القول في تأويل قوله:وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)
قال أبو جعفر:يقول تعالى ذكره:وإذا سمع هؤلاء الذين قالوا:إِنَّا نَصَارَى= الذين وصفت لك، يا محمد، صفتهم أنك تجدهم أقرب الناس مودة للذين آمنوا= (1) ما أنـزل إليك من الكتاب يُتْلى="ترى أعينهم تفيض من الدمع ".
* * *
و "فيض العين من الدمع "، امتلاؤها منه، ثم سيلانه منها، كفيض النهر من الماء، وفيض الإناء، وذلك سيلانه عن شدة امتلائه، ومنه قول الأعشى:
ففَـاضَتْ دُمُـوعِي, فَظَـلَّ الشُّـئُونُ:
إمَّــا وَكِيفًــا, وَإِمَّــا انْحِــدَارَا (2)
وقوله:"مما عرفوا من الحق "، يقول:فيض دموعهم، لمعرفتهم بأنّ الذي يتلى عليهم من كتاب الله الذي أنـزله إلى رسول الله حقٌّ، كما:-
12325 - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا أسباط بن نصر الهمداني، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السديّ قال:بعث النجاشي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم اثنى عشر رجلا يسألونه ويأتونه بخبره، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فبكوا. وكان منهم سبعة رهبانٍ وخمسة قسيسين (3) = أو:خمسة رهبان، وسبعة قسيسين (4) = فأنـزل الله فيهم:"وإذا سمعوا ما أنـزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع "، إلى آخر الآية.
12326 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عمر بن علي بن مقدّم قال، سمعت هشام بن عروة يحدث، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير قال:نـزلت في النجاشي وأصحابه:"وإذا سمعوا ما أنـزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع ". (5)
12327 - حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه في قوله:"ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق "، قال:ذلك في النجاشي.
12328 - حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال:كانوا يُرَوْن أن هذه الآية أنـزلت في النجاشي:"وإذا سمعوا ما أنـزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع ".
12329 - حدثنا هناد قال، حدثنا يونس بن بكير قال، قال ابن إسحاق:سألت الزهري عن الآيات:ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْـزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِالآية، وقوله:وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا[سورة الفرقان:63]. قال:ما زلت أسمع علماءنا يقولون:نـزلت في النجاشي وأصحابه. (6)
* * *
وأما قوله:"يقولون "، فإنه لو كان بلفظ اسم، كان نصبًا على الحال، لأن معنى الكلام:وإذا سمعوا ما أنـزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق، قائلين:"ربنا آمنا ".
* * *
ويعني بقوله تعالى ذكره:"يقولون ربنا آمنا "، أنهم يقولون:يا ربنا، صدَّقنا لما سمعنا ما أنـزلته إلى نبيك محمد صلى الله عليه وسلم من كتابك، وأقررنا به أنه من عندك، وأنه الحق لا شك فيه.
* * *
وأما قوله:"فاكتبنا مع الشاهدين "، فإنه روي عن ابن عباس وغيره في تأويله، ما:-
12330 - حدثنا به هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي وابن نمير= جميعًا، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"اكتبنا مع
الشاهدين "، قال:أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
12331 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"فاكتبنا مع الشاهدين "، مع أمّة محمد صلى الله عليه وسلم.
12332 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فاكتبنا مع الشاهدين "، يعنون بـ"الشاهدين "، محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمَّته.
12333 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"فاكتبنا مع الشاهدين "، قال:محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، إنهم شهدوا أنه قد بلَّغ، وشهدوا أن الرسل قد بلغت.
12334 - حدثنا الربيع قال، حدثنا أسد بن موسى قال، حدثنا يحيى بن زكريا قال، حدثني إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، مثل حديث الحارث بن عبد العزيز= غير أنه قال:وشهدوا للرسل أنهم قد بلَّغوا. (7)
* * *
قال أبو جعفر:فكأنّ متأوِّل هذا التأويل، قصد بتأويله هذا إلى معنى قول الله تعالى ذكره:وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا[سورة البقرة:143]. فذهب ابن عباس إلى أن "الشاهدين "، هم "الشهداء "في قوله:لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. (8)
* * *
وإذا كان التأويل ذلك، كان معنى الكلام:"يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين "، الذين يشهدون لأنبيائك يوم القيامة، أنهم قد بلغوا أممهم رسالاتك.
