لما أسرفت يهود المدينة ما حولها في عداوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد ما فضلهم على مشركي قومه ، وأقرهم على دينهم وما في دينهم وما في أيديهم ، بين الله تعالى له مخازيهم التي يشهد بها تاريخهم وكتب دينهم ، وما كان من تأثيرها في أخلاق المعاصرين له وأعمالهم .ثم عطف على ما تقدم من ذلك قولا فظيعا قاله بعضهم يدل على الجرأة على الله تعالى فيهم ، الذي هو ترك التناهي عن المنكر فيما بينهم ، فقال:{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ} هذا القول الفظيع من شواهد قولهم الإثم الذي أثبته فيما قبل هذه الآية .وقد عزي إليهم – وهو واحد أو آحاد منهم – لأنه أثر ما فشا فيهم من الجرأة على الله وترك إنكار المنكر – كما قلنا آنفا – والمقر للمنكر شريك الفاعل له ، وهذا هو وجه وصل هذه الآية بما قبلها .
روى ابن إسحاق والطبراني في الكبير وابن مردويه وعن ابن عباس:قال رجل من اليهود يقال له النباش بن قيس:إن ربك بخيل لا ينفق .فأنزل الله ( قامت اليهود ) الآية .وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس أنها نزلت في فنحاص رأس يهود بني قنيقاع .وروى ابن جرير مثله عن عكرمة .وروى عن مجاهد أنهم قالوا:لقد يجهدنا الله يا بني إسرائيل حتى جعل يده إلى نحره – أو حتى أن يده إلى نحره .فعلى هذا يكون مرادهم أنه ضيق عليهم الرزق .كأنهم اعتذروا بهذا عن انفاق كان يطلب منهم .أو في حال جدب أصابهم .قيل:كانوا أغني الناس فضاق عليهم الرزق بعد مقاومتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم – وروى عن السدي في قولهم ومرادهم – قالوا:إن الله وضع يده على صدره فلا يبسطها حتى يرد علينا ملكنا .وروى عن ابن عباس في معنى عبارتهم أنه قال:ليس يعنون بذلك أن يد الله موثقة ، ولكنهم يقولون إنه بخيل أمسك ما عنده ، تعالى الله عما يقولون علوا كبير .فجعل العبارة ابن عباس من باب الكناية لا من باب الحقيقة .
وقد جعل أهل الجدل الآية من المشكلات لأن يهود عصره ينكرون صدور هذا القول عنهم ، ولأنه يخالف عقائدهم ومقتضى دينهم .ومما قالوه في حل الإشكال:إنهم قالوا ذلك على سبيل الإلزام ، فإنهم لما سمعوا قوله تعالى:{ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له} [ البقرة:245] قالوا:من احتاج إلى القرض كان فقيرا عاجزا مغلول اليدين ، بل قالوا ما هو أبعد من هذا في تعليل قولهم والخرص في بيان مرادهم منه ، وما هذا إلا غفلة عن جرأة أمثالهم في كل عصر ، على مثل هذا القول البعيد عن الأدب بعد صاحبه عن حقيقة الإيمان ، ممن ليس لهم من الدين إلا العصبية الجنسية ، والتقاليد القشرية ، فلا إشكال في صدوره عن بعض المجازفين من اليهود في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد كان أكثرهم فاسقين فاسدين .
وطالما سمعنا ممن يعدون من المسلمين في عصرنا مثله في الشكوى من الله عز وجل والاعتراض عليه عند الضيق ، وفي إبان المصائب .وعبارة الآية لا تدل على أن هذا القول يقوله جميع اليهود في كل عصر ، حتى يجعل إنكار بعضهم له في بعض العصور وجها للإشكال في الآية ، وإنما عزاه إلى جنسهم لما ذكرناه آنفا ، على أن الناس في كل زمان يعزون إلى الأمة ما يسمعونه من بعض أفرادهم إذا كان مثله لا ينكر فيهم ، والقرآن يسند إلى المتأخرين ما قاله وفعله سلفهم منذ قرون ، بناء على قاعدة تكافل الأمة وكونها كالشخص الواحد .ومثل هذا الأسلوب مألوف في كلام الناس أيضا .
