أمَّا النصارى ،فقد انطلقوا من خلال الإنجيل على أساس القيم الروحيّة الّتي يحفل بها ،ما يجعل من قضيّة اللقاء بهم قضيّةً تخضع للأجواء الخاشعة في تصورها لله وفي حركة العبادة له ،بالرّغم من الاختلاف في تفاصيل ذلك كله .ولهذا ،كانت الآيات تؤكد على هذا الجانب الروحي ،دون الذاتي ،فليست المسألة فئةً تلتقي بفئةٍ على أساس النطاق البشري الَّذي تمثِّله هذه أو تلك ،ولكن المسألة مسألة قيم يعيشها ويؤمن بها هؤلاء ليكون اللقاء على أساس ذلك .وقد أشارت الآيات إلى هذه الناحية ،واعتبرت وجود القِسِّيسين والرُهبان ظاهرةً إيجابيّة ،في ما يُمثِّله هذا اللون من النَّاس من انقطاعٍ للعبادة ،وابتهالٍ لله ،وتواضعٍ للنَّاس ،وابتعاد عن الاستكبار .وتحدّثت عن التجربة الأولى للقاء ،في الوقت الَّذي لم يكن فيه المجتمع النصراني قد عاش عقدة الصراع ضدّ الإسلام والمسلمين ،نظراً إلى أنَّ القضيّة كانت قضيّة الدعوة في بداياتها الأولى ،فقد تلقّى الَّذين استمعوا إلى آيات الله ،آيات الله ،بروحٍ منفتحةٍ على الخير ،واعيةٍ لعمق الروح الإيماني ،عائشةٍ للفرح الروحي المتدفق من روحيّة الوحي الإلهي ،منفعلين بالحقيقة الصافية المشرقة القائمة على التأمل والإلهام ،مرسلة نفوسهم دموع الخشوع فياضة ،وامضة بإشارات المحبة والسلام ،ويرتعد كيانهم ويقشعر لبرودة الإيمان وهيبة الموقف أمام عظمة الله تعالى ،وتكرع أرواحهم كأس الملاطفة من معين الذات الإيماني حتّى الثمالة .فإذا بهم أمام الحقّ الَّذي عرفوه ،يبكون من الفرح ،{مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ} تماماً كما هو فرح الأطفال بالهدية الحلوة ،في براءة الطفولة ،فيبتهلون إلى الله في صلاة خاشعة ،لأنَّ الإيمان ليس مجرّد فكر يخضع للمعادلات العقليّة ،ولكنَّه فكرٌ وروحٌ وشعورٌ عامرٌ بحركة الحياة ،فإذا به يقظة إحساس ،ومنطلق روح ،وصفاء قلب ،وهزّة كيان ،{فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} ،الَّذين يعيشون الحضور الدائم مع الله ،فيعيشونمن خلال ذلكالحضور الواعي لمسؤوليّة الحياة مع الآخرين .