( وإذا سمعوا ما انزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ) الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم ما أنزل غليه هو القرآن ، وأنهم لأيمانهم بالحق ، وإخلاص قلوبهم ، واطمئنان نفوسهم إلى الحق وقد طلبوه بمجرد أن سمعوا القرآن فتحت نفوسهم له وكأنهم كانوا يطلبونه وأولئك طائفة من نصارى الشرق منهم من كان يؤمن بأن عيسى رسول الله وأن الإنجيل بشر بمحمد صلى الله عليه وسلم فلما سمعوا القرآن وسمعوا محمدا وعندهم صفاته فاضت الدموع من عيونهم فرحا به ، اذ قد استشرفوا له فوجدوه فكان بردا وسلاما ، وقد يكون مع المشارقة من النصارى طائفة من المثلثين وهو الظاهر ، وكانوا يحسون أنهم في ضلال ، وظلام متكاثف من الأوهام فلما رأوا النور تمشوا إليه .
ومعنى قوله:( ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ) أن الدمع ينزل من عيونهم فائضا عما تمتلئ به بسبب الحق الذي عرفوه ، ومقتضى الكلام أنهم كانوا في حيرة حتى وجدوه ، وأثلجت نفوسهم به ، وقد قال الزمخشري في توجيه الكلام من الناحية البلاغية ( معناه تمتلئ عيونهم من الدمع حتى تفيض لان الفيض أن يمتلئ الإناء أو غيره ، حتى يطلع ما فيه من جوانبه فوضع الفيض الذي هو من الامتلاء موضع الامتلاء وهو من إقامة المسبب مقام السبب أو قصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء ) . فجعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها أي تسيل من الدمع من أجل البكاء ) . هذا كلام الزمخشري في التحرير البلاغي لمعنى تفيض أعينهم وعندي أن الكلام مبالغة في تأثرهم بدعوةالنبيصلى الله عليه وسلم واستقامة قلوبهم وعقولهم نحو الحق وسرورهم به ، ومن السرور ما يكون مظهره انبثاق الدموع من العين .
وقد أكد الكلام بأنه لم يعبر عنه بالإخبار ، بل عبر عنه بالرؤية المبصرة التي هي اقوي أسباب العلم الحسي ، وصور حالهم في التعبير بالمضارع ، وقوله تعالى:( مما عرفوا من الحق ) .
معناه أن سبب البكاء هو ما عرفوه من الحق ، وهذا يدل على أمرين:أولهما:انه تحقق لديهم ما وجدوه من أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم . ثانيهما:أنهم كانوا لنفاذ بصائرهم وعظم مداركهم يحسون بانهم كانوا في ضلال فعرفوا الطريق ، وكانوا في ظلام فاستناروا وكانوا في حيرة فاطمأنوا .
وإن هذا ينطبق على كل نصراني طالب للحق ، لم يطمس الله على بصيرته .
وبعد أن بين سبحانه حالهم المرئية ذكر قولهم بعد اهتدائهم فقال تعالت كلماته:
( يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع السشاهدين ) حكى الله سبحانه وتعالى قولهم وقد اتجهوا فيه إلى الله تعالى معترفين بربوبيته وحده ، وأنه على كل شيء قدير ، ومقرين بالإيمان الصادق المنبعث من قلوبهم وطلبوا من الله تعالى أن يكتبهم من الذين شهدوا بالحق ، وشهدوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى:( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا . . .143 ) ( البقرة ) .
وكما قال تعالى:( وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتنابكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة واتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير78 ) ( الحج ) .