واليد تطلق في اللغة على عدة معان:يقول أهل البيان إن بعضها حقيقة وبعضها من المجاز أو الكناية ، فتطلق على الجارحة وعلى النعمة والقدرة والملك والتصرف وغير ذلك .رأى أهل التأويل بأن هذه الآية يجب تأويلها لأن اليد بمعنى الجارحة مما يستحل نسبته إلى الله تعالى ، ويقول بعض أهل التفويض:بل نثبت له اليد وننزهه عن لوازم هذا الإطلاق من مشابهة الناس ، وتفسير ابن عباس- إمام مفسري السلف والخلف – للآية يدل على أنها ليست مما يجري فيه الخلاف بين الخلف والسلف في التأويل والتفويض .لأن استعمال غل اليد في البخل وبسطها في الجود معروف في اللغة مألوف ، ومنه قوله تعالى:{ و تجعل يدك مغلولة إلى عنقك و تبسطها كل البسط} [ الإسراء:29] ولا يقول أحد يفهم اللغة أن هذا من إخراج اللفظ عن ظاهره المسمى عندهم بالتأويل ؟
أما قوله تعالى:{ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُوا} وهو دعاء عليهم يناسب جرمهم هذا ، وجزاء لهم بالطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى وعنايته الخاصة بعباده المؤمنين .قد جاء على طريقة الاستئناف البياني لأنه مما تستشرف له النفوس وتتساءل عنه بالفعل أو بالقوة .والمشهور من معنى ( غلت أيديهم ) أمسكت أيديهم وانقبضت عن العطاء والإنفاق في سبيل البر والخير .وهو دعاء عليهم بالبخل ؛ وما زالوا أبخل الأمم فلا يكاد أحد منهم يبذل شيئا ، إلا إذا كان يرى أنه له من وراءه ربحا .وقد حسنت أحوالهم في هذا الزمان ، وارتقت معارفهم وحضارتهم في كثير من البلاد ، وتربوا في أمم من الإفرنج صار من تقاليدهم الاجتماعية بذل المال لمعاهد العلم والملاجئ والمستشفيات والجمعيات الخيرية ، وهم على كونهم أغنى من هذه الأمم مضطرون لمجاراتها لا يبذلون إلا دون ما يبذل غيرهم من الإعانات الخيرية ، بل هم على شدة تكافلهم واستمساكهم بالعصبية الملية فيما بينهم ، قلما يساعد أغنيائهم فقراءهم بالصدقة الخالصة لوجه الله تعالى واجبا في الخير ، بل يتاجرون ويرابون بالإعانات ، فيعطون الفقراء مالا على أن يعملوا به في تجارة أو غيرها ، بشرط أن يردوه في مدة معينة مع ربا قليلة في الغالب .
وقيل:إن المراد بغل الأيدي ربطها إلى الأعناق بالإغلال في الدنيا أو في النار أو فيهما .نقل عن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذا الغل:يغلون في الدنيا صار وفي الآخرة معذبين بأغلال جهنم .وقال في تفسير اللعنة:عذبوا في في الدنيا بالجزية وفي الآخرة بالنار .حكاه عنه نظام الدين النيسابوري في تفسيره .وأورد واقعة بهذا المعنى حدثت في زمنه قال:ومما وقع في عصرنا من إعجاز القرآن ما حكي أن متغلالا من اليهود يسمى بسعد الدولة – وهو من أشقى الناس – كان سمع بهذه الآية ، فاتفق أن وصل إلى بغداد فنزل بالمدرسة المستنصرية ، ودعا بمصحف كان مكتوبا بأحسن خط وأشهره من خطوط الكتاب الماضين .وكان يعلم أن أهل هذا العصر لا يقدرون على كتابة مثله ، ثم قال:أين هذه الآية ؟ - يعني قوله:( غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا ) وأروه إياه فمحاها .فلم يمض إلا أسبوع إلا وقد سخط السلطان عليه وبعث في طلبه وأمر بغل يديه ، فغلوه وحملوه إليه وأمر بقتله .اه .
والمراد أن السلطان غضب عليه بسبب من أسباب شقاوته التي عرف بها لا بسبب إعتدائه وتشويهه للمصحف ، لأن السلطان لم يعلم بذلك ، ولأجل هذا عد المصنف الإيقاع به من معجزات القرآن .وإنما عجزنا نحن في هذه الحكاية من تساهل المسلمين في عهد الحكومة العباسية كيف وصل إلى هذا الحد ، رجل من أشقياء اليهود أهل النفوذ يجيء بغداد فينزل في مدرسة من أشهر المدارس الإسلامية ويكون له حرية التصرف فيها والعبث بكتبها ما يمكنه من تشويه مصحف أثري كان أحسن المصاحف التي حفظها التاريخ في بغداد ؟ فليعتبر هذا التسامح المعتبرون .
