النهائيّة المقصودة ،بل تحاصرها الأوضاع المتنوعة الّتي تقف بها في بدايات الطريق أو منتصفاتها ،وهذا ما عبّرت عنه الفقرة القرآنيّة:{كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} وذلك هو أسلوب القرآن في إسناد كل الأمور إلى الله من حيث استنادها إلى القوانين الطبيعيّة الّتي أودعها الله في حركة قانون السببية للأشياء .وربَّما كانت الاستيحاءات الّتي استوحيناها من هذه الفقرة ،جواباً على بعض التساؤلات الّتي يتساءل فيها النَّاس عن مدى انطباق هذه الفقرة أو اختلافها ،مع الانتصارات الّتي حققها اليهود في حروبهم ضد العرب والمسلمين في فلسطين في عصرنا الحاضر ،فقد يلوح لنا أنَّ الآية تركز على عدم بلوغهم الأهداف النهائية لما يريدون في خطواتهم العسكرية والسياسيّة من السيطرة على العالم ،وبذلك تُمثِّل الآية نبوءةً لمستقبلٍ قادمٍ يؤدي إلى هزائم مستقبليّة ،من خلال انتفاضاتٍ إسلاميّةٍ قادمة .وربَّما جاء في بعض التفاسير ،أنَّ الآية تتحدث عن الحروب الدينية الّتي يطلقها اليهود في حياة الديانات الآخرى ،لا عن الحروب السياسيّة الّتي قد لا يتقمّص فيها اليهود شخصيتهم اليهوديّة ،بل يتحركون في نطاق التيارات السياسيّة المطروحة في العالم لتكون شخصيتهم مجرّد سلاح للمعركة ،ولكنَّ الباحث المدقق قد يستطيع التحفظ على هذا التفسير من خلال الطروحات الّتي تحكم الساحة اليهوديّة الّتي تؤكد على الصفة الدينية كأساس للقوميّة الإسرائيليّة ،وتتحدث عن التوراة كمنطلق للطموحات اليهوديّة في ما تدعي شرعيته من الأرض والحكم والسيادة في الماضي والحاضر والمستقبل .ويبقى لنا مع التاريخ القادم ،القيام برصد للمستقبل من خلال ما نصنعه من تاريخٍ جديدٍ يبسط سيادة الإسلام على العالم .
اليهود سعاة فساد
{وَيَسْعَوْنَ فِي الأرضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} بما يثيرونه من قلاقل ومؤامرات في مجال الحرب والسياسة على مستوى العالم ،وبما يعملون له من إفسادٍ للعقائد والأخلاق والعلاقات الإنسانيّة ،وتشويهٍ للتاريخ في قوانينه وأوضاعه وحقائقه ،وتحليلٍ مزيّفٍ لتطلعات الإنسان المستقبليّة ،لأنَّ قصة القيم عندهم ،في ما يطرحونه من شعارات القيم الأخلاقية ،لا تثير أيّ إحساسٍ أخلاقيٍ في ما يتعلّق بالآخرين ،بل هي محدودةٌ بحدود الشعب اليهودي الَّذي يملك كل الامتيازات والحقوق بالنسبة إلى العالم ،بينما يتحمّل العالم بالنسبة إليهم كل المسؤوليات والواجبات .وهكذا يرون في فساد العالم وتدميره الفرصة الّتي يحاولون من خلالها فرض نفوذهم ،وإظهار تفوقهم وحضاريتهم في مجال الأخلاق العامّة والخاصة ،وبهذا كان تاريخهم في خط حركة الرسالات ،هو التآمر عليها ،وإفساد حياة أتباعها في تصوراتهم وفي سلوكهم العملي .
أمَّا في خط السياسية والاقتصاد والاجتماع والأخلاق ،فإنَّهم يلجأون إلى كل ما يملكون من أدوات الإفساد والبلبلة والإرباك والتمييع من أجل إيجاد حالة من الاهتزاز والضياع في حياة النَّاس ،وخلق وضعٍ داخليّ نفسيٍّ يوحي بالتمرُّد على كل المبادىء والأعراف والتقاليد ،بقطع النظر عن الموازين الهادئة ،لما هو خيرٌ أو شرٌ ،أو مصلحةٌ أو مفسدةٌ ،في هذا الجانب أو ذاك ،وذلك بطرق وأساليب خفية ،تتخذ من الواجهات السياسيّة والاجتماعيّةٍ والدينية ستاراً تختفي وراءه ،بحيث يبدو الأمر كما لو كان حركةً تطورية عفوية ،بما تحفل به الحياة من حركات التطور الاجتماعي والفكري .وعلى ضوء هذا العرض القرآني لصفات اليهود ،في تجاوزهم كل الحدود في التعدي على حرمات الله بالمستوى الَّذي لا يتورّعون عن القول بأنَّ{يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} وفي هذا الجو النفسي الداخلي والبغيض ،وفي خطواتهم العمليّة المستمرة على مدى التاريخ في إفساد البلاد والعباد ،لا بُدَّ لنا من الحذر في التعامل والتعايش معهم في عملية رصدٍ واعيةٍ ذكية ،تهدف إلى تفشيل كل مخططاتهم ،وتحجيم كل قوتهم ،وتهديم كل أوضاعهم ،لنحفظ للحياة سلامها وصلاحها لإطلاقها في طريق الله بأمانٍ وإخلاص .
الله لا يحب المفسدين
{وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} لأنَّ الله يريد للحياة السير على خط الصلاح والإصلاح بما يُمثِّله ذلك من مصلحة الإنسان الحقيقيّة على مدى الزمن ،ولذلك ،فإنَّه يحب الصالحين والمصلحين الَّذين ينفذون تعاليمه ويخضعون لإرادته ،ولاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ الذين يفسدون على النَّاس حياتهم ،ويبعدونهم عن سلامة المصير في الدنيا والآخرة ،ويتمرّدون على أوامر الله ونواهيه ،وينحرفون عن الخط المستقيم في ما تفرضه إرادة الله من السير على طريق الاستقامة في سلوك الإنسان في الحياة .وإذا كان الله لا يحب المفسدين ،كان من اللازم على المؤمنين أن يرفضوا التعاطف مع هؤلاء ،لأنَّ بناء شخصيّة المؤمنين يرتكز على قاعدة الانسجام مع خط رضى الله في مشاعره وعواطفه ،فيحب من أحبه الله ويبغض من أبغضه ،وبذلك يُمكن للاستقامة في الجانب العاطفي في داخل الإنسان ،أن تفرض نفسها على طبيعة العلاقات الإنسانيّة الّتي يتحرك فيها الشعور ،وتفرضها العاطفة ،فلا يكون هناك فاصل في شخصيّة الإنسان الازدواجية بين نوعين من الشخصيّة ،بل يعيش الوحدة التامة الّتي تجعل تصوّراته الذاتية على هيئة تصوّراته الرسالية الإسلاميّة ،في ما يتحرك فيه الفكر والعاطفة والعمل .