الخطاب في قوله{ تَرى أعينهم} للنبيء صلى الله عليه وسلم إن كان قد رأى منهم مَن هذه صفته ،أو هو خطاب لكلّ من يصحّ أن يَرى .فهو خطاب لغير معيّن ليعمّ كلّ من يخاطب .
وقوله:{ تفيض من الدمع} معناه يفيضُ منها الدمع لأنّ حقيقة الفيض أن يسند إلى المائع المتجاوز حَاوِيه فيسيل خارجاً عنه .يقال: فاض الماء ،إذا تجاوز ظرفه .وفاض الدمع إذا تجاوز ما يغرورق بالعين .وقد يسند الفَيْض إلى الظرف على طريقة المجاز العقلي ،فيقال: فاض الوادي ،أي فاض ماؤُه ،كما يقال: جَرَى الوادي ،أي جرى ماؤه .وفي الحديث: «ورَجُل ذكر الله خَالياً فَفَاضَتْ عيناه» وقد يقرنون هذا الإسناد بتمييز يكون قرينة للإسنادِ المجازي فيقولون: فاضت عينه دمعاً ،بتحويل الإسناد المسمّى تمييزَ النسبة ،أي قرينة النسبة المجازية .فأمّا ما في هذه الآية فإجراؤه على قول نحاة البصرة يمنع أن يكون ( مِنْ ) الداخلة على الدمع هي البَيانية التي يجرّ بها اسم التمييز ،لأنّ ذلك عندهم ممتنع في تمييز النسبة ،فتكون الآية منسوجة على منوال القلب للمبالغة ،قُلِب قولُ الناس المتعارف: فاضَ الدمع من عينِ فلان ،فقيل:{ أعينَهم تفيض من الدمع} ،فحرف ( مِن ) حرف ابتداء .وإذا أجري على قول نحاة الكوفة كانت ( مِن ) بيانية جارّة لاسم التمييز .وتعريف الدمع تعريف الجنس ،مثل: طبتَ النَّفْسَ .
و ( مِنْ ) في قوله{ مِمَّا عرفوا} تعليلية ،أي سببُ فيضها ما عرفوا عند سماع القرآن من أنّه الحقّ الموعود به .ف{ مِن} قائمة مقام المفعول لأجله كما في قوله:
{ تولّوا وأعينهم تفيض من الدمع حَزَنا}[ التوبة: 92] ،أي ففاضت أعينهم من انفعال البهجة بأن حضروا مشهد تصديق عيسى فيما بَشّر به ،وأن حضروا الرسول الموعود به ففازوا بالفضيلتين .و ( مِن ) في قوله{ من الحقّ} بيانية .أي ممّا عرفوا ،وهو الحقّ الخاصّ .أو تبعيضية ،أي ممّا عرفوه وهو النبي الموعود به الذي خبره من جملة الحقّ الذي جاء به عيسى والنبيئون من قبله .
وجملة{ يقولون} حال ،أي تفيض أعينهم في حال قولهم هذا .وهذا القول يجوز أن يكون علناً ،ويجوز أن يكون في خويّصتهم .
والمراد بالشاهدين الذين شهدوا بعثة الرسل وصدّقوهم .وهذه فضيلة عظيمة لم تحصُل إلاّ في أزمان ابتداء دعوة الرسل ولا تحصل بعد هذه المرّة .وتلك الفضيلة أنّها المبادرة بتصديق الرسُل عند بعثتهم حين يكذبِهم الناس بادىءَ الأمر .كما قال ورقة: يا ليتني أكون جَذعاً إذْ يُخرجك قومك .أي تكذيباً منهم .أو أرادوا فاكتبنا مع الشاهدين الذين أنبأهم عيسى عليه السلام ببعثة الرسول الذي يجيء بعده ،فيكونوا شهادة على مجيئه وشهادة بصدق عيسى .ففي إنجيل متّى عدد24 من قول عيسى « ويقومُ أنبياء كذَبَة كثيرون ويُضِلّون كثيرين ولكن الذي يصبِر إلى المنتهى فهذا يخلص ويفوز ببشارة الملكوت هذه شهادةً لجميع الأمم » .وفي إنجيل يُوحَنَّا عدد15 من قول عيسى « ومتى جاء المُعَزّى روحُ الحقّ الذي من عند الأبِ ينبثقُ فهو يشهدُ لي وتشهدون أنتم أيضاً لأنّكم معي من الابتداء » .وإنّ لِكلمة{ الحقّ} وكلمة{ الشاهِدين} في هذه الآية موقعاً لا تغني فيه غيرهما لأنّهما تشيران إلى ما في بشارة عيسى عليه السلام .