ثم رد عليهم تعالى بقوله:{ بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء} أي بل هو صاحب الجود الكامل ، والعطاء الشامل ، عبر عن ذلك ببسط اليدين لأن الجواد السخي إذا أراد أن يبالغ في عطاء جهد استطاعته يعطيه بكلتا يديه .وصفوه بغاية البخل والإمساك .فأبطل قولهم وأثبت لنفسه غاية الجود وسعة العطاء .ولا غرو فكل ما يتقلب العالم كله من الخير والنعم ، هو سجل من ذلك الجود والكرم ، والنكتة في قوله:{ كيف يشاء} بيان أن تقتير الرزق على بعض العباد ، الجاري على وفق الحكمة وسنن الله تعالى في الاجتماع ، لا ينافي سعة الجود ، وسريانه في كل الوجود ؛ فإنه له – سبحانه – الإرادة والمشيئة في تفضيل بعض الناس على بعض في الرزق ، بحسب السنن التي أقام بها سنن الخلق ، والعجب من الإمام الجليل أبي جعفر بن جرير الطبري كيف صور استعمال لفظ اليد هنا أحسن تصوير ، ثم خفيت عنه نكتة تثنيته فجعلها حجة المفوضة على أهل التأويل ، ونحن معه في إثبات الصفة ، ننعي على المؤولين النفاة ، ولا يمنعنا ذلك أن نفهم نكتة تثنية اليد ، من استعمال لفظها المفرد ، قال ابن جرير بعد تفسير غل اليد بالإمساك وحبس العطاء عن الاتساع ما نصه: "وإنما وصف – تعالى ذكره – اليد بذلك والمعنى العطاء ، الناس وبذل معروفهم الغالب بأيديهم ، فجرى استعمال الناس في وصف بعضهم بعضا إذا وصفوه بجود وكرم ، أو ببخل وشح وضيق ، بإضافة ما كان من ذلك من صفة الموصوف إلى يديه ، كما قال الأعشى في مدح رجل:
يداك يدا جود فكف مفيدة *** كف إذا مما ضن بالزاد تنفق{[778]}
فأضاف ما كان صفة صاحب اليد من انفاق وإفادة إلى اليد ، ومثل ذلك في كلام العرب في أشعارها وأمثالها أكثر من أن تحصى ، فخاطبهم الله بما يتعارفونه أو يتحاورونه بينهم في الكلام "اه .ثم لما ذكر قول من قال من أهل الجدل إن يد الله نعمته أو قدرته أو ملكه ، وقول من قال إن يد الله صفة من صفاته غير أنها ليست بجارحة كجوارح بني آدم ، رد القول الأول ورجح الثاني بتثنية اليد وعدم إفرادها ، وإبطال قول من قال:إن التثنية بمعنى الجمع .
نعم إن التثنية ليست بمعنى الجمع ، اليد واليدين لم يقصد بلفظهما النعمة و القوة و الملك ، وإنما الاستعمال في الموضعين من الكناية ، ونكتة التثنية إفادة سعة العطاء ومنتهى الجود والكرم ، وليس في هذا القول المروي عن ابن عباس تأويل ، ولا نفي لما أثبته البارئ لنفسه من صفة اليد واليدين والأيدي في آيات أخرى ، وما سبب ذهول ابن جرير عن نكتة التثنية إلا توجهه إلى الرد على أهل الجدل في المذهب الذي كانوا انتحلوه في تأويل الصفات ، ومتى وجه الإنسان همه إلى شيء يكون له منه حجاب ما عن غيره .وتقرير الحقيقة لذاتها ، غير الرد على من يعدون من خصومها ،{ وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه} [ الأحزاب:4] ولهذا غلظ كثير من أنصار مذهب السلف في مسائل خالفوا فيها من حيث يريدون تأييده .وهذه آفة من آفات عصبية المذاهب لا تنفك عنها .
{ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أي أن هذا الذي أنزلناه عليك من خفي أمور هؤلاء اليهود المعاصرين لك ومن أحوال سلفهم وشؤون كتبهم وحقائق تاريخهم ، هو من أعظم الحجج والآيات على نبوتك ، فكان ينبغي أن يجذبهم الإيمان بك ، لأنك لولا النبوة والوحي لما علمت من ذلك شيئا – لا من ماضيه لأنك أمي لم تقرأ الكتب ، وما كل من قرأها يعلم كل ما جئت به عنهم – ولا من حاضره لأنه من خفايا مكرهم وأسرارهم كيدهم – ولكنهم لتجاوزهم الحدود في الكفر والحسد للعرب ، والعصبية الجنسية لأنفسهم ، لا بجذبهم ذلك إلى الإيمان ولا يقربهم منه إلا قليلا منهم ، والله ليزيدن كثيرا منهم طغيانا في بغضك وعداوتك وكفرا بما جئت به .قال قتادة:حملهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم والعرب على أن كفروا به – وفي رواية:على أن تركوا القرآن وكفروا بمحمد ودينه – وهم يجدونه مكتوبا عندهم .فعلم مما شرحناه أن زيادة طغيان الكثيرين منهم وكفرهم جاء على خلاف الظاهر وضد ما يقتضيه الدليل ، فلهذا أكده بالقسم الذي تفيده اللام في قوله:( ليزيدن ) .
{ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} قال المفسرون أن الضمير في قوله تعالى:( بينهم ) يرجع إلى اليهود والنصارى في قوله تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء} رواه ابن جرير عن مجاهد واقتصر عليه ، وعزاه غيره إلى الحسن أيضا ، ورواه أبو الشيخ عن الربيع ، فلا نعرف في التفسير المأثور عن السلف غيره ، وفي تفاسير المتأخرين احتمال أن يكون الضمير لليهود وحدهم ، ويراد بالملقى حينئذ عداوة المذاهب والبغضاء بين الأفراد ، لأن هذا لا ينقطع من بين الناس ، ولكن يظهر معه فائدة لتخصيص اليهود به ، وهم الآن من أشد الأمم تعاطفا وتعاضدا وائتلافا .وأما العداوة بينهم وبين النصارى فلم تنقطع .وهي على أشدها الآن في بلاد روسية وعلى أقلها في إنكلترة وفرنسة وألمانية ، لما في هذه الممالك من القوانين الحرة والحكومات المنتظمة ، ولما للمال وأهله فيها من النفود والتأثير في السياسة وسائر شؤون الاجتماع ، واليهود أغنى أهلها ، والمديرون لأرحية أعظم الأعمال المالية فيها .وهم على مكانتهم هذه مبغوضون من جماهير النصارى ، وكم ألفت كتب في فرنسة وغيرها في التحريض عليهم .وقد أخبرني ألماني من العلماء المستشرقين أنهم لا يعدون اليهودي في بلاده منهم ، بل يقولون هذا يهودي وهذا ألماني .وأما العداوة بين النصارى فهي أشد ، وأن دولهم الكبرى تستعد دائما لحرب يسحق بعضها بعضا .
{ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ} الحرب ضد السلم وليس مرادفا للقتال بل أعم – كما حققناه في تفسير آية المحاربة من هذه السورة – فهو يصدق بالإخلال بالأمن ، والنهب والسلب ولو بغير قتل ، ويصدق بتهييج الفتن والإغراء بالقتال ، خص مجاهد الحرب هنا بحربهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والحسن باجتماع السفلة من الأقوام على قتل العرب ، وقال السدي في تفسير الجملة:كلما أجمعوا أمرهم على شيء فرقه الله وأطفأ حدهم ونارهم وقذف في قلوبهم الرعب .وفسره الربيع بما كان من مفاسدهم الماضية التي أغرت بها البابلين والروم قبل النصرانية وبعدها ثم المسلمين ، كأنه يرى أن إيقادهم لنار الحرب هو تلبسهم بالأعمال التي هي سبب لها ، وإن لم يريدوها بها .والمراد أن الله تعالى يخذلهم في كل ما يكيدون به لرسوله وللمؤمنين الصادقين .فإما أن يخيبوا ولا يتم له ما يسعون إليه من الإغراء والتحريض ، وإما أن ينصر الله رسوله والمؤمنين .وكذلك كان ، وصدق الله وعده ، وأعزه جنده .ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده .
وجعل بعض المفسرين ذلك عاما عملا بظاهر اللفظ دون السياق والقرينة والأسباب والعلل ، فقال الزمخشري في تفسيره:كلما أرادوا محاربة أحد غلبوا وقهروا ولم يقم لهم نصر من الله على أحد قط – ثم قال – وقيل كلما حاربوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نصره عليهم . اه .وما اخترناه أظهر .
ومن المفصل في السيرة النبوية أن اليهود كانوا يغرون المشركين بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، وكان منهم من سعى لتحريض الروم على غزوهم ، ومنهم من كان يقطع الطريق على المؤمنين ويؤوي أعداءهم ويساعدهم ، ككعب بن الأشرف .
وكل ما كان من مقاومة اليهود للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين كان سببه الحسد والعصبية ، وتوقع الأحبار والرؤساء وإزالة الإسلام لما كان لهم من الامتياز بين العرب في الحجاز من مكان العلم والمعرفة ، إذ كان المشركون يحترمونهم لكونهم أهل كتاب وعلم وإن لم يدينوا بدينهم .فكانت عداوتهم للمسلمين عداوة سياسة جنسية ليست من طبيعة الدين ولا من روحه ، ولذلك كان ضلع اليهود مع المسلمين في الشام والأندلس لما رأوا ما عند مسلمي العرب من العدل ، المزيل لما كان الروم والقوط من الجور عليهم والظلم ، وكذلك كانت عداوة النصارى للمسلمين في الصدر الأول للإسلام سياسية ، ولذلك كانت على أشدها بينهم وبين الروم ( الرومان ) المستعمرين للبلاد المجاورة للحجاز كالشام ومصر ، وكان نصارى البلاد أقرب إلى الميل للمسلمين بعد ما وثقوا بعدلهم ، لما كانوا يقاسون من ظلم الروم على كونهم من أهل دينهم .وهذا شأن الناس في العداوة والمودة أبدا ، يتبعون في ذلك مصالحهم ومنافعهم ، فلا ينبغي أن يجعل ما ذكر وصفا ذاتيا لهم أو لدينهم ، لينتظر القارئ شهادة الله تعالى للنصارى بكونهم أقرب مودة للمؤمنين بعد آيات قليلة .فتحتم أن العداوة من السياسة لا من الدين .
{ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} أي أنهم لم يكونوا فيما يأتونه أو على ما يأتونه من عداوة النبي والمؤمنين وإيقاد نيران الحرب والفتن والقتال ، مصلحين للأخلاق والأعمال ، أو لشؤون الاجتماع والعمران ، بل كانوا يسعون في الأرض سعي فساد أو لأجل الفساد ، بمحاولة منع اجتماع كلمة العرب ، وخروجهم من الأمية إلى العلم ، ومن الوثنية إلى التوحيد ، وبالكيد للمؤمنين ، وتشكيكهم في الدين ، حسدا لهم ، وحبا في دوام امتيازهم عليهم .والله لا يحب المفسدين في الأرض ، فلا يصلح عملهم ، و ينجح سعيهم ، لأنهم مضادون لحكمته في صلاح الناس وعمران البلاد .
والدليل على صحة هذا أن الله أبطل كل ما كاده أولئك الأقوام ، للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وللعرب والإسلام ، وأن العرب لما اجتمعت كلمتها وصلحت حالها بالإسلام ، وان العرب لما اجتمعت كلمتها وصلحت حالها بالإسلام ، أصلحوا بين الناس ، وعمروا الأرض في بلاد كان لهم فيها سلطان ، وأما غيرهم فكانوا مفسدين بالظلم ومخربين للبلاد .فالإسلام يأمر بالصلاح والإصلاح على أكمل وجه وهو ما يحبه الله تعالى ، فلما قام المسلمون به حق القيام ، أيدهم ونصرهم على جميع من ناوءهم من الأقوام ، وكذلك التوراة والإنجيل ما أنزلت إلا لهداية الناس إلى الصلاح والإصلاح ، إنما كان أهلها مفسدين في ذلكم العصر ، لأنهم تركوا هدايتهما ، كما هو شأن جماهير المسلمين في هذا العصر:تركوا هداية القرآن ، وأعرضوا عما أرشد إليه من الصلاح والإصلاح ، فزال ملكهم ، وسلط الله عليهم غيرهم ، وقس جزاء الآخرة على جزاء الدنيا ، فكل منهما مرتب بحسب الله تعالى على صلاح النفوس والإصلاح في الأعمال ، وبناء على هذه الحقيقة قال:{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} .