* * *
ولو قال قائل:معنى ذلك:"فاكتبنا مع الشاهدين "، الذين يشهدون أن ما أنـزلته إلى رسولك من الكتب حق= كان صوابًا. لأن ذلك خاتمة قوله:"وإذا سمعوا ما أنـزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين "، وذلك صفة من الله تعالى ذكره لهم بإيمانهم لما سمعوا من كتاب الله، فتكون مسألتهم أيضا اللهَ أن يجعلهم ممن صحَّت عنده &; 10-511 &; شهادتهم بذلك، ويُلْحقهم في الثوابِ والجزاء منازلَهُم.
ومعنى "الكتاب "في هذا الموضع:الجَعْل. (9)
* * *
يقول:فاجعلنا مع الشاهدين، وأثبتنا معهم في عِدَادهم.
---------------------
الهوامش:
(1) سياق الكلام:"إذا سمع هؤلاء... ما أنزل إليك من الكتاب يتلى"، وما بين الفعل ومفعوله فصل طويل.
(2) ديوانه:35. من قصيدته في قيس بن معد يكرب الكندي ، وقبل البيت ، وهو أولها:
أَأَزْمَعْــتَ مِــنْ آلِ لَيْـلَى ابْتِكَـارَا
وَشَـطَّتْ عَـلَى ذِي هَـوًى أن تُـزَارَا
وَبَــانَتْ بِهَــا غَرَبَــاتُ النَّــوَى
وَبُــدِّلْتُ شَــوْقًا بِهَــا وَادِّكَــارَا
فَفَـــاضَتْ دْمُـــوعِي...........
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
كَمَــا أَسْــلَمَ السِّـلْكُ مِـنْ نَظْمِـهِ
لآلِـــئَ مُنْحَـــدِرَاتٍ صِغَـــارَا
وكان البيت في المخطوطة والمطبوعة:"ففاضت دموعي فطل الشئون داما حدارًا"، وهو خطأ محض."والشئون"جمع"شأن"، وهو مجرى الدمع إلى العين ، وهي عروقها. ورواية الديوان:"كفيض الغروب"، و"الغروب"جمع"غرب"(بفتح فسكون) ، وهو الدلو الكبير الذي يستقى به على السانية. وقوله:"فظل"بالظاء المعجمة ، لا بالطاء. وقد أفسد وأخطأ من جعله بالطاء المهملة ، وشرحه على ذلك. وهو غث جدًا. و"الوكيف":أن يسيل الدمع قليلا قليلا ، إنما يقطر قطرًا."وكف الدمع يكف وكفًا ووكيفًا". وأما "انحدار الدمع"، فهو سيلانه متتابعا ، كما ينصب الماء من حدور.
(3) في المطبوعة:"وخمسة قسيسون"، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب محض.
(4) في المخطوطة:"أو سبعة"دون ذكر"قسيسين"، ولكنها زيادة لا غنى عنها. وصوابها أيضا"وسبعة"بالواو.
(5) الأثر:12326-"عمر بن علي بن مقدم"، هو:"عمر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي". ثقة ، ولكنه كان يدلس. قال ابن سعد:"كان ثقة ، وكان يدلس تدليسًا شديدا ، يقول:سمعت ، وحدثنا ، ثم يسكت فيقول:هشام بن عروة ، والأعمش. وقال:كان رجلا صالحًا ، ولم يكونوا ينقمون عليه غير التدليس ، وأما غير ذلك فلا ، ولم أكن أقبل منه حتى يقول حدثنا". مترجم في التهذيب.
(6) الأثر:12329- سيرة ابن هشام 2:33 ، ولكن ليس فيه ذكر آية سورة الفرقان التي ذكرها أبو جعفر في هذه الرواية عن ابن إسحق. ثم إن أبا جعفر لم يذكر هذا الخبر في تفسير الآية من سورة الفرقان 19:21 ، 22 (بولاق) ، ولا أشار إلى أنها نزلت في أحد ، لا النساشي وأصحابه ولا غيرهم.
(7) الآثار:12330- 12334- رواه الحاكم في المستدرك 2:313 ، من طريق يحيى بن آدم عن إسرائيل ، بمثله ، ثم قال:"هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"ووافقه الذهبي. وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7:18 ، وقال:"رواه الطبراني عن شيخه عبد الله بن أبي مريم ، وهو ضعيف"، ولكن هذه أسانيد صحاح ، رواها الطبري وغيره.
(8) انظر ما سلف من تفسير آية سورة البقرة 3:141- 155.
(9) انظر تفسير"الكتاب"فيما سلف من فهارس اللغة ، (كتب).